العلي
كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله بن حميد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - فقه النوازل |
الأمر لا تحصره كلِماتٌ، والموضوعُ لا تحدّه صفَحات، ولكنّه يحتاج إلى وَقفةٍ جادّة ووَقفاتٍ، وبرامجَ مدروسةٍ تتجاوَز ردودَ الأفعال؛ فَمصلحة الدِّين والأمةِ والدّيار بل ومصلحةُ البشريّة جمعاء والإنسانيّة قاطِبة فوق مصالحِ الأفرادِ والهيئاتِ.
أمّا بعد:
فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فاتقوا الله رحمكم الله، فأنفاسُ المرءِ خُطاه إلى أجَلِه، ودقَّاتُ قلبه تعُدّ عليه سُوَيعاتِ عمُره، كيف يأنَس بالدنيا مفارِقُها؟! وكيف يأمَن النار واردُها؟! اليَومُ يهدِم الشهرَ، والشّهر يهدم السنَة، والسّنواتُ تهدِم العمرَ، ومن طَلب المعالي اشتغَل بالعوالي، ومن لازَم الرُّقاد فاتَه المراد، ومن دامَ كسَله خابَ أمَله، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) [فصت:46].
أيّها المسلمون، المسؤوليّة عُظمى، والنّاس كلُّهم في سفينةٍ واحدة، ومن خَرقَها غَرِقَ وأغرَقَ الجميعَ، والتّهاوُن والتساهُل يقود إلى الانفلاتِ والفَوضى، والإحساسُ الجادّ بالمسؤولية وخطورةِ النتائج يحمِل كلَّ عاقل ومسؤول على النّظَر في شؤون أمّته، ينصَح لها، ويسعَى في حِفظ كيانها وحمايةِ بيضَتها والاجتماع علَى كتابِ ربِّها والاعتصامِ بحبلِ الدّين المتين وعروةِ التوحيدِ الوثقى.
أيّها الإخوة في الله، والأمر لا تحصره كلِماتٌ، والموضوعُ لا تحدّه صفَحات، ولكنّه يحتاج إلى وَقفةٍ جادّة ووَقفاتٍ، وبرامجَ مدروسةٍ تتجاوَز ردودَ الأفعال؛ فَمصلحة الدِّين والأمةِ والدّيار بل ومصلحةُ البشريّة جمعاء والإنسانيّة قاطِبة فوق مصالحِ الأفرادِ والهيئاتِ.
وحين تُذكَر المسؤولية وحِفظ الكيان تأتي بلادُ الحرمَين الشريفَين المملَكة العربيّة السعودية خادِمةُ الحرمين وحاضِنَتُهما وراعِيَتُهما قَلبُ المسلمين النابض، تأتي لتُؤكِّد على مسؤوليتها وتبرهِن على رِيادَتها، وها هِيَ مِن منطَلَق مسؤولياتها وموقِعِها الإسلاميّ والدولي توجِّه الدعوةَ لمؤتمرٍ يجمَع رجالاتٍ مِن قادَةِ العالم وساسَتِه ومُفكِّريه؛ ليناقِشَ قضيّةً أقضَّت المضاجعَ، واكتَوَى بنارِها دُولٌ ودِيار، وأُزهِقت فيها أنفسٌ ودمِّرت ممتلكَات، واختَلَط في كثيرٍ من المواقِعِ الحابلُ بالنّابل، واضطرَبَت أحوالُها، واختَلَّ أمنها.
إنها دعوةٌ صدَرت في ظروفٍ تموج بالمتغيِّرات، بل بالأطماعِ والنِّزاعات وإيقادِ الصِّراعات واستغلالِ الخلافات، وغيرُ خافٍ أنّ دَعوتَها هذه قد صدَرت منها وهي أوّلُ من اكتَوَى بنارِ الإرهاب، بل إنَّها مِن أوّلِ المستهدَفين في آثارِه ونتائِجِه، ولقد علِم كلُّ عاقلٍ ومنصِف أنها بحمدِ الله ومِنّته مأرِز الإسلام ومَنبَع الدّعوة وأمانُ الخائفين وعَون المستضعَفين، يدٌ حانِية تداوي الجِراح، وتنطلِق منها أعمالُ الإحسان وأنواعُ البرّ لكلِّ أصقاع الدنيا، هي بفضلِ الله مصدَر الخير، فلما تبيَّن صِحّةُ تديّنِها وصِدقُ فِعالها وثمارُ أعمالها وصلابَة مواقِفها وسلامةُ منهَجها وجَّه إليها أعداؤها سهامَ الإرهاب، يريدون تقويضَ خِيامِها والعَبَث بأمنِها، يريدونها أن تغيِّر أو تبدِّل، وهيهاتَ هيهات بإذنِ الله وعونِه.
