الوارث
كلمة (الوراث) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَرِثَ يَرِثُ)، وهو من...
العربية
المؤلف | خالد بن سعد الخشلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
لقد أحسن ولي الأمر -وفقه الله- بإنشاء هيئة عليا لمكافحة الفساد، وأمام هذه الهيئة طريق طويل لمواجهة هذا الفساد الإداري ومحاربته؛ حفاظاً على أمن المجتمع، واستقراره الاجتماعي، ومكتسباته، ومُدَّخراته؛ وأعظم ما يعين على تحقيق هذا الهدف تعميق معنى الأمانة ومنزلتها وأهميتها في النفوس، وهي الأمر الذي اعتنت به الشريعة عناية فائقة ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فيا عباد الله! حقِّقوا -رحمكم الله- وصية الله لكم بتقواه؛ فنعم الوصية من الرب الرحيم الكريم العليم، الذي لا تنفعه طاعة المطيع، ولا تضره معصية العاصي، فما وصّاه سبحانه العباد بتقواه لا ليستكثر بهم من قلة، ولا ليأنس بهم من وحشة، وإنما وصاهم سبحانه بتقواه لأن في ذلك سعادتهم الأبدية، وصلاحهم الحقيقي؛ فوالله! ما اطْمَأنَّتْ قلوب العباد إلا بالتقوى، ولا زكت نفوسهم إلا بالتقوى، ولا انشرحت صدورهم إلا بالتقوى، بل والله ما طابت الحياة والدنيا كلها -ولن تطيب- إلا بتقوى الله -سبحانه وتعالى-.
ألا فاتقوا الله -عباد الله- اتقوه في أقوالكم، اتقوه في أفعالكم، اتقوه في باطنكم وظاهركم، اتقوه في علانيتكم وسركم، اتقوه في أحوالكم كلها، وتصرفاتكم كلها، تفلحوا وتسعدوا وتُوَفَّقُوا وتُسَدَّدُوا، (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [يونس:62-64]. جعلني الله وإياكم من أهل تقواه، ومنحنا جميعاً رحمته ورضاه، إنه سميع مجيب.
عباد الله، ليلتان بعد هذه الليلة ويكون نصف شهركم من الليالي قد انصرم، فللّه! ما أسرع مرور الأيام، وتصرُّم الأعمار! وهي -والله!- إن انقضت فإنما ذلك نقص في الأعمار، وتقريب من الموعد المحتوم الذي كتبه الله على بني أدم: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35].
السعيد -أيها الأخوة المؤمنون- مَن استعان بهذه الأيام على لقاء الله، السعيد -أيها الأخوة المؤمنون- من استعان بهذه الأيام على لقاء الله، السعيد الموفق من أحسن البذر والزرع في أيام الدنيا، السعيد -عباد الله- من لم تزده مواسم الخير وأزمنة الفضل والشرف إلا قرباً من مولاه، السعيد -عباد الله- من تزود من دنياه بعمل صالح يكون سببا لرضا مولاه، والفوز بنعيمه وجنته، والنجاة من عذابه وناره، وسيجد كل عامل جزاء عمله يوم القدوم على ربه، فالمؤمنون يجدون جزاء أعمالهم الصالحة عند ربهم، يجدون الرحمة والرضوان، والفوز بالجنان، والتلذذ بالنظر إلى وجه الرحيم الرحمن.
أما الأشقياء المحرومون فلَن يجدوا يوم القدوم على الله إلا الإعراض والصدود والخسران المبين، فلا يكلمهم الله ولا ينظر إليه يوم القيامة ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم.
غدا توفى النفوس ما عملت، ويحصد الزارعون ما زرعوا، إن أحسنوا فلأنفسهم، وإن أساؤوا فبئس ما صنعوا! فهنئا -عباد الله- لمن صام في هذه الأيام عن الحرام، وتاب إلى ربه توبة نصوحا من جميع الآثام، وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه.
فأما فرحة الدنيا فأمر مشاهد محسوس من فرح الصائم بإكمال العبادة والطاعة، وإباحة ما كان محرما عليه قبل الغروب؛ وأما فرحة الآخرة فأمر تعجز الكلمات عن تصويره، ويقصر البيان عن وصفه، لكنه فرح عظيم ليس من أفراح الدنيا في شيء، فاللهمَّ يا حيّ يا قيوم كما منَنْتَ علينا بالإسلام والإيمان، وتفضلت علينا بالصيام والقيام، وأفَضْتَ علينا من خيرات الدنيا ونعيمها ما لا يُعَدُّ ولا يحصى، أقر عيوننا يوم القدوم عليك بجنتك، والنظر إلى وجهك الكريم، والتنعم بكلامك، نحن ووالدينا وأهلينا وذريتنا وسائر أحبابنا وإخواننا، يا خير من دُعِي، ويا أكرم مَن رُجِي.
أيها الإخوة المسلمون، أيها الأخوة المؤمنون: من أعظم الأمراض التي تفتك بالمجتمعات عموماً، وتعطل حركة النماء والازدهار فيها تضييع الأمانة، والتفريط في المسئولية، أو ما يسمى بـ "الفساد الإداري"، هذا الوباء الذي يُعَدُّ أصل المشكلة، والبيئة الخصبة لنشوء أمراض أخرى، فكم تعطَّلَ من مشروع كانت الأمةُ بأمَسِّ الحاجة إليه بسبب الفساد الإداري! وكم تأخَّرَ تنفيذ مشاريع رُصِدَتْ لها الميزانيات الخيالية بسبب الفساد الإداري؛ بل، وإن نُفِّذَتْ هذه المشاريع نُفذت بشكل سيء، ومستوى رديء لا يتناسب مع ضخامة المبالغ والميزانيات التي صرفت عليها.
