البحث

عبارات مقترحة:

المعطي

كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...

الغني

كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...

المتعالي

كلمة المتعالي في اللغة اسم فاعل من الفعل (تعالى)، واسم الله...

بهذا كانت الكرامة.. وبهذا كانت المهانة

العربية

المؤلف محمد الغزالي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب
عناصر الخطبة
  1. فضل الله على العرب .
  2. ارتقاء العرب قديما بالإسلام علميا وخلقيا .
  3. بناء النهضة الأوروبية على النهضة الإسلامية العربية .
  4. انحطاط العرب والمسلمين .
  5. كيفية النهوض .

اقتباس

الدجاج الذي نأكله لا ندرى كيف ذُبح؟ سبحان الله! هل تربية الدجاج تحتاج إلى عقل ذرِّي؟ هل إقامة مزارع للدجاج تحتاج إلى عبقريات تُستورد من أمريكا أو من المريخ؟ واللهِ! يوم يحتاج المسلمون في تربية الدجاج إلى خبراء من كل ناحية فإن بقاءهم في الحياة لا معنى له، وفروغ الحياة منهم أفضل! ما الذي يجعل المسلمين عجَزةً في كثير من الميادين؟.

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: فقد وددت لو أن العرب يعرفون فضل الله عليهم ومنته العظمى عندما حمـَّلهم رسالة الإسلام، وشرَّفهم بالانتماء إلى هذا الدين، ولكن العرب لم يدركوا هذا الفضل، ولم يحسوا تلك النعمة، فكان تفريطهم فيها كبيرا، وكان غبنهم لها فادحا.

كنت أقرأ الآيات التي تم فيها تحويل القبلة، وتدبرتها؛ لأعرف أبعادها، وأدرك حقائقها، في قوله تعالى: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة:149-151].

وقفت طويلا عند كلمة : (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا) حاولت أن أعرف هذا الجار والمجرور، والارتباط بين الآيتين، والمعنى المقصود، وبعد لأي شعرت بأن المعنى قريب، وأن الله تبارك وتعالى اسمه يريد أن يقول للعرب: إنني رفعت شأنكم عندما جعلت الناس في القارات كلها يتجهون إلى الكعبة المبنية في جزيرتكم، عندما جعلت أجيال البشر على اختلاف الألسنة والألوان يعتبرون المسجد الحرام في أرضكم القبلة التي يتوجهون إليها خمس مرات كل يوم، فعلت هذا (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أنا بهذا أتم النعمة، ولكن النعمة بدأت قبل ذلك، بدأت عليكم أيها العرب سابغة شاملة عندما ابتعثت النبي الخاتم منكم، وجعلت الرسالة الأخيرة فيكم، وأنزلت الوحي القاطع بلغتكم، نعمة لاحقة بعد نعمة سابقة، تضاعفت بها أنعمي عليكم: (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ).

بعد هذا كان لابد من تذكير الناس بحق النعمة، ولقد قال الله لليهود من قبل: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة:40]، إذا وفيتم بما كلفتكم من عهود، وبما واثقتكم من عقود، فانتظروا وفائي وبِرِّي وفضلي.

كذلك يقول الله للعرب: بعد أن شرفتكم بالرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم-، وبالوحي المبين، وبالقيادة العقلية والخلقية للناس، بعد هذا الشرف الذي رفع شأنكم، وأعلى مكانتكم، بعد هذا الشرف أدوا حقي، ولذلك بعد أن قال: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ). قال: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [البقرة:152] أي: كما ذكرتكم بفضلى اذكروا حقي، وكما تعطفت عليكم بنعمي اشكروها، ومعنى شكرها تقديرها، ومعنى أن ينهض العرب برسالتهم أن يعرفوا أن الله ربَّى محمدا ليربي به العرب، وربى العرب بمحمد ليربي بهم الناس، فهم أمناؤه على وحيه، وأساتذته بين خلقه، وهم بالمصحف الشريف الذي اختصوا به، والرسالة الجليلة التي تبقى إلى آخر الدهر المنار الهادي، والشعاع المضيء، بهذا كله يكون للعرب شأنهم، وتكون لهم مكانتهم.