ونبرَأ إلى الله أن يُقال ذلك عاطِفةً أو مجامَلةً، عياذًا بالله، حاشا وكلاّ، ولكنّه اليقينُ والتّحقيق والنظرُ في الآثار والسّنَن، فمن يَصِل الرّحمَ ويحمِل الكَلَّ ويُكسِب المعدومَ ويَقري الضيفَ ويعين على نوائبِ الحقّ لا يخزيه الله أبدًا، ومن كثُرت حسناتُه حسُنت بإذن الله عاقِبتُه، وسلَّمَه ربُّه في دنياه وآخرَتِه، وحفظَه في دينِه وأهلِه ودارِه، ولا نزال ولله الحمد نرَى الخيرَ من ربِّنا والبركةَ في أرزاقنا والصّلاحَ في ديارنا، ونحن بإذن الله مطمئنُّون لحسنِ العاقِبَة، بل إنّ ذلك كلَّه هو الذي دعَا إلى التّداعِي والتّنادي لمثل هذا الاجتماعِ، شُعورًا بالمسؤوليّة، وحبًّا في الخير ونَشرِ الأمن والسّلام، وبَيانًا للحقّ، وإزالةً للَّبس، ودَفعًا للشُّبَه.
لماذا هذه الدعوة؟ لأنَّ الأمنَ مطلبٌ عزيز، هو قِوام الحياة الإنسانية وأساسُ الحضارَةِ والمدنيّة، مطلَبُ الأمنِ يسبِق طلَبَ الغِذاء، بِغَير الأمنِ لا يُستَساغ طعام ولا يهنَأ عيش ولا يلذّ نوم ولا يُنعَم براحةٍ.
لماذا هذا التجمُّع؟ لأنّ الإرهابَ ضرَبَ مواقِعَ كثيرةً من العَالَم، فهو عابِرُ قارّات، لا وَطَن له ولا جِنسَ ولا دينَ، فعلى الدّنيَا شعوبًا وحكوماتٍ وهيئات أن تتصدَّى لهذا الشّرِّ الذي يهدِّد استقرارَ الناس وطمأنينةَ الشعوب، تجمّعٌ وتنادٍ ومؤتمر يتجاوَز العلاقاتِ العامّة إلى العَمَل المنظَّم والتنسيق العالميّ العِلميّ والتكاتف الدوليّ الشّعبيّ، في مشاركةٍ فاعِلةٍ مِنَ الخُبراءِ والمختصِّين وأصحابِ القَرار ممن يملِك الملفّات والخبرات.
لماذا هذا التجمّع؟ ولماذا هذَا المؤتمر؟ لأنّ الإرهابَ إزهاقٌ للأرواح وإراقَة للدماء المعصومةِ، مفاسِدُ عظيمة وشرورٌ كثيرة وإفساد في الأرض وترويعٌ للآمنين والمؤمنين ونَقضٌ للعهود وتجاوُز على ولاةِ الأمور، أعمالٌ سيّئة شِرّيرة، تثير الفِتنَ، وتولِّد التحزّب وتفتح أبوابَ الشرّ أمام ألوانٍ من الصراعاتِ وإشاعة للفوضى.
