المعطي
كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...
العربية
المؤلف | أحمد حسين الفقيهي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - التاريخ وتقويم البلدان |
ها هي الإجازة أوشكت على الرحيل، مضت أيامها، وتصرمت ساعاتها، وكأنها ما كانت، غنِم فيها قومٌ وخسِر آخَرون، ذاك يطوي صفحات من الحسنات في الصالحات الباقيات، في خطوات تقربه إلى روضات الجنان، وآخر يعب من السيئات في ارتكاب المحرمات والموبقات، في استدراج يدنيه من الدركات ..
عباد الله: ها هي الإجازة أوشكت على الرحيل، مضت أيامها، وتصرمت ساعاتها، وكأنها ما كانت، غنِم فيها قومٌ وخسِر آخَرون، ذاك يطوي صفحات من الحسنات في الصالحات الباقيات، في خطوات تقربه إلى روضات الجنان، وآخر يعب من السيئات في ارتكاب المحرمات والموبقات، في استدراج يدنيه من الدركات.
أيها المسلمون: ليعُدْ كُلٌّ منا بذاكرته إلى الوراء قليلاً، إلى بداية الإجازة، وليحاسب نفسه: ماذا جنى؟ وماذا قدم؟ هل تقدم في الخير أم تأخَّر؟ هل ازداد من الصالحات أم قصَّر؟ ماذا صنع هو وأهله وأولاده في تلك الإجازة؟ وكيف أمضوها؟ أفي خير ونفع أم في خسارة وضياع؟ تالله، ليسعدَنَّ أقوام يجدون ثمرة أعمالهم الخيرة في ميزان حسناتهم! ولَيَنْدِمَنَّ أقوام فرطوا في أيامهم الخالية فجنوا الندم والألم! (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران:30].
عباد الله: غدًا تبدأ الدراسة، وتنطلق مسيرة العلم، وتفتح قلاع المعرفة، يبرق فجر غد والناس أمامه أصناف، والمستقبلون له ألوان؛ بين مُحِبٍّ وكاره، ومتقدم ومحجم، ومتفائل ومتشائم، ومع هذه الإطلالة للعام الدراسي الجديد ها هنا بعض الرسائل والكلمات؛ علها تكون نذر خير وإصلاح وهداية للسبيل القويم.
الرسالة الأولى: إلى رعاة الجيل وأمَنة التعليم، إلى حماة مشكاة النبوة والمؤتمنين على ميراث الرسالة في التعليم والتربية، إلى من تعقد عليهم الآمال، إلى المعلمين والمعلمات:
هنيئًا لكم -يا أهل التربية والتعليم- شرف الرسالة ونبل المهمة، ومهما عانيتم وقاسيتم، ومهما جار البعض عليكم وهمش رسالتكم وقلل هيبتكم وغمطكم حقكم فيكفيكم ثناء ربكم جلّ وعلا، ومدحُ نبيكم صلى الله عليه وسلم، أخرج الترمذي وغيره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين، حتى النملة في حجرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير" فهنيئاً لكم هذا الفضل العظيم، والثناء الجسيم الذي لا ينتظر بعده معلم الناس جزاء ولا شكورا.
يا أهل التربية والتعليم: لقد ائتمنتكم الأمة على أعز ما تملك، على عقول فلذات أكبادها وثمرات فؤادها، يقضي الطالب شطر يومه في قلاع التعليم وحصون التربية، فماذا أعددتم لهم؟ وبماذا تستقبلونهم؟ وكيف؟ وماذا ستعلِّمونهم؟ إنهم أمانة في أعناقكم، فقدروا الكلمة التي تقولونها، وزنوا الحركة قبل أن تتحركوها، واعملوا أن من أهمّ ما تتصفون به هو جانب القدوة، والتزام أخلاقيات هذه المهنة الجسيمة؛ لأن الطلاب والطالبات يسمعون بأعينهم أكثر من سماعهم بآذانهم، والبيان بالفعل أبلغ من البيان بالقول.
يا أهل التربية والتعليم: إن المنهج يظَلُّ حِبْرًا على ورَق ما لم يتحوّل إلى بشَرٍ يُتَرْجِمُ بسلوكه وتصرفاته ومشاعره مبادئ المنهج ومعانيه، إن ناشئ الفتيان فينا ينشأ على الصدق إذا لم تقع عينه على غش، وتسمع أذنه كذبًا، ويتعلم الفضيلة إذا لم تلوّث بيئته بالرذيلة، ويتعلم الرحمة إذا لم يعامل بغلظة وقسوة، ويتربى على الأمانة إذا قطع المجتمع دابر الخيانة، فكونوا -معاشر أهل التربية والتعليم- خيرَ نموذج يتمثل الخير أمام الأجيال، وتذكروا عتاب ربكم في حال المخالفة بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) [الصف:2].
