المتكبر
كلمة (المتكبر) في اللغة اسم فاعل من الفعل (تكبَّرَ يتكبَّرُ) وهو...
العربية
المؤلف | مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - التاريخ وتقويم البلدان |
هذه هي الآيات الثماني الأولى من سورة طه، وتهدف إلى إظهار شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- في شَدِّ أزره، وتقوية روحه، حتى لا يتأثر بما يلقى إليه من الكيد والعناد والاستهزاء والتكذيب، والإشارة إلى مهمته الأساسية وهي التبليغ والتذكير والإنذار والتبشير، وليس عليه أن يجبر الناس على الإيمان ..
الحمد لله الذي أنزل القرآن تذكرة لمن يخشى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صَلِّ وسلِّمْ عليه وعلى آله وصحبه الأخيار، وأتباعه على نهجه القويم إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، سورة طه هي السورة العشرون في ترتيب المصحف الشريف، وآياتها خمس وثلاثون ومائة آية، وهي سورة مكية، تبحث عن نفس الأهداف المكية، وغرضها تركيز أصول الدين: التوحيد والنبوة والبعث والنشور.
وسميت بـ: (سورة طه)، قيل: هو اسم من أسماء النبي -صلى الله عليه وسلم- تطييباً لقلبه، وتسلية لفؤاده عما يلقاه من صدود وعناد؛ ولهذا ابتدأت به السورة الكريمة بملاطفته بالنداء.
(طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى) [طه:1-2]، وقيل إنه من الحروف المقطعة للتنبيه إلى إعجاز القرآن، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: معناه: يا رجل. ومعنى الآية: ما أنزلنا عليك القرآن يا محمد لتشقى به، إنما أنزلناه رحمة وسعادة.
روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما نزل عليه القرآن صَلَّى هو وأصحابه فأطال القيام، فقالت قريش: ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى! فنزلت هذه الآية، وقوله: (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى) [3]، أي: ما أنزلناه إلا عظة وتذكيراً لمن يخشى الله ويخاف عقابه، وهو المؤمن المستنير بنور القرآن.
(تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا) [4]، أي: أنزله خالق الأرض، ومبدع الكون، ورافع السماوات الواسعة العالية، (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [5]، أي: هو الله المتصف بصفات الكمال والجلال، هو الرحمن الذي استوى على عرشه استواء يليق بجلاله، وعظمته، من غير تجسيم ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل، كما هو مذهب السلف.
(لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) [6]، أي: له سبحانه ما في الوجود كله، السماوات السبع، والأرضون، وما بينهما من المخلوقات، وما تحت التراب من معادن ومكونات، الكل ملكه، وتحت تصرفه وقهره وسلطانه.
(وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) [7]، أي: وإن تجهر يا محمد بالقول أو تخفيه فسواء عند ربك؛ فإنه يعلم السر وما هو أخفى منه، كالوسوسة والهاجس والخاطر.
والغرض من هذه الآية طمأنينة قلبه -صلى الله عليه وسلم- بأن ربه يسمعه ولن يتركه وحيداً يواجه الكافرين بلا سند؛ فإن كان يدعوه جهراً فإنه سبحانه يعلم السر وما أخفى منه، والقلب حين يستشعر قرب الله منه، وعلمه بسره ونجواه، يطمئن ويرضى ويأنس بهذا القرآن الكريم.
(اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) [8]، أي: ربكم هو الله المتفرد بالوحدانية، لا معبود بحق سواه، له الأسماء الحسنة التي هي غاية الحسن، وفي الحديث: "إن لله تسعاً وتسعين اسماً، مَن أحصاها دخل الجنة".
هذه هي الآيات الثماني الأولى من سورة طه، وتهدف إلى إظهار شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- في شَدِّ أزره، وتقوية روحه، حتى لا يتأثر بما يلقى إليه من الكيد والعناد والاستهزاء والتكذيب، والإشارة إلى مهمته الأساسية وهي التبليغ والتذكير والإنذار والتبشير، وليس عليه أن يجبر الناس على الإيمان.
ثم تعرضت السورة لقصص الأنبياء؛ تسلية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتطميناً لقلبه، فذكرت بالتفصيل قصة "موسى وهارون" -عليهما السلام- مع فرعون الطاغية الجبار، ويكاد يكون معظم السورة في الحديث عنها، وبالأخص موقف المناجاة بين موسى وربه، وموقف تكليفه بالرسالة، وموقف الجدال بين موسى وفرعون، وموقف المبارزة بينه وبين السحَرة، وابتلاء قومه بعبادة العجل عندما أوقعهم السامري في الضلالة؛ بسبب تزيينه لهم عبادة العجل.
