العفو
كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...
العربية
المؤلف | أحمد عبدالرحمن الزومان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
من حكمة الله أن قدر الصراع بين الحق والباطل بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان إلى قيام الساعة وحين قدر ذلك لم يترك أولياءه هملاً من غير أن يبين لهم ما يسلكونه في حال الرخاء وفي حال الشدة في حال قوة الحق وفي حال ضعفه بل بين لهم ما يكفل لهم النصر و البقاء فمن ذلك أن شرع لأوليائه الصبر وكظم الغيظ وتحمل الإساءة في حال ضعفهم ففي مكة في بداية الدعوة وكانت ضعيفة يتعرض المسلمون لصنوف من الأذى على أيدي كفار مكة ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.
عباد الله: من حكمة الله أن قدر الصراع بين الحق والباطل بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان إلى قيام الساعة وحين قدر ذلك لم يترك أولياءه هملاً من غير أن يبين لهم ما يسلكونه في حال الرخاء وفي حال الشدة في حال قوة الحق وفي حال ضعفه بل بين لهم ما يكفل لهم النصر و البقاء فمن ذلك أن شرع لأوليائه الصبر وكظم الغيظ وتحمل الإساءة في حال ضعفهم ففي مكة في بداية الدعوة وكانت ضعيفة يتعرض المسلمون لصنوف من الأذى على أيدي كفار مكة و مع ذلك يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالصبر وضبط النفس وعدم الاستعجال فعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة قلنا له ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أوعصب وما يصده ذلك عن دينه والله لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأمرَ حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون" رواه البخاري.
فالطريق شاق وينبغي أن تتهيء النفوس لذلك ومن ثم يأتي ظهور الحق وزهوق الباطل. ما أحوج بعض من يعمل لخدمة هذا الدين إلى العمل بهذا التوجيه النبوي وتطبيقه على المرحلة التي يعيشونها.
حتى حينما يصل الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم يبقى ضعفاء الصحابة ممن ليس لهم من يحميهم ممتثلين الأمر وقد كفوا أيديهم حتى يفوتوا الفرصة على من يبحث عن مبرر لاستئصالهم فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس إذ قال بعضهم لبعض أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد فانبعث أشقى القوم فجاء به فنظر حتى سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه يقول ابن مسعود رضي الله عنه: وأنا أنظر لا أغني شيئاً لو كان لي منعة. قال فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه حتى جاءته فاطمة رضي الله عنها فطرحت عن ظهره فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ثم قال اللهم عليك بقريش ثلاث مرات فشق عليهم إذ دعا عليهم قال وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة ثم سمى اللهم عليك بأبي جهل وعليك بعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعد السابع فلم يحفظ قال ابن مسعود رضي الله عنه: فوالذي نفسي بيده لقد رأيت الذين عد رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب قليب بدر" رواه البخاري ومسلم.
فالمفسدة: وهي وضع السلى قد حصلت ولم يبق إلا طرحه فلم يطرحه ابن مسعود رضي الله عنه؛ فمفسدة طرحه أعظم من تركه فتركه لأن ابن مسعود هذلي حليف وكان حلفاؤه إذ ذاك كفاراً ثم أزالت المفسدة فاطمة رضي الله عنها والعرب تأنف من الاعتداء على النساء
ما أحوجنا إلى ضبط النفس وعدم الاستجابة للاستفزازات التي تصدر ممن لا يريد بنا و لا ببلدنا خيراَ.
إخوتي: لنتعبد الله في حال الرخا بما يناسب هذه المرحلة من الأقوال و الأفعال و في حال الشدة بما يناسب هذه المرحلة من الأقوال والأفعال فكل قول أوعمل لا بد أن ينظر إلى ما يؤول إليه والنظر في مصالحه و مفاسده إن وجدت ومن ثم يكون الترجيح في الفعل أوالكف فالعواطف الجياشة لوحدها ليست كافية في جلب الخير أودفع الشر كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: "كم من مريد للخير لن يصيبه" رواه الدارمي بإسناد حسن إن شاء الله.
