البحث

عبارات مقترحة:

الشكور

كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...

البارئ

(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...

المليك

كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...

الزحف اليهودي لا يوقفه إلا الإسلام

العربية

المؤلف محمد الغزالي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب
عناصر الخطبة
  1. طبيعة المعركة مع اليهود .
  2. تعمية المسلمين عن طبيعة المعركة .
  3. بطلان فكرة \"شعب مختار\" .
  4. انتصار المسلمين لحظة العودة للدين .

اقتباس

إن اليهود عادوا إلى فلسطين، الحقيقة هي أنهم لم يعودوا بقواهم الذاتية قدر ما عادوا لأن المسلمين شحبت وجوههم، وغاضت منابع الإيمان في تربتهم، وانقطع تيار الإيمان الذي يمدهم بالقوة. فلما جاء اليهود وانتصروا لم يكن انتصارهم فخراً لهم بقدر ما كان هذا الانتصار خزياً لنا. إن اليهود في كتابهم الذي يدرسونه الآن –وهو العهد القديم– لا يمثلون شيئاً إطلاقاً مما تشتاق إليه الإنسانية..

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: فإن المناسبات التي تمر بنا في هذه الجمعة وما يليها تفرض علينا أن نتحدث عن بني إسرائيل، والحديث عن بني إسرائيل له مصادر كثيرة، ولكن المصدر الذي نأنس إليه، ونعتمد عليه، ونعتقد أنه تضمن جملة الحقائق الأولى والأخيرة في هذا الموضوع، هو القرآن الكريم. فإن هذا القرآن حكى عن ماضي بني إسرائيل ومستقبلهم ما يكفي ويغني، وفي هذا يقول جل شأنه: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [النمل:76-78].

والنزاع بين العرب والمسلمين وبين بني إسرائيل قد يطول سنين عددا لا نعرف مداها، ولا ندرك بالضبط متى تنتهي الحرب بيننا وبين بني إسرائيل، لكننا ندرك عن يقين جازم بأن هذه الحروب تتوقف بقدر ما يثوب المسلمون إلى رشدهم، ويعودون إلى دينهم، فإذا رجع المسلمون مساء اليوم إلى دينهم فإن الحرب تنطفئ صباح الغد، وإذا رفض المسلمون اعتبار قضية فلسطين إسلامية، وإذا خجلوا من الانتساب إلى الدين، وإذا بعدت الشقة بينهم وبين الإسلام، وإذا استمرا الشيطان في إنامتهم والضحك منهم؛ فإن هذه الحرب لن تنتهي، بل ربما قامت لإسرائيل إمبراطورية من الفرات إلى النيل كما يؤملون.

والسر في أن الحرب الدائرة الآن يديرها الطرفان بعقلية تستحق الدراسة والتأمل، فأما عقلية بني إسرائيل في إدارة هذه الحرب فواضحة، بنو إسرائيل يعتقدون أن الكون والشمس والقمر خلق من أجل الأرض، وأن الأرض خلقت من أجل بني آدم، وأن بني آدم خلقوا من أجل بني إسرائيل، وأن بني إسرائيل هم الجنس المقدس، والشعب المختار، والأمة السيدة الموهوبة، التي ينبغي أن يعنو الناس لها، وأن يخضعوا لسلطانها؛ وبناء على هذا الفكر فإنهم يعتبرون عودتهم إلى فلسطين وصلا للماضي الذي انقطع، وإحياء للتاريخ الذي تجمد أو توقف، وهم يريدون أن يقيموا كما يقولون "مملكة يهوه" التي يحكمون بها الناس لحساب رب إسرائيل وبني إسرائيل.

