المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
يا إخوة، نحن لا نقدِّر قيمة الوقت، ولا ضرورةَ استغلالِه فيما ينفع دنيا وآخرة، أمة: "اقرأ" أصبحت لا تقرأ! أمة العلم والإنتاج نراها أقل الأمم عناية بالعلم والإنتاج، وأكثرها استهلاكاً! الكُلُّ حولها يُنْتِجُ وهي تستهلك ولا تكاد تنتج شيئاً، وأصبح العلم فيها مظهراً شكليَّاً احتفالياً، عبارة عن جوائزَ ومهرجانات! أمة الجد والحزم أصبح واحدٌ من أعلى اهتماماتها ماركةَ الجوَّال الجديد! وكُلٌّ تصبو نفسُه إلى السوق من أجل رؤيةِ الجوال الجديد!
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
تأملت في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما استعاذ من الكسل، قال: "اللهم إني أعوذ بك من الكسل والعجز"، وتأملت في مداومته على الاستعاذة من الكسل كل يوم وليلة في أذكار المساء والصباح، إذ كان يقول إذا أصبح: "أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم إني أعوذ بك من الكسل، وعذاب القبر".
ويقول إذا أمسى: "أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ربي أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها، ربِّ أعوذ بك من الكسل، ومن سوء الكبر".
بل كان ممن نقل هديه -صلى الله عليه وسلم- من الصحابة، ومنهم أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- كانوا يقولون: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثيراً ما يدعو بهؤلاء الكلمات.
تأملت في تكراره لهذا الدعاء ومداومته عليه، وقلت في نفسي: حَرِيٌّ به أن يكون -صلى الله عليه وسلم- أبعد الناس عن الكسل، وهل يمكن أن يقوم رجل كالنبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى الله في بيئة مشركة عنيدة شرسة، ويجتهد ويجاهد ثلاثاً وعشرين سنة، هل يمكن أن يقوم من بتلك المهمة العظيمة وهو يحمل بين جنبيه ذرة من كسل؟! حاشاه! ثم حاشاه!.
فمنذ أن أيقظه الوحي بقوله: (قُمْ فَأَنْذِرْ) [المدثر:2] لم يقعد -صلى الله عليه وسلم- حتى أكمل الدين، وإنما يدعو بذلك خشية تفشي هذا الداء المخيف في أمته، فهو يعلمنا -صلى الله عليه وسلم- أهمية الاستعاذة منه، لأن الكسل قرين الفشل، والفشل لا يليق بأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقد اختارها لقيادة البشرية: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران:110].
أيها الأخوة: أردت بهذه المقدمة أن أستهل موضوع اليوم، وهو ظاهرة فقدان الروح الفعالة في حياة الناس، هناك طغيان للشخصية الخاملة غير المبالية التي تستثقل التحرك لما فيه مصلحة راجحة، ولا شك أن الكسل عامل مهم في تكوين هذه الشخصية، لكن، ما هي علامات غياب الروح الحيوية النشطة في حياة كثير من الناس؟ هي علامات متنوعة، وحتى يظهر المقصود أذكر عدداً منها على سبيل المثال لا الحصر، وهي أمثلة بسيطة جداً لكنها علامات من هذه العلامات.
إهمال الناس لبعض الأنظمة والعادات الحميدة، بل والعبادات التي في التزامها جلب لكثير من المصالح، وفي مخالفتها فساد وضياع لتلك المصالح؛ فمثلا يخرج بعضهم من المسجد فلا يكلف على نفسه فعل السنة بأن يقدم رجله اليسرى في الخروج، أو يدخل المسجد فلا يحرص على تذكر سنة تقديم الرجل اليمنى، هل يجهل هذه السنة؟ الجواب: لا. طيب، هل هي عبادة ثقيلة؟ الجواب: كلا؛ بل هي أسهل من السهل. طيب، فيها أجر؟ قطعاً نعم. هل هو في حاجة إلى الأجر؟ الجواب: بلا شك هو في أمس الحاجة.
إذن، ما الذي يجعله لا يتفاعل ولا يهتم؟ ما الذي يجعله يهمل ويتكاسل ويعجز عن حسنة بارزة فيقدم اليسرى مكان اليمنى والعكس؟ يعكس الأمر، فما الذي يجعله لا يبالي؟ الله أعلم! إنه سلوك عجيب، لكنه بلا شك مؤشر على شخصية كسولة لا تبالي.