يا أهل التربية والتعليم: إن التعليم المثمر هو الذي يُسار فيه مع التربية جنبًا إلى جنب، ما قيمة العلم إذا كان صاحبه كذوبًا خؤونا؟! وما قيمة العلم إذا كان حامله ينقض مبادئ التربية عروة عروة بسلوكه وأخلاقه؟! قال ابن المبارك -رحمه الله-: نحن إلى قليلٍ مِن الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم، وقال ابن سيرين -رحمه الله- عن السلف الصالح: كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم.
يا أهل التربية والتعليم: لقد خلق الإنسان في كَبَدٍ، والمرء في هذه الحياة ساعٍ -ولا ريب- إلى مصدر رزقه، فإما أن يخرج بنيِّةٍ صالحةٍ يعُودُ من خِلالِها بالأجر والثواب، وإمَّا أن يرجع من عمَلِهِ بثَوابِ الدنيا فقط، والموَفَّق مَن وفَّقَهُ الله.
يَا قادةَ العِلْمِ هُبُّوا وانشُرُوا هِمَمَاً | نَطْوِي بِهَا جهْلَنَا حَقَّاً ونَزْدَجِرُ |
هَيَّا إلَى العِلْمِ وَالْقُرْآنِ نَنْصُرُهُ | أليسَ بِالعلْمِ والقُرآنِ نَنْتَصِرُ؟ |
يا ربِّ وفّقْ جَميعَ المسلمين لِما | فيهِ الصَّلاحُ وفيه الخيرُ والظَّفَرُ |
الرسالة الثانية: إلى الطلاب والطالبات: لقد عُدتم إلى مقاعد الدراسة، والعَوْدُ أحمدُ، إن شاء الله، اغتنموا أوقاتكم في طلب العلم وتحصيله، فأنتم في زمنه ووقته، لا تلهينَّكُم المشاغل، وعليكم بإحسان النية في تحصيله: "إِنَّمَا الأعمالُ بالنيَّات، وإنما لكل امرئ ما نوى".
إنَّ الناس إمَّا عالمٌ أو متعلِّمٌ أو جاهلٌ، والعلم شرَفٌ لا قدْرَ له، إنه يرفع الوضيع، ويُعِزُّ الذليل، ويجبر الكسير، به حياة القلوب، وشفاء الصدور ولذة الأرواح.
تذكروا -معاشرَ الطلاب- أثناء سيركم في طريقكم قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَلَكَ طريقًا يبتغي فيه علمًا سلك الله به طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطلاب العلم رضًا بما يصنع".
يا طلب العلم: إن مما لا ينبغي أن يكون الهدف الأسمى من العلم الحصول على الشهادة، ولئن دعت الحاجة في الدنيا إلى الوظيفة والعمل، فالحاجة أدعى إلى تعلم العلم الذي به يصل المرء إلى المنازل العالية في الجنة.
يا طالب المدرسة: إن جهودًا كثيرة تُستنفَر من أجلك، جهودًا مالية وذهنية ووقتيَّة، كلُّ أولئك يتعاهدون سقاية نبتتك ورعايتها، حتى تؤتي أكلها بعد حين، فلْتَكُنْ ثمارك يانعة، فالبيتُ يرجو منك ويؤمِّل، والمدرسة تبذل لك وتعلم، فكن عند حسن الظن بك خلقًا وعلما.
يا طالب العلم: اجعل في سُوَيْدَاءِ قلبك قول ربك وخالقك: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ) [البقرة:282]، وجدّ واجتهد، ولا يغُرَنَّكم كثرة البطَّالين، وتذكَّرْ أنّ من لم تكن له بداية محرِقة لم تكن له نهاية مشرقة.
أَأَبناءَ الْمدارسِ إنَّ نفْسي | تُؤَمِّلُ فيكمُ الأملَ الكبيرا |
فسقيًا للمدارس، مِن رياضٍ | لنا قد أنبتَتْ منكم زُهُورا! |
الرسالة الثالثة: إليكم يا معاشر الآباء والأولياء: إنكم -أيها الكرام- شركاء للمدرسة في رسالتها، والبيت هو المدرسة الأولى التي يتربى فيها الأجيال، وينشأ فيها الفتيان والفتيات.
