الولي
كلمة (الولي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (وَلِيَ)،...
العربية
المؤلف | سليمان بن حمد العودة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
وفي هذا الزمان يكثر في المسلمين هجرة القرآن إما حساً أو معنى.. أو كليهما.. إذ لا يقيمون وزناً لتلاوته ولا يتدبرون آياته.. ولا يعملون بتوجيهاته، ولا ينتهون عند حدوده ومحارمه.. حتى وإن قبلوه عند التلاوة.. أو رفعوه في أمكنة علية، أو ابتدؤوا به في مناسباتهم العامة، أو قرؤوه على موتاهم ..
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خص هذه الأمة بأفضل كتبه، وخاتم أنبيائه ورسله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: من الآية 70-71].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:35].
أيها المسلمون: كتاب الله طريق للتقوى وسبيل لمحبة الله تعالى، وهو يهدي للتي هي أقوم هو كما وصفه علي رضي الله عنه : "الناصح الذي لا يغش والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان زيادة في هدى، ونقصان من عمى.. إلى أن يقول: واعلموا أنه شافع ومشفع، وقائل ومصدق، وأنه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع فيه، فإنه ينادي مناد يوم القيامة: ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبه عمله غير حرثة القرآن".
"فكونوا من حرثته وأتباعه، واستدلوه على ربكم واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراءكم، واستغشوا فيه أهواءكم".
عباد الله: وفي هذا الزمان يكثر في المسلمين هجرة القرآن إما حساً أو معنى.. أو كليهما.. إذ لا يقيمون وزناً لتلاوته ولا يتدبرون آياته.. ولا يعملون بتوجيهاته، ولا ينتهون عند حدوده ومحارمه.. حتى وإن قبلوه عند التلاوة.. أو رفعوه في أمكنة علية، أو ابتدؤوا به في مناسباتهم العامة، أو قرؤوه على موتاهم!
ويوجد في المسلمين -أيضاً- من يحفظون كتاب الله، ويكثرون تلاوته.. ولكن يقل فيهم المتأدب بآدابه، والمستشعر لفضل الله ونعمته عليه به، ويقل فيهم العامل به، ويكاد يصدق في المسلمين اليوم مقولة ابن عمر رضي الله عنه وهو يقارن بين السلف والخلف في العمل بالقرآن إذ يقول: كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به.
أخوة الإسلام: لقد استشعر السابقون من أهل الإيمان والتقى قدر القرآن، وعنهم قال الحسن بن علي رضي الله عنه : "إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل ويعتقدونها في النهار".
واعتبر من بعدهم تلاوة القرآن شرفاً وكرامة، حتى قال ابن الصلاح -يرحمه الله- قراءة القرآن كرامة أكرم الله بها البشر، فقد ورد أن الملائكة لم يعطوا ذلك وإنها حريصة على استماعه من الإنس.
وليس يخفى أن أهل القرآن هم خيار الأمة.. بل هم أهل الله وخاصته، ففي قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس) [آل عمران: من الآية110]، وقوله صلى الله عليه وسلم : "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". وقوله في حديث آخر: "إن الله عز وجل أهلين من الناس"، قيل من هم يا رسول الله؟ قال: "أهل القرآن هم أهل الله وخاصته". في هذا كله ما يؤكد أن أهل القرآن خيار من خيار، وأنهم خاصة الخاصة.
"وصاحب القرآن حامل لواء الإسلام كما قال القاضي عياض يرحمه الله: حامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغي أن يلغو مع من يلغو ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلهو مع من يلهو تعظيماً لله تعالى".
يا حامل القرآن: أخلص في حمله، واعمل بما فيه، وأبشر بالخير والمثوبة عاجلاً وآجلاً، وردد، وقف، وتمعن قوله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:58] قال ابن عباس رضي الله عنه : فضل الله .
ودونك هذا الحديث وما فيه من فضائل وكرامة لصاحب القرآن فقد روى الإمام أحمد، وابن ماجه، والدارمي، حديثاً -وإن كان فيه ضعف فيحتمل التحسين كما قال بعض أهل العلم- عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره، كالرجل الشاحب، فيقول هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر وراء تجارته، وإني لك اليوم من وراء كل تجارة، فيعطى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والده حليتين لا تقوم لهما الدنيا، فيقولان، بم كسينا هذا؟ فيقال بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال اقرأ واصعد في درجة الجنة غرفها، فهو في صعود ما كان يقرأ هذا كان أو ترتيلاً".
أيها المسلمون: كما يكرم ذو الشيبة المسلم، وذو السلطان المقسط.. فكذلك ينبغي أن يكرم حامل القرآن. فذلك من إجلال الله.
فقد صح في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط".
عباد الله: ما أضاع وقته من صرفه لحفظ القرآن أو تدبره أو أكثر من تلاوته، وما مرض قلب عاش مع القرآن، وبم يترنم من لم يتغن بالقرآن.. وبم يناجب ربه من لم يكن معه شيء من القرآن..ألا وإن الذي ليس معه شيء من القرآن كالبيت الخرب.. ما هزمت أمة كان دستورها القرآن وما خاف الأعداء من شيء كخوفهم من القرآن، وما أقض مضاجعهم أكثر من عودة المسلمين للقرآن.
