المبين
كلمة (المُبِين) في اللغة اسمُ فاعل من الفعل (أبان)، ومعناه:...
العربية
المؤلف | مسفر بن سعيد بن محمد الزهراني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - أركان الإيمان |
سورة الأنعام إحدى السور المكية الطويلة، وآياتها خمس وستون ومائة آية، وترتيبها في المصحف الشريف السادسة، وقد تناولت القضايا الكبرى الأساسية وأصول الإيمان، وهذه القضايا يمكن تلخيصها فيما يلي: قضية الألوهية، قضية الوحي والرسالة، قضية البعث والجزاء ..
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام:1]، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) [2].
وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، قال له ربه -عز وجل-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [162]، صلَّى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: سورة الأنعام إحدى السور المكية الطويلة، وآياتها خمس وستون ومائة آية، وترتيبها في المصحف الشريف السادسة، وقد تناولت القضايا الكبرى الأساسية وأصول الإيمان، وهذه القضايا يمكن تلخيصها فيما يلي: قضية الألوهية، قضية الوحي والرسالة، قضية البعث والجزاء.
لذلك نجد الحديث في هذه السورة الكريمة مستفيضاً يدور بشدة حول هذه الأصول الأساسية للدعوة الإسلامية، ونجد سلاحها في ذلك الحجة الدامغة، والدلائل الباهرة، والبرهان القاطع عن طريق الإلزام والإقناع؛ لأن السورة نزلت في مكة على قوم مشركين.
ومن خصائص سورة الأنعام ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: نزلت سورة الأنعام بمكة ليلاً جملة واحدة، حولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح. وقال القرطبي، قال العلماء: هذه السورة أصل في محاجة المشركين، وغيرهم من المبتدعين، ومن كذب بالبعث والنشور، وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة.
ومما يلفت النظر في السورة الكريمة أنها عرضت لأسلوبين بارزين لا تكاد تجدهما بهذه الكثرة في غيرها من السور هما: أسلوب التقرير، وأسلوب التلقين.
أما الأسلوب الأول (أسلوب التقرير) فإن القرآن يعرض الأدلة المتعلقة بتوحيد الله والدلائل المنصوبة على وجود الله وقدرته وسلطانه وقهره في صورة الشأن المسلَّم به، ويضع ذلك في ضمير الغائب عن الحس الظاهر في القلب الذي لا يماري فيه قلب سليم، ولا عقل راشد في أنه تعالى المبدع للكائنات، صاحب الفضل والإنعام، فيأتي بعبارة(هو) الدالة على الخالق المدبر الحكيم، كقوله تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) [18].
أما الأسلوب الثاني، (أسلوب التلقين)، فإن يظهر جلياً في تعليم الرسول -صلى الله عليه وسلم- تلقين الحجة ليقذف بها في وجه الخصم بحيث تأخذ عليه سمعه، وتملك عليه قلبه، فلا يستطيع التخلص أو التفلت منها، ويأتي هذا الأسلوب بطريق السؤال والجواب، يسألهم ثم يجيب، كقوله تعالى: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [12].
وهكذا تعرض السورة الكريمة لمناقشة المشركين، وإفحامهم بالحجج الساطعة، والبراهين القاطعة التي تقصم ظهر الباطل، ومن هنا كانت سورة الأنعام من بين السور المكية ذات الشأن الكبير في تركيز الدعوة الإسلامية، تُقرِّر حقائقها، وتثبِّت دعائمها، وتفند شُبَه المعارضين لها بطريق التنويع العجيب في المناظرة والمجادلة، فهي تذكر توحيد الله -جل وعلا- في الخلق والإيجاد، وفي التشريع والعبادة.
وتذكر موقف المكذبين للرسل، وتقص عليهم ما حاق بأمثالهم من السابقين، وتذكر شُبَههم في الوحي والرسالة، وتذكر يوم البعث والجزاء، وتبسط لكل هذا بالتنبيه إلى الدلائل في الأنفس والآفاق وفي الطبائع البشرية وقت الشدة والرخاء، وتذكر أبا الأنبياء إبراهيم، وجملة من أبنائه الرسل، وترشد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى إتباع هداهم، وسلوك طريقهم في احتمال المشاق، وفي الصبر عليها، قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) [90].
وفي قصة أبي الأنبياء الخليل -عليه السلام- إقامة الحجة على مشركي العرب في تقديسهم الأصنام، فإن إبراهيم جاء بالتوحيد الخالص الذي يتنافى مع الإشراك بالله، وجميع الطوائف والملل معترفة بفضل إبراهيم -عليه السلام-، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [74].
