القدوس
كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...
العربية
المؤلف | محمد بن إبراهيم الشعلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة - الحكمة وتعليل أفعال الله |
ولكن ليس الشأن في الكثرة العددية! فقد تكون الكثرة العددية وبالاً على الأمة الإسلامية، وشراً عليها؛ لأن الأولاد كالثمرة التي بانت وظهرت إذا لم تراع بالحفظ والصيانة والمتابعة هلكت؛ فما الفائدة -عباد الله- من أجساد لا قلوب لها، ولا عقول تفقه بها وتعقل؟! ليست المسؤولية مقصورة على الإنجاب وتكثيره، ثم يُهمل النشء ويعرض عنه؛ فلا يراعى بالتربية الإسلامية على العقيدة الصحيحة ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله واسع العطاء، أحمده سبحانه له العظمة والكبرياء.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا أنداد له ولا نظراء، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، إمام الأتقياء، وصاحب الرسالة العصماء، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واستغفروه.
عباد الله: عندما يرتبط الرجل بامرأة الارتباط الشرعي، ويعيشا معاً في بيت واحد، وتحت سقف واحد، ويسيران حياتهما بنظرتهما الخاصة، ويتحمل كل واحد منهما مسؤوليته تجاه الآخر - فإن الأهداف والغايات تكون شغلهما الشاغل؛ بدءً من الإنجاب، ونهاية بوجود الأولاد من بنين وبنات، وهنا تختلف وتتباين الغايات، من أسرة إلى أسرة.
ولا شك أن من مقاصد هذا الارتباط الشرعي: غض البصر، وإحصان الفرج، كما بين ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطيع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء".
ومن مقاصده: تكثير النسل المسلم، ولهذا حث النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته على الزواج بالمرأة الولود والودود، وبين الهدف من هذا وأنه تكثير الأمة؛ ففي سنن أبي داود والنسائي: أن رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أصبت امرأة ذات جمال وحسب، وأنها لا تلد أفأتزوجها؟ قال: "لا" ثم أتاه الثانية، فنهاه، ثم أتاه الثالثة، فنهاه، وقال: "تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة".
وهنا أقف هذه الوقفة عند إنجاب الذرية، وتكثير النسل المسلم.
هل المقصود -عباد الله- إكثار النسل من بنين وبنات والتكاثر بهم فحسب؟ أم المقصود شيء أعلى من ذلك وأجل؟
إن إكثار النسل يكون حسياً، وذلك بكثرة العدد، والتباهي به بين الأمم.
ولا شك أن كثرة النسل من أكبر النعم، ولهذا امتن الله -عز وجل- بكثرة النسل على بني إسرائيل، فقال جل وعلا: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا) [الإسراء: 6].
والكثرة سبب لعزة الأمة وقوتها، وحصول الغلبة والسيطرة من أجل هذا حارب الأعداء النسل -لا أقول في بلادهم-، ولكن في بلاد المسلمين، وزينوا للمسلمين تحديد النسل وتقليله، بل وقطعه عند عدد معين، وخوفوا المسلمين من الفقر والمشاكل إذا كثر العدد وزاد، مع أنهم يحثون أنفسهم ومجتمعهم على الإكثار من النسل، ويرتبون النفقات المالية والعينية لكل أسرة تنجب أكثر؛ لعلمهم أن الكثرة وسيلة للغلبة والسيطرة.
فجدير بالمسلمين أن لا يصغوا لهذه الدعوات المغرضة؛ التي تهدف إلى إضعاف المسلمين، وتقليل عددهم، وأن يعلم المسلمون أن الله -عز وجل- تكفل برزق عباده مهما بلغ عددهم، فقال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [هود: 6].
بل إن كل مولود يولد فقد كتب الله رزقه وأجله؛ كما ثبت ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وشقي أم سعيد" الحديث.
أما لو حصل تنظيم للنسل لا تحديد له؛ لعذر شرعي ولحالة معينة - فهذا لا يمنع منه، والأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى.