إنَّ مثلَ هذه الإِقدامات الحَمقاء قدَّمت الذرائعَ والمسوِّغات لمزيدٍ من التدخُّل والتسلّط ومزيدٍ من الإِثارات والثّارات على الأهل والدّيار. ألم يدرِك هؤلاء الغلاةُ المتنطِّعون أنه لم يستفِد من هذه الأعمالِ الإرهابيّة إلا الحاقدون والموتورُون، والذين يسرّهم أن يختلِطَ أَمرُ الأمّة ويختلَّ أمنُها ويضربَ بعضها بعضًا؟! ألم يَرَوا أنّ الأمّة قد أصبَحَت بعُلَمَائها ورِجالِها وساسَتِها وقادَتها ودُعاتها بل وشبَابها مادّةً يلوكها ويجترّها الإعلام بوسائِله وقنواتِه؟! ويحَهم ووَيلٌ لهم، هل يريدون جَرَّ الأمّة إلى ويلاتٍ تحلِق الدينَ وتشيع الفوضى؟! يريدون أن تتقطَّع الدوَل ويُشرَّد الناس من ديارهم وتُنتَهك الحرمات؟! يريدون إثارةَ فِتنٍ وقودُها الناس والممتَلَكات والدّيار؟!
أيّها المسلمون، حُجّاجَ بيت الله، وإنّ من نِعَم الله عزّ وجلّ على عبادِه ولطفِه بهم ورَحمتِه أنَّ الإنكارَ عليهم قد تضافَر من أهلِ العِلم مجتمعين ومنفَرِدين، بل لا يوجد أحدٌ من أهلِ العلم في هذا العصر ممّن يُعتَدّ بكلامه وعِلمه إلاّ وأنكر عليهم ورَدَّ عليهم مزاعِمَهم وشُبَهَهم وجرَّم أفعالهم ومَسَالكهم، وكيف يُتَصوَّر أن يستجيزُ عاقلٌ فضلاً عن عالمٍ بشرع الله وحدوده، كيف يستجيز هذه التصرّفات ويسوِّغ هذه الأفعال وقد روَّعوا الآمنِين ونقَضوا العُهود وخفَروا الذّمَم وتجاوَزوا على ولاة الأمور وكفَّروا المسلمين وسعَوا في الأرض فسادًا؟!
والدّلائلُ من كتابِ الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم أكثرُ مِن أن تُحصَر وأشهَر مِن أن تُذكَر، ألم يقُلِ الله عز وجل: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء:93]؟! ولقد عَلِم كلُّ ذِي عِلمٍ مِن أهلِ الإسلام أنَّ قتلَ النّفسِ بغير حقٍّ مِن أكبرِ الكبائر، وهي قرينُ الإشراكِ بالله عياذًا بالله، (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ) [الفرقان:68]، وفي الحديثِ الصّحيح: ((أكبرُ الكبائر الشّركُ بالله وقتلُ النفس))، وعن ابنِ عمَرَ رضي الله عنهما: (إنَّ من ورطاتِ الأمور التي لا مخرَج منها لمن أوقعَ نفسَه فيها سفكَ الدّمِ الحرام بغيرِ حِلِّه) أخرجه البخاري، ويقول الرّسول صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ ذنبٍ عَسَى الله أن يغفِرَه إلاّ الرجل يموتُ مشرِكًا أو يقتل مؤمِنًا متعمّدًا))
ويقول صلى الله عليه وسلم: ((مَن قتَل مؤمنًا فاغتَبَط بقتلِه لم يقبَلْ الله منه صَرفًا ولا عدلاً))، وعند الترمذيّ: ((لو أنَّ أهل السماءِ والأرض اشترَكوا في دمِ مؤمن لأكبَّهم الله في النار))، وعند البخاريّ في صحيحه: ((من قتَل معاهَدًا لم يرَح رائحةَ الجنّة، وإنَّ ريحَها يوجدُ من مسيرةِ أربعين عامًا)).
ولقد أتلَفوا أموالاً وممتلكاتٍ بغيرِ وجهِ حقٍّ، وكأنّه لم يطرُق أسماعَهم حديثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرام، كحرمةِ يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا))، وقولُه صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ المسلمِ على المسلِمِ حرام: دمُه وماله وعرضه)).
وروَّعوا الآمنين، وقد حذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك أشدَّ التحذير، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يحِلّ لمسلمٍ أن يروِّعَ مسلمًا)).
وحمَلوا السلاح على الناسِ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مجرَّدِ الإشارة به، فكيف بالإشهارِ به والقتل والإعانةِ؟! وفي الحديثِ: ((لا يشِر أحدُكم إلى أخيه بالسّلاح؛ فإنّه لا يدرِي لعلّ الشيطانَ ينزِع في يدهِ فيقَع في حفرةٍ من النّار) ، فأيّ وعيدٍ أشدّ من هذا؟! فنعوذ بالله من الضّلال والخذلان.