فالحرب في وهمهم وعزمهم وحركاتهم وسكناتهم حرب دينية، تمدها أفكار واضحة في أدمغة القوم، ومشاعر مرتبة في أنفسهم وأفئدتهم، وهم ماضون في هذا الطريق إلى نهايته بداهة، استطاعوا بما يعطيه الدين من تعصب، وما يعطيه من رغبة في النفقة، ورغبة في البذل، وقدرة على التحمل، استطاعوا بهذا كله أن يكسبوا كل المعارك التي خاضوها ضدنا، وبديهي أن ينضم إليهم الحاقدون على الإسلام من المستعمرين الذين هاجموا الأمة الإسلامية في الحروب الصليبية الأولى، انضموا إليهم أخيراً، وتشابكت أذرع الجميع في كيل اللطمات لنا، ونيل ما يبتغون منا.

العقلية التي أدارت الحرب ضدنا هذا وصفها، أما نحن فإن عددا كبيراً من الناس رفض رفضاً باتاً أن يصف الهجوم اليهودي على أرضنا بأنه هجوم ديني، وقال: إنه هجوم سياسي، وهذا الكلام كلام غريب؛ لأنه يعتمد على جهل مطلق.

هؤلاء الذين أقاموا بعض المعاهد الاشتراكية والقيادات الفكرية في بلادنا، صوروا الحرب –عن عمد– بأنها حرب سياسية، وأن الدين لا دخل له في هذه الحرب، فإذا سألتهم: أتعرفون شيئا عن اليهودية؟ قالوا: نعم، نعرف. درستم العهد القديم وقرأتم فيه كيف وضعت خريطة إسرائيل الممتدة من الفرات إلى النيل؟ وكيف قيل لبنى إسرائيل: إن هذه أرضكم ويجب أن تأخذوها؟ درستم هذا؟ لا. أقرأتم بعد العهد القديم التلمود؟ لا. قرأتم تاريخ اليهود أولا في العهود القديمة ثم العهود الوسطية؟ لا. فإذا كنتم جُهَّالاً، فما الذي يجعلكم تفرضون على الناس جهلكم؟ تصور رجلا يقول لك: أنا عالم بالإسلام. فإذا قلت له: تعرف القرآن؟ قال: لا. تعرف السنة؟ قال: لا. تعرف الفقه الإسلامي؟ قال: لا. فما علمك بالإسلام؟.

لكن القيادات الفكرية الغبية في العالم العربي فرضت نفسها، وأقنعت -ولا تزال تقنع العرب- أن الحرب التي يواجهونها حرب سياسية أو استعمارية أو ما إلى ذلك من عناوين مكذوبة، وهم قد عرفوا الآن كيف كانوا أغبياء، وأدركوا –وأرجو ألا يفوت الوقت ليدركوا– أن الحرب الدينية التي أدارها أعداؤنا بروح دينية يجب أن يقف بإزائها الإسلام يحتل الجبهة المقابلة، ويبدأ يقاوم، ويفرض نفسه!.

شيء آخر قاله بعض الصغار المرتزِقة في ميدان الإعلام: إن إسرائيل ألعوبة في أيدي الاستعمار ليضرب النظم التقدمية في العالم العربي. وهذا سخف؛ فإن إسرائيل قسمت المملكة الأردنية وأخذت نصفها، كما أخذت سيناء وهي ضعف مساحة الوجه البحري، وأخذت مرتفعات الجولان، وكان النسر يتعب لكي يصل إلى هذه المرتفعات! أخذ اليهود كل هذا دون مقاومة تذكر، ودون بذل أو تضحية تسند المدافعين، وتعلي شأنهم، فإذا كان في الأمر ما يستدعي حربا ضد النظم التقدمية فإن النظم التقدمية يوم تطلق الإسلام وترفض مبادئ العلم والإيمان فإن هذه النظم في الحقيقة تكون عميلة لإسرائيل، بل إن إسرائيل إنما أقامها "لورد بلفور"، وبعض الزعماء العرب الذين كرهوا الإسلام هم الذين شاركوا في إقامة ملك إسرائيل العريض الآن، لابد أن نعرف الأمور.