وتتجلى في ثنايا تلك القصة رعاية الله لموسى نبيه وكليمه، وإهلاك الله لأعدائه الكافرين المجرمين، وقد أخذت هذه القصة بمواقفها المختلفة من السورة الكريمة ما يقرب من تسعين آية؛ ولأنها مواقف عظيمة، وخشية الإطالة فقد رأيت أن أتكلم عن موقفين للكليم موسى -عليه السلام- في هذه السورة: موقفه مع السحرة، وموقفه مع الساحر السامري.
ويبدأ موقف موسى -عليه السلام- مع السحَرة عندما كذبه فرعون فيما جاء به، ولم يؤمن بالآيات العظيمة المعجزة التي أعطاها الله سبحانه لموسى، وهي اليد والعصا، حيث زعم فرعون الشقي أن موسى -عليه السلام- ساحر، فقال فرعون: أجئتنا بهذا السحر لتخرجنا من أرضنا (أرض مصر)؟ فلَنُعارضَنَّكَ بسحرٍ مثل الذي جئت به؛ ليظهر للناس أنك ساحر ولست برسول.
وطلب منه أن يعين وقتاً لا يخلفون ذلك الوعد من جهة فرعون ومن جهة موسى، ويكون مكاناً معيناً ووقتاً معيناً، قال موسى: موعدنا للاجتماع يوم العيد، وكان يوم عيدهم يسمى (يوم الزينة)، وأن يجمع الناس ضحى ذلك النهار. قال المفسرون: وإنما عين ذلك اليوم للمبارزة ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الأشهاد، ويشيع ذلك في الأقطار بظهور معجزته للناس.
فانصرف فرعون فجمع السحرة، ثم أتى الموعد ومعه السحرة وأدواتهم وما جمعه من كيد ليطفئ نور الله، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- كانوا اثنين وسبعين ساحراً، مع كل ساحر منهم حبال وعِصِيّ، فقال موسى للسحرة لما جاء بهم فرعون: ويلكم! لا تختلقوا على الله الكذب فيُهلِككم ويستأصلكم بعذاب هائل، وقد خسر وهلك من كذب على الله. قدَّم لهم النصح والإِنذار لعلَّهم يثوبون إلى الهُدى.
ولما سمع السَّحرة منه هذه المقالة هالهم ذلك، ووقعَتْ في نفوسهم مهابته؛ ولذلك تنازعوا في أمر موسى واختلفوا، فقال بعضهم: ما هذا بقول ساحر! وأخفوا ذلك عن الناس، وأخذوا يتناجون سرّاً، وقالوا بعد التشاور: ما هذان -يقصدون موسى وهارون- إِلاّ ساحران يريدان الاستيلاء على أرض مصر وإِخراجكم منها بهذا السحر، وغرضُهما إِفسادُ دينكم الذي أنتم عليه والذي هو أفضل المذاهب والأديان، وكان تلفيقهم لهذا الكلام وتزويره خوفاً من غلبة موسى وهارون عليهم، وتثبيط الناس من اتباعهما.
ثم قالوا بينهم: أحْكِموا أمركم، واعزموا عليه، ولا تتنازعوا، وارموا عن قوسٍ واحدة، ثم ائتوا إلى الميدان مصطَفِّينَ؛ ليكون أهيب في صدور الناظرين، وقد فاز اليوم من علا وغلب. قال المفسرون: أرادوا بالفلاح ما وعدهم به فرعون من الإنعامات العظيمة، والهدايا الجزيلة، مع التقريب والتكريم.
بعد ذلك قال السحرة لموسى: إِمَّا أن تبدأ أنتَ بالإِلقاء أو نبدأ نحنُ، خيرَّوه ثقةً منهم بالغلبة على موسى؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنَّ أحداً لا يقاومهم في هذا الميدان. قال لهم موسى: بل ابدؤوا أنتم بالإِلقاء، فألقَوا؛ فإِذا تلك الحبال والعصيُّ التي ألقوها يتخيلها موسى ويظنُّها -من عظمة السحر- أنها حيات تتحرك وتسعى على بطونها، والتعبيرُ يوحي بعظَمة السحر، حتى إن موسى فزع منها واضطرب وأحسَّ الخوف في نفسه، بمقتضى الطبيعة؛ لأنه رأى شيئاً هائلاً.
وقال له الله -عز وجل-: لا تخَفْ، ممّا توهمتَ فإِنك أنت الغالب المنتصِر، وأَلقِ عصاك التي بيمينك تبتلعْ بفمها ما صنعوه من السحر، فالذي اخترعوه وافتعلوه هو من باب الشعْوَذَةِ والسحر، ولا يسعد الساحر حيث كان، ولا يفوز بمطلوبه؛ لأنه كاذب مضلِّل؛ فألقى موسى عصاه فابتلعت ما صنعوا، فخرَّ السحرة حينئذٍ سُجَّداً لله ربّ العالمين لما رأوا من الآيات الباهرة: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) [70].