أيّها المسلمون، وأهلُ الذمّةِ والمعاهَدون والمستَأمَنون محفوظَةٌ حقوقُهم في الإسلام وفي ديارِ المسلمين، دِماؤهم معصُومَة، وأموالهم محتَرمَة، يستوونَ في ذلك مع المسلِمين لعمومِ النصوص وخصوصِها في أهلِ الذّمّة والمعاهَدين، (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ) [الأنعام:151]، (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) [المائدة:32]، (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [الآية المائدة:46] ومَن قتَل نفسًا معاهدًا لم يرَح رائحة الجنّة، وإنّ ريحها يوجَد من مسيرةِ أربعين عامًا.
فلا يصِحّ في دينِ الإسلام إيذاؤُهم ولا التعدِّي عليهم في أنفسِهم ولا أموالِهم ولا ممتلَكَاتهم ولا أهلِهم، وفي السنن الكبرى عن عليٍّ رضي الله عنه: (من كانَت له ذمّتُنا فدَمُه دمُنا) وأهلُ الذّمّة والمعاهَدون والمستَأمَنون ممّن يتعيَّن معامَلَتُهم بالبرِّ والقسط على حدِّ قوله سبحانه: (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة:8].
واستَمِعوا إلى موقِفِ شيخ الإسلام ابن تيميةَ رحمه الله وهو يفاوِضُ في فكِّ الأسرَى، يقول رحمه الله: "لا نرضَى إلا بافتِكاكِ جميعِ الأسرى من اليهودِ والنصارى؛ فهم أهلُ ذمّتِنا، ولا ندَع أسيرًا لا مِن أهلِ الذّمّة ولا من أهلِ الملّة"، مع أنّه رحمه الله كان في حربٍ مع الصليبيِّين.
هذه بعضُ النصوص والأحكام وكلامِ بعضِ المحقّقين من أهل العلم، فهلا اتّقى اللهَ هؤلاء، ناهيك عمّا وقَعُوا فيه من شقِّ عصا الطاعةِ ومفارقة الجماعةِ، فذلك كبيرةٌ من كبائر الذنوب، وفي الحديث الصحيح: ((مَن خرَج من الطاعةِ وفارق الجماعة فمات مَاتَ مِيتةً جاهلية)). فلا حولَ ولا قوّةَ إلا بالله، جرائِمُ لا يقدِم عليها إلاّ من طمِسَت بصيرته وزُيِّن له سوءُ عَمَله فرآه حسنًا.
أيّها المسلمون، إنَّ المخاطِرَ كثيرة، وإن الإحساسَ الصادق بالمسؤولية واستشعارَ المهمّة يستوجِب اليقظةَ في مواجهَة كلِّ فكرٍ ضالّ أو تصرُّفٍ عنيف أو سلوك إرهابي. إنَّ هذا الإفسادَ في الأرض يستهدف الجميع، وتهدِّد نتائجُه وآثاره الجميعَ، يجِب توعيَةُ الناشِئَة وتذكيرُهم وتعليمُهم ليعظِّموا أوامِرَ الله وحرُماتِه ويحذَروا سَخَطه ونواهِيَه. إنّنا بحاجةٍ إلى المواجهة بكلمةِ الحقِّ الصادِعَة والقولِ السديد، ينهَضُ به العالم والمعلِّمُ والواعظ والخطيبُ والمفكِّر والكاتب. إنَّ على العلماءِ والمفكِّرين وأصحابِ الرأيِ والقلَم وهم حرَّاس الدينِ والدّيار والقِيَم والمكتسبات، إنّ عليهم مسؤوليّةً كبرى في توجيهِ الشّباب وتثقيفِهم وتوعيَتِهم وحمايَتِهم من الانسياقِ وراءَ أصحابِ الأفكار الشاذّة والتوجُّهات المنحرِفة وأصحاب الأغراض والأهواءِ، لا بدَّ من حُسنِ التّوظيفِ للمنابِرِ ووسائِل الإعلامِ والنّشر والمناهج، يجِب التوجُّه نحوَ حِفظ الحقوق وبِناء القوّة والسّعي الجادّ إلى جمعِ الكلمة والمحافظة على وَحدَةِ الصّفّ ومعرفةِ فِقهِ الخِلاف وأدَبِ الاختلاف وحُسنِ الدّعوة إلى الله والجِدال بالتي هي أحسنُ والحِوار الهادِف البنّاء. وعلى الآباءِ والأمّهات الاهتمام بأبنائِهم، فلا يُترَكوا لأصحاب الأفكار الهدّامة والمناهج المنحرفة والمسالك المشبوهة، ولا يترَكوا للتّجمُّعات المرِيبَة والرَّحَلات المجهُولَة، فكلُّ ذلك مَراتِعُ أصحابِ التّضليل ومصائِد الذّئاب المفتَرِسة. لا بدّ من توسيعِ دائرة الاتّصالِ والثِّقَة المتَبادَلة بين الناشِئة والعلماء والمربِّين.