ولنعد إلى كتابنا نحاكم إليه دعاوى القوم ومواقفنا منهم، هؤلاء ادعوا –كما سمعتم– أنهم شعب مختار، وأنهم جنس مقدس، الله جل شأنه خلق الناس قاطبة، ولم ينشيء علاقة خاصة بينه وبين جنس من الأجناس: " كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب". فإذا كان قد شرف شعبنا في بعض العصور، أو رفع قدر أمة في بعض الأزمنة، فإن ذلك لما تمثل من حقائق الإيمان، ولما تبذل في الدفاع عن العقائد الصحيحة، والفضائل الواجبة؛ فإذا كان القرآن قد حمد لبني إسرائيل- قديما- بعض مواقف الخير وقال فيهم: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [الدخان:32]. فإنهم اختيروا أو فضلوا على عالم زمانهم؛ والسبب أنهم دعوا إلى التوحيد في دنيا مليئة بالوثنية، وتحملوا في سبيل ذلك تضحيات شتى، ولكنهم لما جحدوا رسالتهم، وفجرت مسالكهم، وفشا عدوانهم، سقطوا من عين الله، ووقع لهم ما وقع، وهذا كلام يحتاج إلى تفصيل؛ عندما كانوا قديما في هذا الوادي ووقع عليهم من العذاب ما وقع.

يحكي القرآن الكريم هذا الحوار: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف:127-128]. ماذا كان رد بني إسرائيل على موسى لما قال لهم هذه الكلمة: (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)؟ كان الرد هكذا: (أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا)! فكان جواب موسى: (قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف:129].

فإذا أهلك الله عدواً استخلف بعده من شاء من الشعوب فإنه لا يستخلف هذه الشعوب لتفعل ما تريد، لا بل ينظر ما تفعل، فإن كان خيراً باركها، وإن كان شراً لعنها، هذا الكلام يقال لبني إسرائيل في وضوح إلهي... وما بقيت السماوات والأرض فلن يوجد كتاب في القارات الخمس يمكن أن تقول وأنت واثق موقن: إن هذا وحي اللهِ إلا هذا القرآن! كتاب منصف: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).

هذا الكلام الذي حكاه رب العالمين في صدد بني إسرائيل تسمع نظيراً له بالنسبة إلى الأمة الإسلامية، فإن الله يقول للمسلمين: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [يونس:13-14]، نفس الكلام الذي قيل لبني إسرائيل قيل للمسلمين! إن الله لا يحابي ولا يظلم وهو ينظر للشعوب ماذا تصنع؟ ثم يصنع بها ما تستحق: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود:117].

ماذا فعل بنو إسرائيل؟ نذكر نماذج قليلة مما فعلوا لنرى على ضوء هذه النماذج ماذا فعلنا نحن، ثم ندرك أبعاد النزاع القائم بيننا وبين غيرنا. إن الله يحب لعباده أن يعيشوا آمنين مكفولي الحرية، مصوني الدماء والأعراض والأموال، حقوقهم في ضمانات موثقة، لا يجرؤ أحد على العدوان عليها، تستوي في هذا جميع الأمم. عندما أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل -رضي الله عنه- حاكما قال له:"اتَّق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب".

قال العلماء: والمظلوم هنا ناس ليسوا بمسلمين، فدعوة المظلوم ولو كان كافراً يستمع الله لها، فكيف إذا كان المظلوم مؤمناً؟! لذلك فإن الله -جل شأنه- أخذ المواثيق على الأمم القديمة والحديثة ألا تظلم، ألا تسجن أحداً دون سبب، ألا تخرج أحداً من داره وتنتزعه من بين أهله دون علة واضحة، يقول الله بالنسبة إلى بني إسرائيل: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة:84-85].

هذه المواثيق أخذت على من قبلنا وتؤخذ علينا، لأن الله يقول لنا: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة:7-8]، لكن بني إسرائيل في تاريخهم أكل بعضهم بعضاً، اعتقل بعضهم بعضاً، أسر بعضهم بعضاً، سجن بعضهم بعضا، فعوقبوا، عوقبوا!.