أيها المسلمون: عظموا كتاب ربكم واستشفوا به من أدوائكم، واطلبوا النصر به على أعدائكم، وميزوا به بين أعدائكم وأصدقائكم.. تأدبوا بآداب تلاوته ويرحم الله أقواماً كانوا إذا تثاؤبوا وهم يقرؤون كتاب الله أمسكوا عن القرآن تعظيماً له حتى يذهب عنهم التثاؤب، كما قال مجاهد يرحمه الله وأنى لقوم تلك همهم وآدابهم أن يتشاغلوا حين تلاوته.. أو ينشغلوا عن تلاوته وتدبره.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر: من الآية 29-30].
نفعني الله وإياكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين يمن على من يشاء بفضله، والله ذو الفضل العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فضل بعض خلقه على بعض في الدنيا.. ولكن الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أكرمه ربه إذ أنزل عليه القرآن وكان خلقه القرآن. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أخوة الإيمان: لا تجارة أعظم من تجارة الإيمان وعمل الصالحات، وتلاوة كتاب الله ضمن التجارة التي وعد الله أنها لن تبور.. وهنيئاً لقراء القرآن لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) [فاطر:29]، قال قتادة: كان مطرف بن عبدالله إذا قرأ هذه الآية يقول: هذه آية القراء.
ومع فضل الجهاد فقد سئل سفيان الثوري يرحمه الله، عن الرجل يغزو أحب إليك، أو يقرأ القرآن؟ فقال: يقرأ القرآن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".
ويروى أن بعض فقهاء مصر دخلوا على الشافعي -يرحمه الله- وهو في المسجد وبين يديه المصحف، فقال له الشافعي: "شغلكم الفقه عن القرآن، إني لأصلي العتمة، وأضع المصحف بين يدي، فما أطبقه حتى الصبح".
وبقدر ما تكشف هذه النصوص عن قدر القرآن وقيمته وصرف الهمم له عند هؤلاء الأخيار، فهي تكشف عن جلدهم وطول مكثهم في تلاوته وتدبره، كيف لا والمشغول بالقرآن يعطى أفضل ما يعطى السائلون، ففي الحديث القدسي يقول الرب تبارك وتعالى: "من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين".
عباد الله وقيمة التلاوة للقرآن بتدبره والتأثر به، وإنما أنزل القرآن ليتدبر ويعمل به، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [صّ:29].
قال البقاعي -يرحمه الله- في تفسير هذه الآية، أي لينظروا في عواقب كل آية وما تؤدي إليه، وما توصل إليه من المعاني الباطنة التي أشعر بها طول التأمل في الظاهر، فمن رضي بالاقتصار على حفظ حروفه كان كمن له لقحة درور لا يحلبها، ومهرة نتوج لا يستولدها، وكان جديراً بأن يضيع حدوده فيخسر خسراناً مبيناً".
وفي قوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24]، وقوله: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء:82]. قال القرطبي: دلت هذه الآيات على وجوب التدبر في القرآن ليعرف معناه.
أيها المسلمون: إذا كانت قلة التدبر ظاهرة فاشية فينا، فإنما أتينا من غفلتنا عن أهمية التدبر من جانب، ورغبتنا أحياناً لكثرة القراءة على أي حال كانت مع إنهاء السورة من جانب آخر، حتى قال أحد العارفين: إنما يؤتى أحدكم من أنه إذا ابتدأ السورة أراد آخرها".
أما المنافقون فمن سيماهم الإعراض عن تدبر القرآن والتماس الهداية منه، وذلك لأن قلوبهم مريضة بالشهوات والشبهات ولذا عاب الله عليهم بالإعراض عن التدبر في القرآن والتفكر في معانيه.
يا أخا الإيمان: فإن قلت فما السبيل لتدبر القرآن وكمال الانتفاع به؟ وجدت ذلك في قاعدة جليلة جعلها ابن القيم -رحمه الله- على رأس الفوائد في كتاب الفوائد من حيث قال: "إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعة وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [قّ:37] إلى أن قال: فإذ حصل المؤثر -وهو القرآن- والمحل القابل، وهو القلب الحي، ووجد الشرط وهو الإصغاء، وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر، حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر".
يا أيها الشيخ الكبير: ماذا معك من القرآن، وما نصيبك من تلاوته وتدبره، ولئن فاتك منه شيء فيما مضى فاستدرك ما فاتك، فإن لم تستطع فشجع أولادك على حفظ كتاب الله والعناية به، ففضل الله واسع.
أيها الموظف والمدرس والعامل النشط: ترى هل تستثمر شيئاً من نشاطك وفراغك في تلاوة كتاب الله وحفظ ما استطعت من حفظه، فالقوة يعقبها الضعف، والفراغ يعقبه الشغل، وتحية للمعلمين أو الموظفين وغيرهم الذين يجتمعون على حفظ كتاب الله وتدبره.
أيها الشاب الفتي: ما نصيبك من كتاب الله حفظاً.. وما نصيبك منه تدبراً، إياك أن يغلبك الفتيان في الحفظ في أيامك الأولى فتندم بعد على التفريط ولات ساعة مندم.
أيها المسلمون -رجالاً ونساءً- استوصوا بكتاب الله خيراً، وأحلوه بالمنزلة التي أرادها الله له تفلحوا في الحياتين وتسعدوا في الدارين.
أما أنتم -معاشر الحفاظ لكتاب الله- فلي معكم حديث آخر يسره الله، اللهم أعنا جميعاً على العناية بكتابك وتدبره، واجعله لنا في الدنيا رفيقاً.