لكن العرب -للأسف!- خانوا رسالتهم، وفرطوا في حقها، وظنوا أنهم بالانتماء إلى عمرو بن كلثوم أو حاتم الطائي أو عنترة العبسي، ظنوا أنهم بهذا يكونون شيئا مذكورا، وهم بهذا ما يكونون شيئا، لا منسيا ولا مذكورا.

ما الذي صنعه الإسلام للعرب قديما؟ وما الذي يمكن أن يصنعه العرب للناس الآن؟ الإسلام صنع للعرب قديما الكثير، فقد ارتقى بهم عقليا، وارتقى بهم روحيا؛ أما الارتقاء العقلي فإن الثقافة القرآنية التي انتشرت مع امتداد الإسلام، وبدأت من صحراء غلبتها الأمية، وتحول أصحابها بهدايات القرآن إلى أرقى من الفلاسفة، وإلى أعظم من القادة والأئمة الذين ملكوا نواصي الثقافة في كل دين.

بهذه الثقافة القرآنية تحول العرب الأميون إلى أساتذة، ونظروا في كتب الإغريق نظرة الأستاذ إلى كراسات الطلاب، ونظروا إلى آداب الفرس نظرة المشرف من أعلى على العامة الذين يموج بهم السفح القريب، وبلغ من عظمة الإسلام -كما يؤكد علماء أوربا- أن الفرنسيين والإنكليز والإيطاليين كانوا يرسلون أبناءهم إلى جامعات الأندلس، يلتحقون بها، ويأخذون إجازاتهم العلمية منها، و في القرن الحادي عشر للميلاد تولى بابوية الفاتيكان خريجون من جامعات الأندلس تعلموا الثقافة، واتسعت آفاقهم مع العلم الذي تقدم به الإسلام إلى البشر قاطبة، لأن معنى كلمة مسلم ومعنى كلمة إسلام: نهضة فكرية رائقة شائقة، ينظر الناس إليها بإعجاب، ويودون أن يغترفوا من منابعها، وأن يشرفوا بالانتماء إليها، فكان العلم الإسلامي الذي قدمته هذه الحضارة موضع التقدير، بل أكد العلماء أن النهضة الأوربية ما كانت لتتم لولا ظهور الإسلام، وقيام جامعاته الكبرى.

هذا من الناحية العلمية، أما من الناحية الخلقية فإن المروءة، والأدب، والسماحة، ورحمة الصغار، وتوقير الكبار، وإسداء العون للضعاف، وتحسين الحسن، وتقبيح القبيح، واحترام التقوى، كل هذه المآثر كانت تنضح من مجتمع يبدأ مع الفجر يصلي لله، ولا يأوي إلى فراشه إلا بعد أن يصلي لله، فكان المجتمع المشغول بطاعة الله، وتطهير البدن والروح، كان هذا المجتمع يقدم للناس في المشارق والمغارب نماذج من الخلق العالي، هذه النماذج هي التي فتحت الأقطار للإسلام، خصوصا التواصي بالمرحمة، فإن المسلمين كانوا يزكون ويتصدقون، وأيديهم كانت العليا، ما تدع ثغرة للبأساء والضراء إلا سدتها، ولا حاجة من حاجات البشر يبدو فيها الفقر إلا بدا فيها العون الإسلامى، وكان المسلمون يومئذ طول ألف سنة تقريبا سادة العالم، فقدموا للناس مع العلم النضير الخلق الزاكي، والأدب العالي، كان المسلمون -كما قلت- طليعة تقدمية في كل مجال، والذي أفاء عليهم هذا الفضل هو الإسلام.

ثم بدأ المسلمون ينحدرون ويبتعدون عن دينهم، وتهتز ثقتهم في وحيهم، وتضطرب خطاهم بعيدا عن توجيهات الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، فأصابهم ما أصابهم، وبعد أن كانوا أمة طليعة في العالم أصبحوا أمة متخلفة، ينظر إليها الآخرون بازدراء.