أي: واذكر يا محمد لقومك عبدة الأوثان قول إبراهيم الذي يدَّعون أنهم على ملته لأبيه آزر منكراً عليه، أتتَّخِذُ أصناماً آلهة تعبدها وتجعلها رباً من دون الله الذي خلفك فسواك ورزقك؟ فأنت وقومك في ضلال عن الحق مبين واضح لا شك فيه.
ثم قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [75]، أي: نُرِي إبراهيم الملك العظيم والسلطان الباهر، وليكون من الراسخين في اليقين، أريناه تلك الآيات الباهرة.
قال مجاهد: فرجت له السماوات والأرض فرأى ببصره الملكوت الأعلى والملكوت الأسفل، (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا) [76]، أي فلما ستر الليل بظلمته كلَّ ضياء رأى كوكباً مضيئاً في السماء هو الزهرة أو المشترى، (قَالَ هَذَا رَبِّي)، أي: على زعمكم، قاله على سبيل الرد عليهم والتوبيخ لهم، واستدراجاً لهم لأجل أن يُعرِّفهم جهلهم وخطأهم في عبادة غير الله، (فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ)، أي: فلما غاب الكوكب قال: لا أحب عبادة مَن كان كذلك؛ لأن الرب لا يجوز عليه التغير والانتقال، لأن ذلك من صفات الأجرام.
(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي)، أي: فلما رأى القمر طالعاً منتشر الضوء قال هذا ربي، على الأسلوب المتقدم؛ لفتا لأنظار قومه إلى فساد ما يعبدونه، وتسفيهاً لأحلامهم، (فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) [77]، أي: فلما غاب القمر قال إبراهيم: لئن لم يُثَبِّتْنِي ربي على الهدى لَأكُونَنَّ من القوم الضالين، وفيه تعريض لقومه بأنهم على ضلال.
(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ)، أي: هذا أكبر من الكوكب والقمر، (فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) [78]، أي فلما غابت الشمس قال أنا بريء من إشراككم وأصنامكم.
(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [79]، أي: قصدت بعبادتي وتوحيدي الله الذي ابتدع العالم وخلق السماوات والأرض، مائلاً عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق، ولست ممن يعبد مع الله غيره.
(وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) [80]، أي جادلوه في شأن التوحيد وخوفوه، قال أتجادلونني في وجود الله ووحدانيته؟ وقد بصَّرني وهداني إلى الحق؟ ولا أخاف هذه الآلهة المزعومة التي تعبدونها من دون الله؛ لأنها لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، وليست قادرة على شيء مما تزعمون إلا أن يشاء الله ربي أن يصيبني بشيء من المكروه، فيكون أحاط علمه بجميع الأشياء، أفلا تتعظون وتعتبرون؟.
(وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [81]؟، أي: كيف أخاف آلهتكم التي أشركتموها مع الله في العبادة وأنتم لا تخافون الله القادر على كل شيء، الذي أشركتم به بدون حجة ولا برهان، فأينا أحق بالأمن؟ أنحن وقد عرفنا الله بأدلته، وخصصناه بالعبادة، أم أنتم وقد أشركتم معه الأصنام، وكفرتم بالله الواحد الديان؟ (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [82]، أي: لم يخلطوا إيمانهم بشرك لهم الأمن من العذاب، وهم على هداية ورشاد.
روي أن الآية لما نزلت أشفق أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال: -صلى الله عليه وسلم- "ليس كما تظنون؛ وإنما هو كمال قال لقمان لابنه: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان:13]".
ثم قال الله تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) [83]، أي تلك الحجج الباهرة التي أيد الله بها إبراهيم الخليل الدالة على وحدانية الله، أفول الكوكب والقمر والشمس، وأرشدناه لها ليحتج على قومه بها، نرفع درجات من نشاء بالعلم والفهم والنبوة.
وتعرض السورة لتصوير حال المكذبين يوم الحشر، وتفيض في هذا بألوان مختلفة، ثم تعرض لكثير من تصرفات الجاهلية التي دفعهم إليها شركهم فيما يختص بالتحليل والتحريم بالتنفير والإبطال.
ولنا وقفة من هذه السورة مع قول الله تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [94]، أي جئتمونا للحساب منفردين عن الأصل والمال والولد، حفاة عُراة غُرْلا، (وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ)، أي: تركتم ما أعطيناكم من الأموال في الدنيا فلم تنفعكم في هذا اليوم العصيب.
(وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ)ـ، أي ما نرى معكم آلهتكم الذين زعمتم أنهم يشفعون لكم، والذين اعتقدتم أنهم شركاء لله في استحقاق العبادة، (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ)، أي: تقطَّع وصلكم، وتشتت جمعكم، (وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [94]، أي ضاع وتلاشى ما زعمتموه من الشفعاء والشركاء.