الأمة العربية الآن؛ لأنها خرجت على مواثيق السماء، وابتعدت عن هدايات الله، وجدنا فيها العجب! من شهر مضى –تقريباً- قرأت محاكمة قدم فيها نحوُ ثلاثين شخصاً إلى محكمة ما، وحكم عليهم بالإعدام خلال ساعة، ونفذ الحكم خلال ساعة أخرى! مجوس الأرض لا يفعلون هذا! هذا الذي يفعله العرب في استرخاص الدماء، واجتياح المقدسات، لا يفعله مجوس الأرض.

بأي وجه نقف أمام الله نسأله ونطلب منه؟ لابد أن نعقل إن الله لا يحابي شعباً، لِمَ يُحابي؟ عندما قال اليهود والنصارى: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) رفض القرآن هذا: (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؟ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) [المائدة:18]، ونحن المسلمين بشر ممن خلق، إن ظلمنا عوقبنا، إن أسأنا ابتعد الإحسان عنا، يجب أن نعقل أن الأمة اليهودية أخذ عليها أنها ظنت أنها شعب مختار. لماذا؟ لا اختيار هنالك! الاختيار أن ترشحك مواهبك لعمل، فإن قمت به كنت أهلا للتكريم والتبجيل، وإن لم تقم به كنت أهلا للطرد والإبعاد، هذه سنة الله.

عندما ظن اليهود أنهم أولاد يعقوب، وأن هذا النسب فخر ذاتي، رفض الله هذا منهم، ليس عندي نسب وعجب من فعلهم عندما قال لنا -نحن المسلمين- وهو يحكي ما فعل هؤلاء: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [آل عمران:23]، رفضوا أن يحكم الله في خلقه، رفضوا أن يحكم الوحي في شؤون الناس، رفضوا أن تكون شرائع السماء أساساً لإصلاح الأرض. ماذا تريدون؟ نختلق نحن أحكاماً؟ نبتدع نحن قوانين؟ نشرع من عندنا قضاء؟ أما ما فعل الله وشرع فإن هذا لا خير فيه؟! لا أثر له؟! هذا شيء رجعي عفن ينبغي الخلاص منه؟! (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) [آل عمران:23-24] هل هذا صحيح؟.

إن هذا الذي قاله اليهود قال مثله المسلمون، فهم يعتقدون أن أمة محمد بخير، وأن أمة محمد لا تعذب، وأن أمة محمد من حقها أن تهمل قرآن محمد وسنة محمد -صلى الله عليه وسلم- ثم تنال الجنة! لماذا؟ وبأي حق هذا؟ ذلك غير صحيح، (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [آل عمران:24-25]، كلمة "نفس" تعنى البشر، عرايا من كل نسبة، عرايا من كل زعم ولون، الناس يعودون إلى ربهم بشراً نفوساً، وبقدر ما زكى الإنسان نفسه بالتقوى ينجو، وبقدر ما أهانها يكبو.

لكن الشعب المختار الذي ظن أن انتسابه للأنبياء يعطيه حقاً سقط من عين الله ولُعن، وجاء بعده الآن من يقولون: نحن عرب. ويملأ فمه بكلمة "عرب"، و"البعث العربي" و"القومية العربية". من أنتم؟ إن كنتم مسلمين فذا كتاب الله وتلك سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكما قال القائل:

أبِي الإسلامُ لا أبَ لِي سِوَاهُ إذا افْتَخَرُوا بِقَيْسٍ أو تَمِيمِ

ما معنى أن أنتسب لعروبة ترفض الإسلام، وتكره الإيمان، وتحقد على محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتأبى العودة إلى سنته، وتأبى التشرُّف برسالته؟ بداهة، هذا الذي صنعه بعض الناس بيننا في الأمة العربية الكبرى هو الذي صنعه اليهود عندما غضب الله عليهم وقال فيهم ما قال. ماذا قال؟ قال: إن هناك أذكياء أو علماء تغلبهم الشهوات والأهواء، ويتدلون في طلبها، فهم بالنسبة إلى الأقذار التي يرعونها، والمآرب الخسيسة التي يحتبسون في إطارها، أشبه بالخنازير التي تحيا على القمامة. قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ * قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) [المائدة:59-60].