عندما حدثت قصة "المفاعل الذري" في العراق بدأت أفكر طويلا في هذا الموضوع، قلت في نفسي: المفاعل من صنع العقل الفرنسي المتقدم في فهم الكون وتطبيق أسرار المادة على مرافق الخلق، ما الذي جعلنا نتحول إلى تلامذة لغيرنا في هذا المجال؟ تأخرنا، تأخرنا، ثم بالمال الذي داوى جراحاتنا أمكن استقدام هذا المفاعل وهو فرنسي الصنع، ما بقى بعد ذلك إلا أن يحمى، إلا أن يحرسه من اشتروه، ثم قرأت أن الذين أغاروا عليه كأنما كانوا يغيرون على مدينة مفتوحة الدفاع، القذائف طائشة، كأنه لا حراس هنالك، تغيظت في نفسى وقلت: أين هؤلاء الحراس؟ أكانوا يحششون؟ أم كانوا سكارى؟ أكانوا نائمين؟ أين هؤلاء المدافعون؟!.

ثم بدأت أسخر من أحوال المسلمين، قلت في نفسي: لو أن التربية الإسلامية سيطرت على تكوين هؤلاء؛ لأدرك كل منهم معنى الحديث: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله" لو أدرك هذا الحديث وربَّى على قواعده لظل طول الليل ينقب في الأفق، ويحرس الأرض والسماء من أي عدو مغير، لكن مَن الذي يعلمه هذا الحديث؟ العرب نسوا رسولهم، العرب نسوا كتابهم؛ من يعلمه هذا الحديث؟ لا أحد.

لو علم هذا الحديث، وتقرب إلى الله؛ لكان هدفه الذي يصوب إليه في الصميم، لأن الخطأ في "ملليمتر" عند يصوب المدفع من أسفل قد يختلف بـ "كيلو متر" في الأفق، فالذي يسدد القلب، ويلهم الرشد، ويضبط الأعصاب، ويحرك الأصابع، الله! يوم أكون معه أقاتل من أجله كان يمكن أن الطائرة المغيرة تلتهمها قذيفة مني فتنزل إلى الأرض! لكن الله تخلى عني، لأنني لا أعرفه ولا أعرف نبيه. أنا قلت: بعث عربي ولم أقل: بعث إسلامي، بعث إسلامي لا. لا إسلام، تخلى الله عني، وتخلى عباده البررة والفجرة عني، فمَن لي؟ (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) [الملك:20-21]، بعث عربي، قومية عربية، وطنية مصرية، عبادة للتراب، تقديس للجنس، تقديس للدم، أين الله ورسوله؟ أين الكتاب والسنة؟ أين الينابيع التي نستقي منها؟ أين المعارج التي صعدنا فيها كما يصعد البواب في "أسنسير" فيصعد به إلى أعلى؟!.

هكذا فعل الإسلام بنا، صعد بنا طبقات رفيعة، فلم تركناه؟ هذا شيء عجيب، وبدأنا نشعر بأن العالم ازدرانا، أعداء يغيرون علينا، يمرون بأجواء أربعة أقطار عربية ما يحس بهم أحد، ويضربون المفاعل ويرجعون ما فقد أحد منهم نعله! انتزع الله مهابتنا من قلوب أعدائنا فكان هذا الذي رأيناه، قررنا أن نعود إلى ديننا، الحقيقة التي أذكرها: أننا فعلا قررنا أن نعود إلى ديننا بعد الضربات الموجعة، واللطمات المخزية التي نالتنا من كل جبهة، بيدي لمست العودة من الأطلسي إلى الهندي إلى الهادي، وإن كنت لم أذهب إلى المحيط الهادي، لكن أخوتنا في الفلبين -في جبهة مورو- يقاتلون قتال الجبابرة.