ألا فاتَّقوا الله رحمكم الله، وعُوا مسؤوليّاتكم، وانصَحوا لأمّتِكم وأئمَّتِكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة:204، 205].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم وبهدي محمّد صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا لا منتهى لعدَدِه، والشّكر له شكرًا لا يتنَاهى في مدَدِه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له شهادةَ صادقٍ في توحيده مخلِصٍ في معتَقَده، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله، المؤيَّدُ بالمعجِزات والآيات حتى نبَع الماءُ من أصابِع يدِه، صلّى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، عزَّروا نبيَّهم ووقَّروه وآزروه في رخاءِ الأمرِ وشدائده، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد:
أيّها المسلمون، إنّ مسالِكَ الغلوّ وأساليبَ العنف وأعمالَ الإرهاب من تفجيرٍ وتدمير وسطوٍ وسَفكٍ للدماء وخروجٍ على النّظام العامّ لا تهدِم القِيَم الكبيرة، ولا تقوِّض المنجَزات السّامِقَة، لا تحرِّر شعبًا، ولا تفرِض مذهبًا، ولا تنصُر حِزبًا.
إنّ العنفَ والإرهاب لا يمكِن أن يكون قانونًا محترَمًا أو مَسلكًا مقبولاً، فضلاً عن أن يكونَ عقيدةً أو مذهبًا. الغلوّ والعُنف والإرهاب لا يحمل غير التخريبِ والإفساد. العنفُ والإرهابُ لم يفلِح في أيِّ مكانٍ من العالم ولا زمانٍ مِن الدّهر في تحقيقِ أهدافه، بل إنّه يقضِي على أصحابه، ويؤكِّد الطبيعةَ العدوانيّة والروحَ الدّمويّة لتوجُّهات أصحابِه الفكريّة، والمشاعرُ والعقول كلُّها تلتَقِي على استنكارِه ورَفضِه والبراءَةِ منه ومن أصحابِه، ومِن ثَمَّ فإنّه يبقى علامَةَ شذوذٍ ومظهرَ انفرادٍ وانعزاليّة، والمجتمعُ لن يسمَحَ لحفنةٍ من الشّاذِّينَ أن تُمليَ عليه تغييرَ مَسارِه أو التشكيك في مبادئِه ومسلَّماتِه.
إذا تبيَّن هذا ـ أيّها المسلمون ـ فإنَّ على الجميع تقوَى الله والتعاونَ علَى البرّ والتقوى والسعيَ في اجتثاثِ هذا الخطرِ على الدّين والدّنيا والناس والدّيار والتوعيةَ بخطوةِ هذا المسلَكِ والردِيء ومناصَحَة من وقَعَ في هذا الطريقِ المظلِم المهلِك ومَن التَبَست عليه بعضُ الأفكارِ والشّبهات، ومن أصرَّ على باطِلِه أو عُلِم منه التخطيطُ لأعمالٍ إجراميّة وجَب الإبلاغُ عنه كفًّا لشرِّه وحَقنًا للدماء وحِفظًا على الأمّة.
ألا فاتّقوا الله رحمكم الله، واجتمِعوا على الحقّ، (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة:2].
ثمّ صلّوا وسلّموا على نبيّ الرحمة والهدى، فقد أمركم بذلك المولى جل وعلا، فقال قولا كريما: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر والخلق الأكمل، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...