العظيم
كلمة (عظيم) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وتعني اتصاف الشيء...
العربية
المؤلف | ناصر بن مسفر الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أركان الإيمان |
وكأنني بالخليل -عليه السلام- يتهلل وجهه فرحاً، وتذرف عيناه سروراً، ويخفق قلبه إعظاماً، وترتعد فرائصه إجلالاً، وتمتلئ نفسه طمأنينة، وتزداد حياته بصيرة، ويمضي في طريق دعوته آمنا مطمئناً، متكلاً على? ربه العزيز الحكيم، (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، لا يغلبه شيء، ولا يمتنع منه شيء، ولا يعجزه شيء، ما شاء كان بلا ممانع؛ لأنه العظيم القاهر فوق كل شيء، وهو الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدرته، سبحانه! جل شأنه، وعظم سلطانه ..
القصة فن أصيل، وأسلوب جميل، تطرب لها النفس، ويحبها القلب، وتخشع لها الجوارح، ويهفو لها الفؤاد، ويتسلى بها المؤمنون.
وأكثر القصص من نسج الخيال، ودنيا الأوهام، وأودية الخرافة؛ فكيف إذا كانت القصة مع روعة عرضها، وجميل لفظها، واقعة بحق، منقولة بصدق؟ حينها تكون أقوى أثراً، وأصدق خبرا، وأجمل عبراً، وذلك هو ما تميزت به القصص القرآنية، والأخبار النبوية.
أنتقل بكم الآن إلى رحاب الوحي الطاهر، حيث يعرض علينا مشهدا هائلا، وقصة مذهلة تروي شيئا من دلائل العظمة، وأمارات القدرة، وعلامات الألوهية.
هذه قرية كانت هادئة مستكنة، آمنة مطمئنة، تموج بالحياة، وتتوهج بالحركة، بيوت عامرة، وسعادة غامرة، حدائق غناء، وبساتين خضراء، أنهار جارية، وقطوف دانية، تنام في أحضان النعيم، وتصبح في أفنان السرور.
وإذا بملك ظالم، وزعيم جائر، وقائد متهتك، يتقدم جيشا عرمرما كأنه السيل المائج، أو البحر الهائج، فيعيث في المدينة فساداً؛ قتّل أهلها، ومزق سكانها، وهدم قصورها، ودمر دورها، وانتشل البسمة من وجوه الأطفال، وخطف الفرحة من قلوب النساء والرجال، وجعل عالي القرية سافلها، ثم تولى وقد تركها قاعا صفصفا، تنعق الغربان على حيطانها، وتتغذى الديدان على سكانها.
وإذا برجل معه قليل من التمر، وشيء من التين، وشراب من العصير، ممتطيا ظهر حماره؛ فحينما رأى هذا المنظر المزري، والمشهد المبكي، والقرية المبادة المسواة بالأرض، الخاوية على عروشها، وقف وِقْفَةَ المتأمل المتوجع الحزين، المستبعِد أن تدب الحياة مرة أخرى إلى هذه القرية، ثم قال: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) [البقرة:259]؟! سؤال المستبعِد المنكِر!.
هنا تتدخل القوة الربانية مباشرة، لتجعل من هذا الرجل وفيه وبه عبرة كبرى، ومعجزة عظمى، وآية مثلى، تنطق بعظمة ملك الملوك، وتبين عن قدرة ذي الجلال والإكرام، فلنستمع الآن إلى ملك الملوك يروي لنا القصة.
يقول تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة:259].
القرآن الكريم في قصصه لا يهتم بالتفصيلات كثيراً، ولا يعرض في قصصه كل جزئية كبيرة أو صغيرة، بل يأتي من القصة باللباب، ويذكر من الحدث خلاصته، ويأتيك من الخبر بجوهره، ومن الأمر بموجزه.
هنا لم يذكر القرآن من هو الرجل الذي مر على القرية، ولم يذكر لنا ما هي القرية، ولم يذكر لنا أسباب موت القرية وخوائها، ولا من كان يسكنها، بل ركز الحديث على الشاهد في القصة، والأصل في الموضوع، وهو بيان القدرة الربانية، والمعجزة الإلهية.