ولكن هذه النهضة تحتاج إلى توجيه، فإن الإسلام الذي نهض بالعرب قديما نهض بهم كما ذكرت لكم، جعلهم طليعة علمية، وطليعة خلقية، جعلهم أفقا روحيا صافيا نقيا، جعل قدرتهم المادية ونشاطهم العام موضع الاحترام في كل مكان، إلا أن المسلمين الآن لما أرادوا العودة إلى دينهم ضل بهم الطريق، ولم يحسنوا العودة لأنهم أحبوا أن يأخذوا الدين قشورا لا أن يأخذوه عقلا نقيا وخلقا سنيا وقلبا موصولا بالله يستمد منه ويلجأ إليه، ولألفت النظر إلى هذا المعنى.

لقد تأكدت أن المسلمين يجب أن يعيدوا النظر في سياستهم التربوية والجماعية، والأخلاقية والسلوكية، والعلمية والثقافية؛ حتى يمكن أن يقفوا ندا لند أمام أعدائهم الذين تربصوا بهم. الخطط التي دعت لأكلنا بعيدة المدى، فـ "هرتزل" قبل سنتين من نهاية القرن التاسع عشر بدأ مع حكماء إسرائيل يخططون لأخذ القدس وفلسطين، أي بدأوا من نحو ثلاث وثمانين سنة، ووضع أولئك الناس خطة لخمسين سنة، ومعنى ذلك أنهم بذروا وتركوا لأولادهم ولأحفادهم أن يحرثوا البذر، وأن يحققوا النتائج.

لا توضع عندنا خطط من هذا النوع، الخطط عندنا لخمسين يوما لا لخمسين سنة، إن وضعت خطة، الخطط سريعة مرتجلة فيها قصور الطفولة وقصور الفكر، وجاء هؤلاء إلى فلسطين، ودرسوا كل شبر من الأرض، عرفوا المياه الجوفية هنالك، وعرفوا مهاب الريح والقدرة على استغلالها كطاقة هوائية، بل الآن الطاقة الشمسية -تقريبا- تملأ مدن فلسطين، ما السبب؟ هؤلاء درسوا الحياة، الحكومة هناك غير الحكومات في العالم الإسلامي، الحكومات في العالم الإسلامي شيء آخر، حكومة هولندا مثلا، من ثلاث سنوات استقالت الملكة واختفت عن الأنظار، لم؟ لأن زوجها اتهم في قضية رشوة! أترى ربَّكَ يَهْزِمُ هؤلاء الذين يحسنون الحسن، ويقبحون القبيح، ويحقرون الرشوة، ويحكمون على المرتشين -ولو كانوا ملوكا- أن يختفوا؟ أترى ربك يهزم هؤلاء ويترك المسلمين أصحاب الفخامة تمتليء خزائنهم بالمال الحرام من كل ناحية؟! وما يجرؤ أحد أن يقول لهم شيئا! أترى ربك يهزم هؤلاء ويقول للمسلمين: احكموا العالم بإباحة الرشوة أو بتيسيرها أو بعدم اعتراضها؟ أي كلام هذا؟ أي فكر هذا؟.

الأمة الإسلامية لابد أن ترسم سياسة بعيدة المدى للحكم، للمال، المال الذي قال الله فيه: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) [النساء:5]، المال الإسلامي هو الآن الطاقة التي تحرك بنوك الغرب في أمريكا و في أوربا، مليارات من الدولارات يملكها العرب. ماذا يفعل العرب بهذه الأموال؟ أنا قرأت لصديق مسلم يستغيث من أن الفقير المسلم في إندونيسيا يضيع دينه لأنه محتاج للطعام! القرن الأفريقي جف، الجفاف أكله، ولا من يغيث، والبعثات التبشيرية متخصصة في سرقة العقائد من أولئك العراة الجياع.