فلا بد من النظر في المصالح و المفاسد في العمل و هذه يقدرها العلماء العاملون فهم المرجع بعد الله في الرخاء و الشدة فليكن حماس الشباب مضبوطاً برأى من بلغ أشده من أهل العلم و العمل. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية حينما هجم التتار على المسلمين: "زوال عقل الكافر خير له وللمسلمين إما له فلأنه لا يصده عن ذكر الله وعن الصلاة بل يصده عن الكفر والفسق وإما للمسلمين فلأن السكر يوقع بينهم العداوة والبغضاء فيكون ذلك خيراً للمؤمنين وليس هذا إباحة للخمر والسكر ولكنه دفع لشر الشرين بأدناهما ولهذا كنت آمر أصحابنا أن لا يمنعوا الخمر عن أعداء المسلمين من التتار … ونحوهم وأقول إذا شربوا لم يصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة بل عن الكفر والفساد في الأرض ثم أنه يوقع بينهم العداوة والبغضاء وذلك مصلحة للمسلمين فصحوهم شر من سكرهم فلا خير في إعانتهم على الصحو بل قد يستحب أو يجب دفع شر هؤلاء بما يمكن من سكر وغيره". أ هـ .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين الذي لا يتخلف وعده ولا يخذل مطيعه والصلاة و السلام على من هدى إلى الصراط المستقيم والدين القويم فمن زاغ عنه واتبع غير هديه هلك. وبعد:
مع اشتداد الخطب وهيجان الباطل يبقى الاعتقاد الجازم بأن الله ناصر دينه ومعز أوليائه هو الحادي للصبر والثبات وعلى قدر قوة الإيمان على قدر الثبات على الحق فحين الكربِ والشدة يظهر أثر ذلك الاعتقاد على التصرفات فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من مكة طريداً متخفياً ويدركه سراقه بن مالك رضي الله عنه فيعده بسواري كسرى إنها الثقة بوعد الله.
وفي غزوة الأحزاب حين تكالب على المسلمين العرب واليهود دب في القلوب المريضة اليأس واليقين بالهزيمة (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) [الأحزاب:12]أما النفوس المؤمنة فما يزيدها البلاء إلا صبراً و ثباتاً وتسليماً لقضائه وقدره (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب:22] فالنفوس المؤمنة بحسن ظنها بربها تعلم أنها ليس بها هوان على ربها وأنها ليست أغير منه على دينه وشرعه فتعمل ما تستطيعه في الرخاء و الشدة.
إخوتي: حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يدالوا مرة ويدال عليهم مرة أخرى لكن تكون لهم العاقبة فدين الله و شرعه قد تكفل الله بحفظه و نصرته. فلو كان التمكين و الظهور دائما لأهل الحق لدخل معهم غيرهم ولم يتميز الصادق من الكاذب فلم يحصل المقصود من البعثة والرسالة فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق وما جاؤوا به ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة. وهذا مشاهد في واقعنا ففي الفتن ننكر وجوهنا ألفناها ونرى و نسمع منها ما لم نتوقعه.
ومن حكم إدالة الباطل على الحق استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء فيما يحبون وما يكرهون فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقا وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ.
ومن حكم إدالة الباطل على الحق أنه مطردة للفتور و الإخلاد للراحة عن بعض من يعمل لخدمة هذا الدين ففي حال قوة الحق يشعر بعض من يحملون ميراث النبوة بعدم الحاجة إليهم و أن غيرهم كفاهم فينشغلون في أمور دنياهم أو في الأمور المباحة فإذا زمجر الباطل و أطل أهله برؤوسهم عاد هؤلاء للمدافعة.
ومن حكم إدالة الباطل على الحق تبصر كثير من المسلمين لما يحاك لهم ويدركون أنهم مستهدفون في دينهم وأعراضهم فيتوبون إلى الله و يقومون بما أفترضه الله عليهم في أنفسهم ومن تحت أيديهم.
و لله حكم لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) [التين:8]. بلى وربي.
عباد الله: لنحذر من سوء الظن بربنا في مواطن ضعف الحق وإدالة الباطل عليه فهو ظن لا يليق بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا وذاته المبرأة من كل عيب ظن لا يليق بحكمته وتفرده بالربوبية والإلهية ظن لا يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم ولجنده بأنهم هم الغالبون.
إخوتي: ليس من حسن الظن بالله ترك العمل بل هذا عجز . حسن الظن أن يعمل المسلم ما أُمِر به ثم يكل الأمر لربه معتقدا أن الأمر كله لله.