ولكن ليس الشأن في الكثرة العددية! فقد تكون الكثرة العددية وبالاً على الأمة الإسلامية، وشراً عليها؛ لأن الأولاد كالثمرة التي بانت وظهرت إذا لم تراع بالحفظ والصيانة والمتابعة هلكت؛ فما الفائدة -عباد الله- من أجساد لا قلوب لها، ولا عقول تفقه بها وتعقل؟!
ليست المسؤولية -عباد الله- مقصورة على الإنجاب وتكثيره، ثم يُهمل النشء، ويعرض عنه؛ فلا يراعى بالتربية الإسلامية على العقيدة الصحيحة والعبادة الواجبة والمعاملة الشرعية والخلق الفاضل، ليست المسؤولية مقصورة على كثرة الإنجاب ثم إهماله وتركه يقاسي عذاب القلب؛ بما يواجه من فتن الشهوات والشبهات التي عصفت بالمجتمعات الإسلامية في هذا الزمان.
إن أعظم المقاصد من إنجاب الأولاد وتكثيرهم: تربيتهم على العقيدة الصحيحة، والعمل الصالح، والخلق الكريم، وإعدادهم؛ لئن يكونوا رجالا صالحين، ونساء صالحات، يواجهون فتن الشهوات بقلوب مؤمنة، ويواجهون فتن الشبهات بعقول نيرة، صافية محصنة بالعقيدة الصحيحة، هذا هو المقصد الكبير والأساسي من الإنجاب، ليس الإهمال والتضييع، وهذا هو الذي دعا إليه كتاب رب العالمين، وسنة سيد المرسلين، فإذا لم يهتم المسلمون بهذا المقصد العظيم، فإن الكثرة ستنقلب قلة، ونعمة الإنجاب ستنقلب نقمة، لما أعجب الصحابة كثرتهم يوم حنين، ماذا كانت النتيجة؟ الهزيمة في أول الأمر، ولما خالف الرماة وصاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمره يوم أُحد، ماذا كانت النتيجة؟
الهزيمة والقتل في بادئ الأمر.
فعلينا -أيها المسلمون- أن نحرص على أولادنا، ونحفظهم من الفتن والمنكرات، ونربيهم على العبادة والطاعة، والخلق الكريم، والأدب الحسن، فكما أننا نحرص عليهم بالغذاء الحسي بالطعام والشراب والكساء والسكن، وبوقايتهم من الأمراض الحسية، وعلاجهم منها؛ فلنحرص عليهم بالغذاء المعنوي بالعقيدة الصحيحة، والخلق الكريم، ووقايتهم من الأمراض المعنوية؛ من الغل والحقد والحسد، والغيبة والنميمة، والغش والخيانة، والكذب، وغيرها، ووقايتهم من الفكر الدخيل، والتربية الخبيثة، والمشاهد الفاتنة، والدعوات المغرضة، وهذا أولى وأولى، وآكد وأكد؛ لأن به حياة قلوبهم ونورها.
الخطبة الثانية:
عباد الله: لتعلموا أنكم إذا لم تحرصوا على أولادكم وتربوهم تربية إسلامية، فإن ضرر فسادهم وانحرافهم لن يقتصر عليكم فحسب، بل سينجر إلى المجتمع الذي أنتم تعيشون فيه.
انظر إلى ما يلاقيه المتجمع من بعض الأولاد الذين حرموا التربية الإسلامية، والتوجيه السليم من آبائهم وأمهاتهم ومعلميهم؛ إزعاج وإفساد، وإيذاء واعتداء، تهاون بكثير من الطاعات، ووقوع في كثير من المعاصي والسيئات، فالضرر عام، والإيذاء شامل، فليست المسألة هينة وسهلة إذا أهمل النشء، وترك بلا تربية ولا توجيه.
فليشعر كل واحد منا بمسؤوليته نحو أولاده، فإنهم إما أن يكونوا أداة هدم وتخريب، وإما أن يكونوا أداة بناء وتعمير.
فالله الله فيهم -عباد الله-.