من ثلاثين سنة جاءت امرأة بروتستنتينية من أمريكا قرأت في العهد القديم لترى (بختها) فوجدت كلمة (مصر)، فقالت : أذهب إلى مصر، وجاءت إلى مصر، وعرض عليها أحد الجنرالات أن يتزوجها فأبت، وفتحت "شقة" لها في "أسيوط" وأمام الشقة سرير للقطاء، أي لقيط تستقبله، والآن -هي ماتت- لديها مستعمرة فيها أكثر من ألفي شاب وشابة تنصروا على المذهب الإنجيلي -المذهب البروتستني- أسأل: أين كان العلماء في معهد أسيوط؟ أين المسلمون؟ أين الحكام؟ لا شيء، وكما قال القائل:

وَمَنْ رَعَى غَنَماً فِي أرضِ مَسْبَعَةٍ وَنَامَ عَنْهَا تَوَلَّى رَعْيَهَا الأسَدُ

جاء الذئب فرعى الغنم؛ لأنه ليس لها حارس، ليس لها راع، ما السبب؟ أمة مغفلة، والقانون لا يحمى المغفل، ماذا كنا نصنع؟ هذا ما سألت نفسي عنه، ولذلك أجد لتوضيح الإجابة أن ألفت أنظار المسلمين إلى أمرين، وقبل توضيح الأمرين، نلاحظ أن القرآن دائما يقول: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) نحو سبعين آية: (آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ما هي الصالحات؟.

الكلمة في اللغة العربية كلمة عامة، اسم موصول على صفة يفيد العموم، كل شيء صالح، بالدراسة والفقه والتفكير وجدث أن الأشياء الصالحة نوعان لا يغنى أحدهما عن الآخر، قسمان، كما أن الكلمة اسم وفعل وحرف فكذلك الأعمال الصالحة، بعضها حدد الشارع له وضعا كالصلاة والزكاة والصيام والحج، فكل هذا له صورة خاصة، له مواصفات خاصة، له أزمنة وأمكنة محددة انفرد الشارع بها، ولكن هناك أشياء تركها الشارع لنا دون تحديد، لماذا؟ لأن طبيعتها تفرض التغير والتطور بين بيئة وبيئة، وزمان وزمان، هذا النوع الأخير نعطيه صورة سريعة، هناك أولا الحقائق الدينية التي ذُكرت ولم تذكر وسائلها، مثل إقامة العدل، العدل حق، والأمم التي يضيع فيها العدل لابد أن تهان، وكما قال ابن تيمية: إن الله ينصر الدولة الكافرة بعدلها على الدولة المسلمة بجورها! وكما قال الله (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود:117]، وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع".

كيف نقيم الحق؟ هذه أمور تحتاج إلى وسائل تختلف باختلاف الزمان والمكان، كيف أقيم محام للرؤساء والملوك والوزارات والكبراء والأغنياء حتى أضمن الحق؟ ما هي المصافي التي أضعها في المجتمع لتحجز المال الحرام وتستبقى لأصحابه المال الحلال؟ هذا كله متروك للزمان والمكان واختلاف العصور، الجهاد، الجهاد حق، لكن ما وسائله؟ لم ترسم وسائله، لكن إذا كانت الوسائل الآن مكوكا فضائيا فعلى المسلم الذي كتب عليه القتال أن يكون بارعا في قيادة مكوك فضائي، وإلا فهو خائن للإسلام؛ لأن الشيوعية تقول: لا إله، الكون ليس له صاحب، العالم ليس له رب، من لم يعجبه هذا الكلام فعصانا في أيدينا نهوى بها على أم دماغه!.

فكيف تحمى التوحيد؟ وكيف تحمى الإيمان؟ إذا كانت الشيوعية مسلحة بالأقمار الصناعية وأنت مسلح بالجدل الفارغ، والكلام التافه، فستهزم الإسلام، وتضيع كلمة التوحيد من بين أصابعك، لا وسائل لك لتحميها.