ومن العلامات أيضاً رمي المخلفات من السيارة إلى الشارع، أو ترك المخلفات في المنتزهات، فلا يكلف نفسه أن يستخرج كيساً صغيراً من السيارة لهذا الغرض، أو إذا خرج مع أهله في نزهه أن يتحامل على نفسه فيتجه إلى برميل النفايات في المنتزه ليرمي بمخلفاته، لا، لا يمكن! يعني كسل وإهمال وسوء أدب، وأيضا فوات للأجر؛ لأنه يعلم أن إماطة الأذى من الإيمان، فلم يكتف بترك إماطة الأذى، بل هو الذي وضع الأذى بنفسه ثم رحل وتركه!.
ومن العلامات البارزة للنفسية الخاملة إهمال تشغيل إشارة الانعطاف حين الانعطاف بالسيارة يمينا أو شمالا، وفي هذا الإهمال من المخاطر واحتمال وقوع الحوادث الشيء الكثير، ومع ذلك تحس أن هذه الأداة تكاد تكون ملغاة في أذهان الكثير، وجودها في السيارة كعدمها، يعني قد يستثقل بعضهم ربط حزام الأمان لشعوره بالضيق أو ما شابه ذلك، قد نفهم هذا، لكن الإشارة، ما المشقة في حركة يد قصيرة خفيفة تفتح الإشارة عند الانعطاف؟ ما المشقة في ذلك؟ إهمال وكسل ولا شعور بالمسؤولية ولا أخلاق ولا مراعاة لمشاعر الناس ولا لسلامتهم. شيء عجيب!.
ومن علامات فقدان الروح الفعالة انعدام روح المشاركة الاجتماعية، يعني مثلا يقيم مركز الحي مناسبة اجتماعية معايدة: حفل تواصل وتعارف، محاضرة اجتماعية أسرية، فتفاجأ في حي يتجاوز عدد الرجال فيه خمسة عشر ألفاً أو عشرين ألفاً أن عدد الحضور عشرة رجال فقط! أو أكثر من ذلك بقليل! يعني الأربع عشر ألف وتسعمائة وتسعين رجلاً كلهم مشغولون حتى في تلك الدقائق المعدودة التي يحتويها النشاط والتي لا تكرر إلا كل أسبوعين أو ثلاثة أسابيع مرة، والمعايدات مرتان في السنة.
دقائق معدودة فيها فائدة ومجانية، ويكسب المشارك فيها أجراً، أجر الحضور والمساندة والتعاون على البر، وأجر نصرة أعمال الخير، وأجر الصلة وحسن الجوار، لكنه مع ذلك يستثقل الحضور؛ بل لا يفكر في الحضور إطلاقاً، حتى إن القائمين على تلك المراكز من المحتسبين أحيانا يخجلون من دعوة المحاضر خشية خذلان أهل الحي مركز وظيفته.
أنا لا أعمم أيها الأخوة، فلا يخلو مجتمع من أناس يعُون مسؤولياتهم، ويرتِّبون أولياتهم ترتيباً إيمانياً لا تعتريه سلبية ولا كسل، ولكن، لو لم يكن هذا الأمر ظاهرة واضحة لما سقت حديث اليوم، أقول: هذه التربية الاجتماعية التي نجدها في ذات الحي الذي يقام فيه النشاط ومن أهل الحي ذاته وأفراده سلبية قاتلة أيها الإخوة، تقتل روح الاحتساب، وتقتل العمل التطوعي، وتجمِّد الأواصر الاجتماعية؛ إن روحاً سلبيةً خاملةً ثقيلةَ النموِّ لا تليق بأمة كأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ومن علامات فقدان الروح الفعالة اعتياد النقد، هذا هو قصد بعضهم، دائما ينتقد، ليه كذا؟ ليه ما في كذا؟ ليه ما فعلتو كذا؟ فإذا قيل له: تعال نتعاون على تحسين الوضع، تعذر وانسحب، هكذا هو كثير الكلام قليل الأفعال، وكما قيل: لَئِن تضيء شمعة واحدة خير لك من أن تلعن الظلام.
يا إخوة، نحن لا نقدر قيمة الوقت، ولا ضرورة استغلاله فيما ينفع دنيا وآخرة، أمة: "اقرأ" أصبحت لا تقرأ! أمة العلم والإنتاج نراها أقل الأمم عناية بالعلم والإنتاج، وأكثرها استهلاكاً! الكُلُّ حولها يُنْتِجُ وهي تستهلك ولا تكاد تنتج شيئاً، وأصبح العلم فيها مظهراً شكليَّاً احتفالياً، عبارة عن جوائزَ ومهرجانات! أمة الجد والحزم أصبح واحدٌ من أعلى اهتماماتها ماركةَ الجوال الجديد! وكُلٌّ تصبو نفسُه إلى السوق من أجل رؤية الجوال الجديد!.