والمشهور أن القرية هي بيت المقدس، وأن الرجل الذي مر عليها وهي محطمة مدمرة هو عزير -عليه السلام- فلما رأى شدة خرابها، وكبير تدميرها، واستحالة عودتها إلى الحياة كما كانت، (قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ)، أماته الله هكذا مباشرة، من غير مشاورة أحد، أو أخذ الأذن من أحد، أو الاستعانة بأحد، فهو مالك الملك الذي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون، وهو الذي يهب الحياة ويقبضها.
ولم يكن هذا الموت إغماءة يسيرة، أو توقفا عابراً لضربات القلب، بل موت لمدة مائة عام! وبعد مضي سبعين سنة مِن وفاته كانت القرية قد عمرت، والمدينة قد اكتملت، وبنيت قصورها، وشيدت مبانيها، وعاد إليها السكان، وتنامى بها البشر، أقيمت بساتينها، وحفرت آبارها، وجرت أنهارها، وغردت أطيارها، وكأنها لم تعرف الدمار، ولم يمض عليها البوار!.
وبعد انتهاء المدة المحددة للموت، بعثه الله تعالى، قال -عز وجل-: (كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، قال هذا لأنه لم يجد في جسمه تغيراً، ولا في شكله غرابة، فهو هو كما نام، وقد مات أول النهار ثم بعثه الله آخر النهار، فلما رأى الشمس باقية موشكة على الغروب ظن أنها شمس اليوم الذي مات فيه، فقال له الله تعالى بواسطة الملَك: (بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ)، لقد لبثت مائة عام، ولم يتغير فيه شيء، وهو كما هو، لا تغير العصير، ولا حمض التين، ولا أنتن العنب!.
ولكن هنالك مفاجأة عظيمة، وبيِّنة واضحة، وحُجة جلية، أُعِدَّتْ لعُزير ليتأكد من صحة الخبر، وليعلم صدق النبأ: حماره الذي كان معه! نظر فإذا هو قد تفرقت عظامه، وتبددت أجزاؤه، وتناثرت حوله يميناً ويساراً، وأوشكت أن تكون تراباً، فقال تعالى: (وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ)، انظر كيف كان، ثم انظر ماذا سيحدث له الآن، تأمل، شاهد، انتبه! (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً)،
عظة للمعتبرين، ودليلا على المعاد، وبرهانا على البعث.
فبعث الله ريحاً فإذا بها تجمع عظام الحمار وأجزاءه، ثم تركِّبها كما كانت؛ فإذا به هيكل مركب من عظام لا لحم عليها، وكأنك بعزير يكاد يهبط قلبه من بين جنبيه من هول ما يرى من العظمة في هذا المشهد، والهول لذلك المنظر!.
ثم ينادى مرة أخرى بأن يتأمل ويمعن النظر، (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا) بعد أن ركبت العظام، وأصبح الحمار هيكلاً عظمياً لا لحم عليه ولا عصب ولا دم، إذا ببقية المشهد يكتمل، والرجل يتابع المنظر وفؤاده يخفق، وقلبه يرجف، وعيناه تكادان تنفران من مكانهما، إذا باللحم بدأ يكسو العظام، وإذا بالعصب ينمو، والعروق تخلق، والجلد ينتشر يكسو ذلك الجسم ويغلفه، وإذا بالروح تُنفخ في الحمار، فينهق ويستعيد حياته وكأن شيئا لم يكن!.
كل هذه المشاهد الهائلة، والمناظر العظيمة كانت في لحظات يسيرة، وذلك كله على مرأى ومسمع من عزير، فلم يجد عزير بعد هذه البينة الجليلة والمعجزة القوية إلا أن يطأطئ رأسه في هدوء المخبت، وإذعان المؤمن، واعتراف الموحِّد، قائلاً: (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)! أعلم هذا يقينا، وأتمثله دينا جازما بأن الله -جل جلاله- على كل شيء قدير، فليس فيما رأيت غرابة, فهو من الله العلي القدير على كل شيء.
نعم، ليس ذلك أمراً مستحيلاً, ولا شيئاً مستبعداً على الله جل وعلا-، (وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا) [مريم:66-67]، فهو مَن أوجد من عدم، ومن خلق المخلوقات جميعاً، ومن بث الحياة والروح في كل كائن حي؛ وهو الذي يفني الملوك، ويزيل الدول، ويدمر السلاطين، ويتابع القرون؛ وهو الحي القيوم الذي لا يموت.