فالصالحات نوعان: نوع حدد الإسلام مراسمه وصوره، ونوع ترك الإسلام للعقل العادي، للفطرة السليمة، للنية الخالصة، للرغبة العميقة في حماية الكتاب والسنة، ترك هذا لاجتهادنا. الذي حدث أن الأمة الإسلامية بالنسبة لما وضعت له مراسم وصور فرَّغت الصلاة من محتواها الروحي والأدبي والخلقي والخشوعي وجعلتها صورا، والتفتت للصور، ولم تلتفت للروح، وكانت النتيجة: صلوات لا تنهى عن فحشاء ولا منكر.

أما ما لم يضع الإسلام له صورة فقد جهلناه تماما، لا يزال الطب يستورد من الخارج، الدواء لا يزال يستورد من الخارج والأسماء الأجنبية فوقه، أين المسلمون؟ العيب الخطير في دراسة الإسلام أن كلمة: فرض عين، وفرض كفاية لم تفهم على حقيقتها، فهم الناس أن فرض الكفاية يعنى أنهم غير مسئولين عنه، قد يقوم به الآخرون ويسقط من على أكتافنا، لابد أن نعلم أن فرض العين وفرض الكفاية كلاهما مطالب به الإنسان طلبا جازما حاسما، وأن التفريط فيه خيانة، لكن يحتاج الأمر إلى شيء من الإيضاح، هناك عبادة عامة، لا يختلف الناس في أدائها يحسنها الكل، فالتكليف بها قاسم مشترك، لكن هناك عبادة أخرى تحتاج إلى موهبة معينة، هي فرض على صاحب الموهبة يأتي من المجتمع أو يتقدم هو إذا كان يأنس من نفسه التقدم، أنا رجل لا أستطيع بناء هذا المسجد، لكنني أستطيع بناء مقالة أو بناء كتاب، هذه موهبتي، فتأليف الكتاب فرض علي، يخزيني الله يوم القيامة -وأعوذ بالله- إذا فرطت في هذا الفرض، فهو فرض عين بالنسبة لى، الذي يستطع الإشراف على بناء هذا المسجد فرض عين عليه أن يقيم البناء وأن يشرف عليه، ويخزيه الله يوم القيامة إذا فرط فيه.

هناك مجموعات من الأعمال لا ينهض الإسلام إلا بتشكيلتها، المجتمع يبحث عن الشخص الذي يصلح للطب، الذي يصلح للصيدلة، الذي يصلح للهندسة، فإذا اختير الإنسان ليكون طبيبا فمعنى ذلك أن مهارته في الطب وأداءه للصلاة ركنان في حياته، كلاهما كالآخر تماما، يسأل عنه أمام الله، لم؟ لأن عقيدة التوحيد لا تبقي في الأرض إلا إذا خدمتها هذه التشكيلة من المواهب.

الذي حدث أن أعدادا كبيرة من المسلمين لم تفهم أن الإسلام يخذِّل في شئون الدنيا؟ يخذل في المحراب، ولذلك وجدنا أعدادا من المسلمين يموج بعضها في بعض، لماذا؟ الدجاج الذي نأكله لا ندرى كيف ذبح؟ سبحان الله! هل تربية الدجاج تحتاج إلى عقل ذرِّي؟ هل إقامة مزارع للدجاج تحتاج إلى عبقريات تستورد من أمريكا أو من المريخ؟ والله يوم يحتاج المسلمون في تربية الدجاج إلى خبراء من كل ناحية فإن بقاءهم في الحياة لا معنى له، وفروغ الحياة منهم أفضل. ما الذي يجعل المسلمين عجزة في كثير من الميادين؟ نشتبك مع اليهود فيغلبنا اليهود، نشتبك مع النصارى فيغلبنا النصارى، نشتبك مع الشيوعيين فيغلبنا الشيوعيون، أفغانستان هجموا عليها بين عشية وضحاها، وبقي المسلمون يتسولون سلاحا، وإذا وجدوا سلاحا يتسولون من يدرب عليه، وإذا وجدوا السلاح والمدرب يتسولون الطبيب، الذي يداوى الجرحى، ما هذا كله؟!.