إن مما يعاني منه الغيورون قلة الاتصال بين المدرسة والبيت، حيث يظن بعض الآباء أن بتوفير لوازم المدرسة وحاجياتها قد انتهى دوره وقام بواجبه دون متابعة أو سؤال، والبعض من الآباء آخر عهده بالمدرسة أو الكلية أو الجامعة عندما ألحق فلذة كبده بها، وهذا من القصور والتفريط الذي يسأل عنه الولي في الآخرة، ويجني عاقبته في الدنيا.
معاشر الأولياء: قولوا لي بربكم: هل أدَّى الأمانةَ مَن حرصه على استيقاظ ابنه للدراسة مقدم على حرصه على الصلاة؟ وتحسّره على فوات الدراسة أشد من تحسُّره على فوت وقت الصلاة؟! إنها ممارسات يجد فيها الطلبة والطالبات نوعًا من التناقض بين ما درسوه في المدرسة وبين ما يجدونه في المنزل.
فعظموا -معاشر الأولياء- أمر الله في نفوس الناشئة، "مُرُوهُمْ بالصلاة لِسَبْعٍ، واضربوهم عليها لِعَشْرٍ، وفرِّقُوا بينهم في المضاجع".
احرصوا -رحمكم الله- على تربية أبنائكم، ومتابعتهم أثناء الدراسة، تخيروا لهم رفاقهم، واعرفوا أين يذهبون، ومَن يصاحِبون، وماذا يصنعون، وإيَّاكم إيَّاكم أن تهدموا في أبنائكم ما يربيه المخلصون في المدارس وقلاع العلم!.
حَرِّضْ بَنيكَ على الآدابِ في الصِّغَرِ | كيما تقرّ بهِمْ عيناكَ في الكِبَرِ |
فإنَّما مثَل الآداب تجمُعها | في عُنْفُوان الصِّبَا كالنَّقْشِ في الحَجَرِ |
وأصدق من ذلك قول المولى سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ) [التحريم:6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله خالق اللوح والقلم، أحمده سبحانه وأشكره على ما أسدى وأنعم، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله الهادي إلى السبيل الأقوم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فيا عباد الله: إن رسالة التعليم لا تعني في أهدافها أن يحمل الطلاب على عواتقهم كمًّا من المقررات طيلة عام أو نحوه ثم يتخففون منها بأداء الامتحان، إن رسالة التعليم لم تبلغ غايتها إذا حفظ الطالب أو الطالبة نصوصًا في أهمية الصلاة وكيفيتها وشروطها وواجباتها وهو لا يصلي إلا قليلا أو يصلي على غير ما تعلم، إن رسالة التعليم لن تحقق هدفها إذا كان الطالب يقرأ في المدرسة موضوعًا في مادة المطالعة عن الصدق ثم يكذب على معلمه وزملائه، إن رسالة التعليم لن تسير إلى مقصدها إذا كان الطالب في المدرسة يكتب موضوعًا في الإنشاء عن بر الوالدين ثم يخرج من المدرسة ليرعد ويزبد على أمه أو يعرض عن أمر أبيه، إن رسالة التعليم تتمثل في ربط التعليم بواقع الطلاب والطالبات، وتطبيق القيم العليا المبثوثة في مناهج التعليم.
عباد الله: بقيت همسة لطيفة أختم بها حديثي إليكم، ألا وهي ظروف الحياة في هذه الأيام تشتدّ على بعض الدارسين والدارسات، وقد يشق عليهم توفير ما يستطيع نظراؤهم توفيره، فهل يجد هؤلاء من المدرسة رعاية خاصة وبطريقة مناسبة لا تجرح شعورًا ولا تقلل قدرا؟! وهل يجد هؤلاء الضعفاء من الآباء مساهمة في عدم كسر قلوبهم حين لا يسرفون في تأمين الأدوات الدراسية لأبنائهم وإعطائهم من الأموال ما يفوق حاجتهم؛ مراعاة لنفسيات أبناء الأسر الفقيرة من زملائهم؟!.
أيها المسلمون: لو أسهم كل واحد منا في تخفيف الأعباء المدرسية عمَّنْ يحتاج من أقاربه وجيرانه لَمَسَحْنَا دُمُوعًا كثيرةً، وأرَحْنَا هُمومًا عديدة، ترزح على قلوب أولئك الضعفاء.
وإن مما يوصى به في هذا المقام أن الجمعيات الخيرية تقوم بمشروع عظيم، ألا وهو توفير الحقائب المدرسية لأبناء الفقراء والمحتاجين، فأسهِمُوا -عباد الله- بأموالكم في هذا الخير، ولا تحرموا أنفسكم بابًا ساقه الله إليكم، (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:261].