قال ابن كثير: لما ألقى موسى العصا صارت ثعباناً عظيماً هائلاً، ذا قوائم وعُنق ورأس وأضراس، فجعلت تتَّبع تلك الحبال والعصي حتى لم تُبْق شيئاً إِلا ابتلعَتْه، والناس ينظرون إِلى ذلك عياناً نهاراً، فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه علموا علم اليقين أن هذا ليس من قبيل السحر والحِيَل، وأنه حقٌّ لا مرية فيه، فعند ذلك وقعوا سُجَّداً لله، فقامت المعجزة، واتضح البرهان، ووقع الحق، وبطل السحر. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: كانوا أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة.
وقال فرعون للسحرة بعد إيمانهم: آمنتم بموسى وصدقتموه بما جاء به قبل أن أسمح لكم بذلك، وقبل أن تستأذنوني؟ إِنه رئيسكم الذي علَّمكم السحر -يقصد موسى- فاتفقتم معه لتذهبوا بملكي، ثم توعَّدهم وهدَّدهم بالقتل والتعذيب، فقال: لأُقطِعنَّ أيديكم وأرجلكم مختلفات بقطع اليد اليمنى، والرجل اليسرى أو بالعكس، ولأعلقنكم على جذوع النخل، وأقتلنكم شرَّ قِتْلة ولتعلمُنَّ -أيها السحرة- من هو أشدُّ منا عذاباً وأدوم، هل أنا أم ربُّ موسى الذي صدقتم به وآمنتم.
فقال السحَرة: لن نختارك ونفضّلك على الهدى والإِيمان الذي جاءنا من الله على يد موسى ولو كان في ذلك هلاكنا، مقسمين بالله الذي خلقنا، فاصنع ما أنت صانع، إِنما ينفذ أمرك في هذه الحياة الدنيا وهي فانية زائلة، ورغبتنا في النعيم الخالد عند الله -عز وجل-، قال عكرمة: لما سجدوا أراهم الله في سجودهم منازلهم في الجنة؛ فلذلك قالوا ما قالوا.
ثم قالوا: آمنا بالله ليغفر لنا الذنوب التي اقترفناها، وما صدر منا من الكفر والمعاصي، وأن يغفر لنا السحر الذي أكرهتنا على عمله لإِطفاء نور الله، والله خيرٌ منك ثواباً، وأبقى عذاباً، وقالوا لفرعون: إنه مَن يلقَ ربه يوم القيامة وهو مجرمٌ باقترافه المعاصي وموته على الكفر، فإِن له نار جهنم لا يموت في جهنم فينقضي عذابه، ولا يحيا حياة طيبة هنيئة، ومَن يلقَ ربه مؤمناً موحّداً وقد عمل الطاعات وترك المنهيات فأولئك لهم المنازل الرفيعة عند الله، (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أبداً وَذَلِكَ جزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) [76].
عباد الله: سنكمل الحديث -إن شاء الله- عن سورة طه في الخطبة الثانية، نفعني الله وإياكم بهذه السورة، وبهدي كتابه الكريم، وسنة خاتم المرسلين، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين القائل: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [82]، وأشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
عباد الله: استكمالا للحديث عن سورة طه والتي أخذت قصة موسى -عليه السلام- جلها ورد فيها قصته مع السامري، ذلك الساحر الضال؛ فإن الله سبحانه بعد أن أهلك فرعون وقومه بالغرق ومكن لموسى وبني إسرائيل في الأرض كان موسى قد مضى مع النقباء الذين اختارهم من قومه إلى الطور على الموعد المضروب، وعددهم اثنا عشر رجلا، ثم تقدمهم شوقا إلى كلام ربه.
وسأله ربه -عز وجل- عن ذلك التعجيل عن قومه، فأجاب موسى بأن قومي قريبون مني وهم على أثري لم أتقدمهم إلا بشيء يسير، وهم يأتون بعدي، وعجلت إلى الموضوع الذي أمرتني بالمجيء إليه لتزداد رضاً عني، فقال له الله سبحانه: إنا قد ابتلينا قومك بعبادة العجل من بعد ذهابك من بينهم وأوقعهم السامري في الضلالة؛ بسبب تزيينه لهم عبادة العجل.
وكان السامري ساحراً منافقاً من قوم يعبدون البقر، وقال المفسرون: كان موسى حين جاء لمناجاة ربه قد استخلف على بني إسرائيل أخاه هارون وأمره أن يتعهدهم بالإقامة على طاعة الله، وفي أثناء غياب موسى جمع السامري الحُلِيَّ ثم صنع منها عجلاً ودعاهم إلى عبادته، فعكفوا عليه، وكانت تلك الفتنة وقعت لهم بعد خروج موسى من عندهم بعشرين يوماً.