سُبقت هذه الآية بآية أخرى تحكي قصة تاريخية، ومناظرة دينية، قامت بين إبراهيم -عليه السلام- وبين النمرود، وجاء فيها الحديث عن قدرة الله -عز وجل-، وعن الإحياء والإماتة: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [البقرة:258].
فجاءت هذه الآية التي تؤكد هذا المعنى العميق، وتغرس في النفوس هذه القضية العقدية الكبرى، وهي الإيمان بأن الله -تعالى- هو الذي يحي ويميت، ويُبدئ ويعيد، وهو الحي الذي لا يموت.
ثم يتبعها -جل وعلا- بقصة أخرى لا تقل عنها مكانة، ولا تضعف شأنا، إنها قصة أيضا لأبي الأنبياء، وإمام الحنفاء، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة:260].
أبو الأنبياء لم يكن في قلبه مثقال ذرة من شك في قدرة الله تعالى، كيف وهو الذي بذل جهده وعمره في الدعوة إلى التوحيد والإيمان بالخالق؟ كيف وهو الذي جعل الله النار بردا وسلاما عليه؟ كيف وهو الذي أفحم النمرود، وقال له في يقين وثبات: ربي الذي يحيي ويميت؟! ولكنه التطلع والتشوُّق والتشوُّف من الأواه الحليم المؤمن الخاشع العابد المتشوق لرؤية أسرار الصنعة الإلهية، والقدرة الربانية.
إن هذا الحبيب القريب من ربه لم يكن يبحث عن برهان أو دليل ليقوي إيمانه، أو يؤكد ثقته بقدرة ربه، ولكنه الشوق الروحي إلى رؤية سر من أسرار العظمة الإلهية، وهو الإحياء من موات، والإيجاد من عدم.
وقد استجاب الرب الكريم العظيم لهذا التشوق من إبراهيم الذي أراد أن يطمئن قلبه، ويأنس فؤاده، ويسلو خاطره، بمشهد من مشاهد الإبداع والقدرة الربانية، ولذلك لم يقل إبراهيم: رب أثبت لي أنك تحيي الموتى. بل قال: أرِني كيف تحيي الموتى. أريد أن أظفر بمشهد من تلك المشاهد، فأمره الله تعالى أن يأخذ أربعة من الطير فيضمهن إليه، ثم يذبحهن ويقطعهن ويخلطهن ببعضهن، ثم يجعل على كل جبل منهن جزءا.
فأخذ إبراهيم طاووسا وديكا وغرابا وحمامة، ووزعهن على سبعة من الجبال بعد أن نتف ريشهن، وقطعهن وذبحهن ومزقهن، وخلط بعضهن ببعض، ثم أمسك رؤوسهن في يده حتى يكون الأمر أثبت وأقوى، ثم عاد إبراهيم إلى موقعه فناداهن إليه: تعالين! فإذا بالريش يطير إلى الريش، والعظم يبحث عن العظم، والجناح يلتئم مع الجناح، والدم يسير إلى الدم، واللحم يجتمع باللحم، وإذا بأجزاء كل طائر منها تلتئم مع بعضها البعض، حتى قام كل طائر منها على حدة، واكتملت مثلما كانت إلا رؤوسها.
فأقبلت سعيا إلى إبراهيم، وجعل كل طائر يجيء إلى إبراهيم فيأخذ رأسه الذي في يده، وإذا قدم له إبراهيم رأسا غير رأسه رفضه وأباه، حتى أخذت الأربعة رؤوسها، وعادت إليها أرواحها، ومضت في سبيلها!.
وكأنني بالخليل -عليه السلام- يتهلل وجهه فرحاً، وتذرف عيناه سروراً، ويخفق قلبه إعظاماً، وترتعد فرائصه إجلالاً، وتمتلئ نفسه طمأنينة، وتزداد حياته بصيرة، ويمضي في طريق دعوته آمنا مطمئناً، متكلاً على ربه العزيز الحكيم، (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، لا يغلبه شيء، ولا يمتنع منه شيء، ولا يعجزه شيء، ما شاء كان بلا ممانع؛ لأنه العظيم القاهر فوق كل شيء، وهو الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدرته، سبحانه! جل شأنه، وعظم سلطانه، ولا إله غيره، ولا رب سواه.
قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ *وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس:77-83].