الحركة والحيوية التي خاض بها المسلمون البحر المتوسط، وجاوزوا بها جبال البريليه الشاهقة في فرنسا غربا، واقتحموا بها الثلوج في قمم الجبال في البلقان وألبانيا، ودمروا فيها الأفيال على رؤوس الفرس المجوس شرقا، وصعدوا جبال هراة في أفغانستان، وفتكوا بها الهند، ووصلوا تخوم الصين، وبنوا بتلك الحيوية حضارة عظيمة أساسها التوحيد والعدل والإحسان، هذه الحيوية نريدها أن تصحو من جديد.
ولا تصفو الأمة حتى يصفو الفرد، فينبغي أن نراجع وأن نصحح؛ لأن ارتقاء الأمة في فاعليتها ونشاطها وإيجابيتها وإقبالها على المشاركة في الخير بإحساسها بقيمة دينها وتراثها، بقدرتها على التصحيح وتجديد العزم على النهوض وطلب المصلحة الشرعية والدنيوية بلا كسل.
بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جيشا استعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: فإِنْ قُتِل زيدٌ أو استشهد فأميركم جعفر، فإن قتل أو استشهد فأميركم عبد الله بن رواحة، فلقوا العدو، فأخذ الراية زيد فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله عليه.
وأتى خبرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فخرج إلى الناس، فحمد الله وأثنى عليه وقال: "إن إخوانكم لقُوا العدو، وإن زيدا أخذ الراية فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية بعده جعفر بن أبي طالب فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله، خالد بن الوليد، ففتح الله عليه..." الحديث صحيح في مجمع الفوائد.
شاهدنا في الحديث مبادرة خالد بن الوليد إلى حمل اللواء بسرعة عندما قتل جميع القادة، هذه المبادرة لأن الضرورة تحتم ذلك، هذه الروح هي الروح التي تحتاج إليها الأمة، روح النشاط والمبادرة الفاعلة، لقد حزن خالد أن يموت على فراشه؛ لأن الحياة في مفهومه همة وحركة نحو المعاني، لا تنقطع حتى لحظة الموت، فكان حزنه أن لا يكون موته في حركة ونشاط على ظهر فرسه أو في ساحة القتال، وإنما موت ساكن ضعيف على ظهر الفراش.
جاء في أسد الغابة ان خالد بن الوليد -رضي الله عنه- قال وهو على فراش الموت: لقد شهدْتُ مئة زحف أو زهاءها، وما في بدَني موضع شبر إلا وفيه ضربةٌ بسيفٍ أو رميةٌ بسهمٍ أو طعنةٌ برُمحٍ، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء!.
كُلّ يومٍ لَكَ احتمالٌ جديدُ | ومَسِيرٌ لِلْمَجْدِ فيه مَقَامُ |
وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارَاً | تَعِبَتْ فِي مُرادِها الأَجْسَامُ |
وَكَذا تَطْلُعُ البُدُورُ عَلَيْنَا | وكَذا تقْلَقُ البُحُور العِظامُ |
أسأل الله أن يُصلح أحوالنا، وأن يحيي الهمة إلى الخير في نفوسنا، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد صح في مسلم عن أنس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس؛ ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قِبَل الصوت فتلقاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- راجعا وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عُرْيٍ، في عنقه السيف، وهو يقول: "لم تراعوا، لم تراعوا".
هذا النشاط والتفاعل القوي، وتلك الحيوية وسرعة المبادرة، سمات في النبي -صلى الله عليه وسلم- جعلته يسبق الناس إلى مصدر الصوت على ظهر فرس عُرْيٍ، ويرجع ليهدئهم قبل أن يصلوا إليه، سرعة ومبادرة وتفاعل، هكذا كان -صلى الله عليه وسلم-.
إن ثقافة النوم والخمول لا نجدها في الإسلام مطلقاً، بل العكس، فكيف تبدل الحال؟ لقد خص النبي -صلى الله عليه وسلم- اسمي: الحارث وهمَّام، خصهما بأنهما أصدق الأسماء، قال: "وأصدقها حارث وهمام"، فالأول بمعنى كاسب، والثاني فعَّال، من هَمَّ وهو صاحب هِمَّة دائمة، لكن لماذا خصهما بالصدق؟ لأن من طبيعة خُلُق الإنسان أنه دائم الكسب ودائم الهمّ، فإذا تميز بذلك أصبح صادقاً تجاه وصفه، فالكسل والخمول إذا خلاف الفطرة.
في صحيح مسلم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار إليها".
أيها الإخوة: هناك صفات سيئة تتطلب المراجعة، فالإهمال والكسل واللامبالاة، وهناك صفات تحتاج منا إلى تعزيز، ومن أهمها الإيجابية، والنشاط، والتفاعل المثمر، والاهتمام بالمصالح الشرعية والاجتماعية وغيرها من المصالح.
أسأل الله أن يأخذ بأيدينا إلى أحسن الأعمال والأقوال.