ورجع موسى من الطور بعدما استوفى الأربعين يوماً، وأخذ التوراة غضبان شديد الحزن على ما صنع قومه من عبادة العجل، وقال لهم: ألم يعدكم الله بإنزال التوراة فيها الهدى والنور؟ أوَطال عليكم الزمن حتى نسيتم العهد؟ أم أردتم بصنيعكم هذا أن ينزل عليكم سخط الله وغضبه فأخلفتم موعدي؟.
فقالوا: ما أخلفنا العهد بطاقتنا وإرادتنا واختيارنا بل كنا مكرهين، حيث حملنا أحمالاً وأثقالاً من حلي آل فرعون فطرحناها في النار بأمر السامري، وكذلك فعل السامري، ألقي ما كان معه من حلي القوم في النار.
قال المفسرون: بنو إسرائيل قد استعاروا من قوم فرعون الحلي قبل خروجهم من مصر، فلما أبطأ موسى في العودة إليهم قال لهم السامري: إنما احتبس عليكم لأجل ما عندكم من الحلي، فجمعوه ودفعوه إلى السامري، فرمى به في النار، وصاغ لهم منه عجلاً، ثم ألقى عليه قبضة من أثر فرس جبريل -عليه السلام- فجعل يخور، والخوار هو صوت البقر، فقال لهم السامري: إن هذا العجل إلهكم وإله موسى، فنسي موسى إلهه هنا وذهب يطلبه في الطور!.
فقال الله تعالى رداً عليهم، وبيانا لسخافة عقولهم في عبادة العجل: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى * قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) [89-93].
قال المفسرون: وأمره ما كان أوصاه به من خلافته في قومه والإصلاح، وعدم إتباع طريق المفسدين، فرد هارون بقوله: (قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) [94].
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: أخذ شعر رأسه بيمينه، ولحيته بشماله من شدة غيظه وفرط غضبه؛ لأن الغيرة في الله ملَكته. والمعنى: قال هارون استعطافاً وترقيقاً: يا أخي لا تأخذ بلحيتي ولا بشعر رأسي، إني خفت إن زجرتهم بالقوة أن يقع قتال بينهم فتلومني على ذلك وتقول لي: لقد أشعلت الفتنة بينهم ولم تنتظر أمري فيهم؛ فمن أجل ذلك رأيت أن لا أفعل شيئاً حتى ترجع لتتدارك الأمر بنفسك.
فقال موسى: ما شأنك يا سامري فيما صنعت؟ وما الذي حملك عليه؟ فقال السامري: رأيت ما لم يروه، وهو أن جبريل لما جاء على فرسه الحياة، فألقى في نفسي أن أقبض من أثره قبضة فما ألقيته على لا شيء دبت فيه الحياة، فطرحتها على العجل فكان له خوار، وكذلك حسَّنَت وزينت لي نفسي: (أي عملي هذا).
قال موسى للسامري: عقوبتك في الدنيا ألا تمس أحداً ولا يمسك أحد في الدنيا، وإن لك موعداً في الآخرة لن يتخلف، وأنظر إلى هذا العجل الذي قمت عليه ملازماً على عبادته لَنُحَرِّقنه في النار، ثم لنصيرنه رماداً في البحر، لا يبقى منه عين ولا أثر، وقال موسى لبني إسرائيل: إنما معبودكم المستحق للعبادة هو الله الذي لا رب سواه، وسع علمه كل شيء، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
وعرضت السورة بعد ذلك لقصة آدم بشكل سريع خاطف، برزت فيه رحمة الله لآدم بعد الخطأ الذي حدث منه، وهدايته لذريته بإرسال الرسل مبشِّرين ومنذرين، ثم ترك الخيار لهم لاختيار طريق الخير أو الشر.
وفي ثنايا السورة تبرز بعض مشاهد القيامة في عبارات يرتجف لها الكون، وتهتز لها القلوب هلعاً وجزعاً، ويعتري الناس الذهول والسكون: (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) [108-111].
وعرضت السورة ليوم الحشر الأكبر، حيث يتم الحساب العادل، ويعود الطائعون إلى الجنة، ويُذْهَب بالعصاة إلى النار؛ تصديقاً لوعد الله الذي لا يتخلف بإثابة المؤمنين، وعقاب المجرمين.
وخُتِمَت السورة ببعض التوجيهات الربانية للرسول -صلى الله عليه وسلم- في الصبر وتحمُّل الأذى في سبيل الله، حتى يأتي نصر الله، (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى * وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [129-132].
أسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا، وأن نكون من الصابرين المصلِّين المتبعين لسنة خاتم المرسلين محمد -صلى الله عليه وسلم-، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
وصلُّوا وسلِّموا -عباد الله- على خاتم رسل الله، نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.