إنني أطلب من المسلمين بإلحاح أن يبدؤوا فيغيروا فكرهم عن الدين والدنيا، فإنهم بهذا التفكير القاصر سوف يجرون الهزائم على أنفسهم في ميادين كثيرة، وكما قلت، والله وجدت شبابا مخلصا، وحماسا لله رائعا، ورغبة في افتداء الدين عميقة، لكن الأمر يحتاج إلى توجيه، وإلى رسم الخطط السليمة، وإلى العمل البارع الرائع، الذي يربطنا بديننا، ويجعلنا نحسن خدمته على نحو سليم سديد.

الخطبة الثانية:

الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].

وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: أيها الأخوة: الإسلام الآن في القرن الخامس عشر له، لو مددت بصري إلى تاريخنا القديم وتساءلت: هل استراح الإسلام يوما؟ الجواب: لا؛ إن الأعداء تربصوا به، ووقفوا له بالمرصاد في كل ميدان، إن رب العالمين لم يفترض علينا الجهاد إلا لأنه يعلم أن كل خادم للباطل يكره الحق، وكل خادم للوثنية يكره التوحيد، وكل خادم للشرك ينتصب معترضا القافلة التي تكبر ربها، وتذكر أمداده، وتحيى كماله وجماله وجلاله.

لقد درست الإسلام، وأقول: الحمد لله على نعمة الإسلام وتوفيق الإيمان، إن الله لما ورثكم هذا الدين توجكم بشرف نرجو أن نكون جميعا أهلا له، إن عبوديتنا لله الواحد شرف، وإن تبعيتنا للنبي الخاتم -النبي العربي المحمد- شرف، لكن أعداء الله ورسوله كثيرون، وهم يضنون علينا بهذا الشرف، وقد تواصوا فيما بينهم أن يضيعوا الإسلام، وأن يمحوا كتابه، وأن يسقطوا نبوته، تواصوا بينهم، وعقدوا المؤتمرات على هذا، أنا لا أستغرب عداوة عدو لأني درست تاريخنا -أربعة عشر قرنا- ووجدت أن القبح يطارد الجمال، والخسة تطارد الشرف، والكذب يطارد الصدق، وأتباع الخرافة في كل ناحية يكرهون الكتاب الذي قال منزله: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) [الإسراء:105]، فلا استغراب إذا وجدنا الأعداء كثيرين، لكن الغرابة أن تنام ملء عينك والأعداء يبيتون لذبحك! إن الألف مليون مسلم الذين ينتسبون إلى هذا الدين -على ما بهم- يراد لهم الشر، والعالم يتربص بهم، ولكن قبل أن ألوم الآخرين لنيلهم منا، أريد أن أقول للمسلمين: ما دمتم لا ترشدون نهضتكم، ولا تحسنون خطتكم فلا تلوموا أعداءكم، ولوموا أنفسكم.

نحن بحاجة إلى أن نحسن أداء واجبنا، وأن نتعرف بذكاء وألمعية كيف نخدم ديننا، وكيف نرد الأعداء عنا، لقد وجدت شبابا فيهم طيبة فعلا ولكن يحتاجون إلى من يضعهم على أوائل الطريق؛ لكي يخدموا دينهم خدمة فيها صواب، ولها نتيجة، أما الطريقة التي يعيش بها الكثيرون من حماس ينقصه العقل، أو من معرفة ينقصها الإخلاص، فإن هذا لا يخدم الإسلام.

"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].

أيها الأخوة، وقبل أن نقيم الصلاة، المفروض أننا بالأمس نكون قد أرسينا الحجر الأساسي لمسجد ومعهد دينى وقاعة محاضرات بـ "الزاوية الحمراء" لكن تأخر هذا إلى هذا الأسبوع، وإن غدا لناظره قريب. نحن -كما أوضحت لكم- نتوافق على أن القاهرة تبقى عاصمة للإسلام، وأن وجهها الإسلامي لا يقبل بتة أي تغيير له، أو أي تشويه فيه.

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90]