وسميت السورة (بسورة الأنعام) لورود ذكر الأنعام فيها، والأنعام هي الإبل والبقر والغنم، قال تعالى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [136].
أي: جعل مشركو قريش لله مما خلق من الزرع والأنعام نصيباً ينفقونه على الفقراء ولشركائهم، ونصيباً يصرفونه إلى سدنتها، فقالوا: هذا نصيب الله بزعمهم، أي بكذبهم وبدعواهم من غير دليل ولا شرع، وهذا النصيب لآلهتنا وأصنامنا، وما كان للأصنام فلا يصل إل الله منه شيء، وما كان من نصيب الله فهو يصل إلى أصنامهم، بئس هذا الحكم الجائر حكمهم!.
وكذلك قوله تعالى (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ) [138]، أي: هذه أنعام وزروع حكمهم، وكذلك قوله تعالى (لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ) أي من خدَمة الأوثان وغيرهم، (بِزَعْمِهِمْ) أي: بزعمهم الباطل من غير حجة ولا برهان، (وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا)، أي: لا تُرْكَب كالبحائر والسوائب والحوامي، (وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [138]، أي سيجزيهم على ذلك الافتراء، وهو تهديد شديد ووعيد.
(وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا) [139]، وهذه إشارة إلى نوع أخر من أنواع قبائحهم، أي: قالوا ما في بطون هذه البحائر والسوائب حلال لذكورنا خاصة، (وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا)، أي: لا تأكل منه الإناث، (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ)، أي وإن كان هذا المولود منها ميتة اشترك فيه الذكور والإناث، (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي سيجزيهم جزاء وصفهم الكذب على الله في التحليل والتحريم.
وقد ذكر الله تعالى الأنعام ضمن ما أنعم الله به على خلقه فقال سبحانه: (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [142]، أي وخلق الله لكم من الأنعام ما يحمل الأثقال، وما يفرش للذبح، "أي يضجع".
(ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) [143]، أي وأنشأ لكم من الأنعام ثمانية أنواع أحل لكم أكلها، من الضأن ذكر وأنثى، ومن المعز ذكر وأنثى، (قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [143-144].
عباد الله: هذه لمحة موجزة عن جزء محدود من آيات سورة الأنعام سواء كان بالإيضاح أو الإشارة أو ذكر الآيات، نفعني الله وإياكم بها وبهدي كتابه الكريم، وهدي ختام المرسلين، وبما نقول ونسمع، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله القائل: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [160].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، قال له ربه: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [161]، وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله: استكمالا للحديث عن سورة الأنعام فإن هذه السورة الكريمة ورد في أواخرها الوصايا العشر التي نزلت في كل الكتب السابقة، ودعا إليها جميع الأنبياء.
قال الله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [151].
أي حرم الله الشرك به وهو عبادة غيره معه، وعقوق الوالدين، وقتل الأولاد خشية الفقر، وأن تقربوا المنكرات والكبائر علانيتها وسرها كالزنا وقتل النفس البريئة التي حرم الله إلا بموجب، وقد فسره قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". فهذه خمسة أشياء محرمة.
وقال الله تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [152]، أي: وحرم عليكم أكل مال اليتيم، وأمركم بالوفاء في الكيل والميزان بالعدل، والعدل في الحكم والشهادة والوفاء، وبهذه صارت تسعة.
أما العاشرة فهي قوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [153]، أي: وبأن ديني المستقيم شرعته لكم فتمسكوا به، ولا تتبعوا الأديان المختلفة، والطرق الملتوية فتفرقكم، وتزيلكم عن سبيل الهدى.
عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: خط لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما خطاً ثم قال: "هذا سبيل الله"، ثم خط خطوطاً عن يمينه ويساره، ثم قال: "هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها". ثم قرأ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ).
وتنتهي السورة الكريمة بآية فذة تكشف للإنسان عن مركزه عند ربه في هذه الحياة، وهو أنه خليفة الله في الأرض، وأن الله سبحانه جعل عمارة الكون تحت يد الإنسان تتعاقب عليها أجياله، ويقوم اللاحق منها مقام السابق، وأن الله سبحانه قد فاوت في المواهب بين أفراد الإنسان لغاية سامية، وحكمة عظمية، وهي الابتلاء والاختبار في القيام بتبعات هذه الحياة، وذلك شأن يرجع إليه كمال المقصود من هذا الخلق وذلك النظام: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [165].
عباد الله: هذه لمحة عن سورة الأنعام، هذه السورة الكريمة، نفعنا الله بها وبما جاء في كتاب الله الكريم، أسأل الله أن يستجيب دعاءنا إنه سميع قريب مجيب الدعاء، وأن يوفقنا لفهمها، وتدبرها، والعمل بها.
وصلوا وسلموا على خاتم رسل الله نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.