إننا لو ذهبنا نتحدث عن الفساد الإداري وأشكاله وصوره ومظاهره في المجتمع لطال الحديث، لكنه صار أمراً مشاهداً يُدركه كلُّ أحد، ويتحدث به الصغير والكبير، بل وأسست هيئة عليا لمكافحته، لكن من أعظم صوره وأقبح مظاهره التحايل على الأنظمة، والتلاعب بها، حتى صارت المسافة بين الواقع وكثير من الأنظمة التي صدرت لتنظيم قضية من القضايا صارت المسافة بعيدة جداً، فالنظام في وادٍ والواقع في وادٍ آخر.
وكل مسؤول، أميرا كان أو وزيرا أو مديراً عاما هو مسؤول أمام الله -عز وجل-، ومسئول -ثانيا- أمام ولي الأمر في تطبيق الأنظمة المرئية، وفي تطبيق الأحكام الشرعية.
ثم العبث بالمال العام، والتحايل على سرقته وتبديده، واستغلال المناصب للسطو عليه، حتى صار الثراء غير المشروع مظهراً واضحاً في المجتمع.
ثم تلك المحسوبية في الوظائف والأعمال، وتقريب القريب نسباً أو بلداً أو اقليماً، بِغَضِّ النظَر عن كفاءته وأمانته وصلاحيته للعمل.
وجميع ذلك وغيره أمراض خطيرة، ومشكلات كبيرة، تضيع بسببها الحقوق، وتنتشر الرشاوى والمحسوبيات، وغش لولي الأمر الذي ائتمن ذلك الإنسان على ذلك المنصب أو تلك المسئولية.
لقد أحسن ولي الأمر -وفَّقَه الله- بإنشاء هيئة عليا لمكافحة الفساد، وأمام هذه الهيئة طريق طويل لمواجهة هذا الفساد الإداري ومحاربته؛ حفاظاً على أمن المجتمع، واستقراره الاجتماعي، ومكتسباته، ومُدَّخراته.
وأعظم ما يعين على تحقيق هذا الهدف تعميق معنى الأمانة ومنزلتها وأهميتها في النفوس، وهي الأمر الذي اعتنت به الشريعة عناية فائقة، فقال تعالى مبينا فرضية أداء الأمانة والتحذير من الخيانة فيها: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء:58]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال:27].
وفي الحديث الصحيح "أَدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخُن مَن خانك". بل بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تضييعَ الأمانة من علامات ضعف الإيمان، وأن أداءها على الوجه الأكمل من علامات قوة الإيمان، فعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرا ما يقول: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له".
ولذلك كانت تضيع الأمانة من خصال أهل النفاق، فعن ابي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان "
بل أوضح -صلى الله عليه وسلم- أن تضييع الأمانة علامة على اقتراب الساعة؛ لأنها لا تقوم إلا على شرار الناس، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا ضُيِّعَت الأمانة فانتظر الساعة". قيل: كيف إضاعتها يارسول الله؟ قال: "إذا أُسْنِد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".
إن المسلمين -عباد الله- لو أخذوا بهداية كتاب ربهم، وسنة نبيهم، وعظموا الأمانة في نفوسهم، لصلحت أحوالهم، وزال كثير من المشكلات التي يعانيها المجتمع، فنسأل الله -عز وجل- أن يوفق الجميع لأداء الأمانة على الوجه الأكمل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب:72].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وعليكم بجماعة المسلمين! فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ عنهم شذ في النار.
عباد الله: اتقوا الله في أنفسكم وأهليكم، اتقوا الله فيما وليتم، مهما كانت الولاية صغيرة فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، ألا وإن من أعظم الأمانات أمانة الوظائف بشتى صورها وأشكالها، فتجب تقوى الله فيها، والحرص على أدائها على الوجه الأكمل، والقيام بواجباتها ومسئولياتها.
فعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قلتُ يا رسول الله! ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي وقال: "يا أبا ذر، إنك ضعيف، وأنها أمانة، وإنها يوم القيامة خِزْيٌ وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدي الذي عليه فيها".
وقال -صلى الله عيه وسلم-: "ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة".
ومن أعظم الأمانات أمانة الأموال العامة التي تعود للمسلمين، والتي يجب أن يحافظ عليها الإنسان أشد من أن يحافظ على ماله الخاص، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "مَن عمِل منكم على عمَل فكتم مخيطا فما فوقه، فهو غل يأتي به يوم القيامة".
فيا مَن تحمَّل مسؤولية من مسؤوليات المسلمين من الوظائف والأعمال، لقد استرعاكم ربكم -عز وجل-، ثم ولي الأمر، مسئولياتٍ جساماً، فاتقوا الله فيها وفي رعايتها والقيام بما يرضي الله، ثم بما يرضي ولي الأمر.
وإياكم وتسخيرَ هذه المسئوليات في مصالحَ خاصةٍ، أو منافعَ ذاتيةٍ! واحذروا من التهاون في مقاصد هذه المسئوليات وأهدافها! فلقد ائتمنكم ولي الأمر، ثم المسلمون من بعده، على هذه المسؤوليات لتسخروها في النفع العام، وتحرصوا على إيصال النفع فيها في الصغير والكبير، وتحرصوا على الدقيق والضئيل فيها فيما يعود على المسلمين من مصلحة، وترفقوا بالمسلمين، ارفقوا بهم، واقضوا حاجاتهم، وسارعوا إلى قضائها، واتقوا الله -عز وجل- في كل أمانةٍ اؤتمنتم عليها.
نسأل الله -عز وجل- أن يأخذ بأيدنا جميعا إلى ما يحب ويرضى، نسأله -سبحانه وتعالى- أن يعيننا على أنفسنا.
وصَلُّوا وسلِّموا على رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.