إن اليهود عادوا إلى فلسطين، الحقيقة هي أنهم لم يعودوا بقواهم الذاتية قدر ما عادوا لأن المسلمين شحبت وجوههم، وغاضت منابع الإيمان في تربتهم، وانقطع تيار الإيمان الذي يمدهم بالقوة. فلما جاء اليهود وانتصروا لم يكن انتصارهم فخراً لهم بقدر ما كان هذا الانتصار خزياً لنا. إن اليهود في كتابهم الذي يدرسونه الآن –وهو العهد القديم– لا يمثلون شيئاً إطلاقاً مما تشتاق إليه الإنسانية. ما الذي تشتاق إليه الإنسانية؟ تشتاق الإنسانية إلى محراب واسع تلتقي فيه ألوان البشر أمام رب واحد تسبح بحمده وتهتف بمجده وتركع وتسجد في ساحته، وتستمد الهدى منه، ويعلم كل إنسان أن الله هو الذي يدينه يوم الدين، وأن البر لا يبلى، وأن الذنب لا ينسى، وأن الديان لا يموت! هذه الفضائل والمثل ما يصور العهد القديم شيئاً منها!.

إن الأسفار الخمسة التي تمثل التوراة -وهي دستور الحكم في إسرائيل...-إن هذه الأسفار الخمسة ليس فيها شيء يعني الإنسانية ويشبع جوعها الروحي، كل ما في الأسفار الخمسة أن هناك شعباً مختاراً مقدساً أوذي ويجب أن يملك وأن يحكم العالم بامتيازه الشخصي، بقداسته الذاتية، بكبريائه العنصرية! هذا شيء غريب! ليس هناك في أسفار التوراة ما يحكم العالم حكماً راشداً. إن حاجة العالم إلى القرآن، والقرآن كتاب شرف الله العرب فأنزله بلغتهم، وجعلهم بهذا الميراث السماوي قادرين على أن ينقلوا هداية الله إلى الناس.

هل يعرف العرب أن شرفهم بالإسلام؟ وأن كرامتهم بالقرآن؟ وأن عظمتهم في الانضواء تحت لواء النبي العربي محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ يوم يعرف العرب في هذه المنطقة، في مصر وسوريا والأردن والجزيرة وكل من ينطق باللغة العربية، يوم يعرف العرب أن فخرهم وتاريخهم ويومهم وغدهم في الإسلام، ويوم يقررون بجد أن يعودوا للإسلام قوانين وتقاليد، تعليما وتربية، موضوعاً وعنواناً، تاريخا قديماً وحضارة معاصرة، يوم يعرف العرب هذا ثم يديرون المعركة مع بني إسرائيل ومَن وراء إسرائيل، فكما قلت لكم: لو قررنا هذا مساء اليوم؛ فإن صبيحة الغد ستشهد يوم النصر.

الأمر كله في النزاع القائم بين إسرائيل والعرب مرتبط بجواب واحد: هل سيعود العرب إلى الإسلام؟ هل ستكون قضية فلسطين إسلامية؟ هل سيركل العرب بأقدامهم التشريع الوافد –القانون الاستعماري– ويجيئون بدله بقوانين الإسلام وتعاليم الإسلام؟ هل سيحترمون لغتهم العربية ويجعلونها لغة التخاطب ولغة العلم، ولغة الكتابة، ولغة التأليف؟ ولغة عالمية؛ لأنها لغة رسالة عالمية؟ هل سيعرف العرب أن قدرهم ليس من عروبتهم؟ العروبة وحدها لا تنشئ شرفاً، ولا تكون جاهاً، ولا تحبو أصحابها قدراً، بل على العكس، ستهبط بهم أسفل سافلين. إذا لم يعد العرب إلى الإسلام، ويبدأ نزاعهم مع إسرائيل بأخذ هذا الطابع الديني المقابل للطابع الديني الإسرائيلي، فإن المعركة لن تكون لنا.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].

وأشهد أن لا اله إلا الله الملك الحق المبين، واشهد أن محمداً رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: فإن الله تفضل على العرب بالإسلام، هدية اجتباهم بها، واختارهم لها، فإن رفضوا الهدية عوقبوا وذلوا، وإن قبلوا الهدية استراحوا وأراحوا.

لما تحدثت سورة الجمعة عن الرسالة الخاتمة: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الجمعة:2-4]، بعد هذا بينت أن قيادة العالم لا تملك بالادعاء، إن أي سيارة تفقد الوقود لابد أن تقف في الطريق؛ لأنها ما تسير إلا بوقودها، والأمم إنما تسير بقوى تمدها بالطاقة والحماسة، وتغريها بالانطلاق واجتياح العقبات.

والأمة التي تفقد مؤهلات الزعامة تنحى – يقيناً – عن الزعامة؛ لأن الله تعالى قال مبيناً: لم نحَّى بني إسرائيل؟ قال: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الجمعة:5]، والقوم، أعنى بني إسرائيل الذين لم يهذبوا أنفسهم، لا يؤتمنون على تهذيب الناس، الذين لم يرتفع مستواهم لا يكلفون برفع مستوى الخلق، الذين قيل فيهم: إنهم لم يفقهوا التوراة ولم يحسنوا الأخذ بها، بل هم قد أصبحوا كالدواب الناقلة للكتب، والدواب الناقلة للكتب لا تتغير طبائعها لأنها حملت كتباً!.

إن الكتب تغير طباع الناس يوم يقرؤونها، ويدرسونها، ويثقفون أنفسهم بها، ويحسنون أخلاقهم بآدابها، ويحكمون غرائزهم بقيودها. هذه طبيعة الكتب؛ عندها تُنشئ حضارة، وتجعل أمة ما قديرة على القيادة. فليسأل العرب أنفسهم: هل زكوا أنفسهم بالقرآن؟ هل شرفوا سريرتهم وعلانيتهم بآداب الإسلام؟ هل نقّوا بيوتهم وشرائعهم بتقاليد الوحي وقوانين السماء؟ لا. إذاً، يوم يتقهقرون فالعيب عيبهم، والذنب ذنبهم: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) [الإسراء:7]، (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا) [الأنعام:104].

إننا يجب أن نصحو من نومنا، لا يزال هناك نفر هم –في نظري– تماثيل للغباوة، هذا النفر تمتلئ به وسائل الإعلام، لا تنقصه الجهالة ولا الحماقة، هؤلاء لا يعرفون عن الصراع العربي اليهودي شيئاً؛ لأنهم فارغون. كل امرئ يقول لكم: إن الصهيونية شيء واليهودية شيء فاعلموا انه شخص جهول، ما قرأ العهد القديم، ولا قرأ كتب القوم، ولا آمالهم؛ ويريد أن يفرض جهله عليكم.

نحن الذين قرأنا، نحن الذين درسنا وعرفنا، وهذه الكتب التي تجعل الحرب المعلنة علينا دينية موجودة في تناول اليد لمن يريد أن يتعلم، لكن القيادات الغبية في وسائل الإعلام العربية لا تريد أن تتعلم، إنها متعصبة لجهلها، ودعوكم من خرافة النظم التقدمية والنظم الرجعية، فإن اليهود إذا بقوا على وفائهم لكتابهم، وتعصبهم الذميم لمواريثهم، فإنهم سوف يجتاحون النظم الملكية والجمهورية معاً، لأن كلا النظامين لا يعرف أن العرب وعاء الإسلام، وأن كرامتهم في انتسابهم لهذا الدين، وحملهم لرسالته.

(اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر).

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].