الحق
كلمة (الحَقِّ) في اللغة تعني: الشيءَ الموجود حقيقةً.و(الحَقُّ)...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - أهل السنة والجماعة |
المقصود أن يكون للثقة بالعقيدة أثر محسوس في الواقع، فمثلاً الولاء والبراء ركن عظيم ضخم من أركان عقيدتنا، ما مدى أثره على مشاعرنا ومواقفنا سواء تجاه المؤمنين بتوليهم ونصرتهم والنصح لهم والدعاء لهم أم تجاه أعداء الملة بالبراءة منهم مع العدل معهم والبر والإحسان للمسالمين منهم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ).
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ذكرنا فيما مضى مما ينبغي تعزيزه والعناية به في هذه المرحلة من حياة الأمة: الثقة بالعقيدة ومبادئها، والوعي بالواقع، وتحدثنا عن جوانب من الوعي المطلوب، ومنه الوعي بطبيعة الصراع بين الحق والباطل، وكيفية التعرف على الحق وتمييزه من الباطل، فكل ما وصل بالله ورسوله فهو حق، وكل ما انفصل عن الله ورسوله فهو باطل، سواء كانت العبادة أم السياسة أم الاقتصاد أم القيم الأخلاقية والاجتماعية.
وكما جاء في الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل". كل شيء انفصل عن الله تعالى فهو باطل، وكل ما وصل به -جل وعلا- فهو حق.
وتكلمنا كذلك عن الوعي بنظرة الغرب تجاه المسلمين من حسد وبخس واستغلال واستصغار، والمنصفون فيهم أقل من القليل، مع الاستمرار بعد ذلك كما ذكرنا في إصلاح النفس والمجتمع.
ينبغي تعزيز ذلك كله في عقل وقلب كل مؤمن يقرأ القرآن ويتدبره ويطالع حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- ويفهم مغزاه ويدرك سر الحياة وعلاقة الحياة بالآخرة.
معاشر المسلمين: مما ينبغي تعزيزه كما ذكرنا آنفًا الثقة بالعقيدة، وهنا قد يقول قائل: "وهل في نفوسنا شك من عقيدتنا؟! فأقول: حاشا لله، ولكن المقصود أن يكون للثقة بالعقيدة أثر محسوس في الواقع، فمثلاً الولاء والبراء ركن عظيم ضخم من أركان عقيدتنا، ما مدى أثره على مشاعرنا ومواقفنا سواء تجاه المؤمنين بتوليهم ونصرتهم والنصح لهم والدعاء لهم أم تجاه أعداء الملة بالبراءة منهم مع العدل معهم والبر والإحسان للمسالمين منهم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) [المائدة:54]، وقال أيضًا سبحانه: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) [التوبة:71].
وقال في حق الكفار: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة:9].
فمن كان واثقًا في عقيدته هل يهمل هذا الركن العظيم ويتجاهله: الولاء والبراء؟! ومن كان واثقًا بعقيدته هل يتردد في إظهار ولائه لله ودينه وعباده الموحدين، وهل يخجل من إظهار تبرؤه من الشرك والمشركين والبدع وأهلها حين يدعو الداعي إلى إظهار التبرؤ منهم؟! ومن كان واثقًا بعقيدته هل يتحفظ عن التحبير من إفساد أصحاب المذاهب الضالة العلمانيين والليبراليين والإنكار عليهم؟!
نعم بعضهم لا ينكر بحجة ضرورات الحالة الحضارية المعاصرة التي تسمح بحرية التعبير أو بحجة التركيز على الإيجابيات وترك السلبيات، إنّ من كان واثقًا بعقيدته لن يسكت عن التحذير منه، دعك عن مداهنتهم والتودد إليهم بل والتحالف معهم أحيانًا، فهذه طامة يغص بها الحلق، وقد حذّر سبحانه من أن يكون الإنسان مع المشركين في كل مكان وكل درب، وحذّر من الركون إليهم، الركون إلى أعداء الله في أكثر من آية، فقال -جل وعلا-: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ) [هود:113]، وقال أيضًا سبحانه: (وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) [الإسراء:73، 75].
بل لما أنزل الله تعالى قول إبراهيم -عليه السلام-: (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء:86]، كان بعض المسلمين في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- يجدون في استغفار إبراهيم لأبيه -وأبوه مشرك- يجدون ثغرة تنسيهم عواطفهم تجاه ذوي قرباهم من المشركين.
ولذلك صحّ في السنن من حديث علي قال: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه -وهما مشركان- فقلت: "تستغفر لأبويك وهما مشركان؟!"، قال: "أليس قد استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك؟!"، قال: فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
هل سكت القرآن من باب البر والتسامح؟! مطلقًا، وإنما نزلت الآيات من فوق سبع سماوات لتقرر الموقف؛ لأن الموضوع جد مهم وأساسي لا يسكت عنه ولا يحتمل التنازل، الموضوع موضوع عقيدة، وقد نزل القرآن ليبين ويكشف اللبس ويوضح حقيقة موقف إبراهيم -عليه السلام- لما استغفر لأبيه قال سبحانه: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة:113، 114].
لقد دعا إبراهيم لأبيه قبل أن يعلم عاقبته، فلما علم أنه سيموت على الكفر تبرأ منه، ولذا زاد الله في تأكيد هذا البراء من المشركين لما استثنى مما ينبغي التأسي به من سنة إبراهيم الاستغفار للمشرك في قوله: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)، أي لا تتأسوا به في الاستغفار: (وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [الممتحنة:4].
من دلائل الثقة بالعقيدة: الاعتزاز بالسنة ورفض البدعة التي لا أصل لها في الدين، مهما بلغ بريقها وعظمت واجتمع حولها الناس وسلطت عليها الأضواء، مولد، حفلة إسراء ومعراج، أذكار نقشبندية رفاعية... وغيرها من الطرق البدعية.
الواثق من عقيدته لا يقبل بهذه العبادات المنحرفة فضلاً عن أن يشارك فيها، كيف وهو يسمع حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار".
هذه المسألة ليست من أبواب الفقه، بل من باب العقيدة، ومثل ذلك يقال عن منهجية التنقية، فكثير من الناس لا يفرّقون بين أصحاب المنهج السليم الذين يعظمون الكتاب والسنة، ويستندون في كلامهم ودعوتهم إلى أصول الشريعة من العلماء وطلاب العلم والدعاة؛ لا يفرّقون بين هؤلاء وبين أصحاب لمدرسة العقلانية ممن انتسب إلى العلم الشرعي، أولئك الذين إذا جاء النص الشرعي بما لا يناسب عقولهم قدموا عقولهم وآراءهم على النص، يغلبون الفلسفة والمفاهيم الدولية ولو عارضت أحكام الشريعة، على تفاوت بينهم.
ومع ذلك فإنهم لا يزالون في نظر كثير من الناس يتكلمون باسم الدين، وهم في العقيدة إما متساهلون أو جهلاء أو اعتزازهم بعقولهم وآرائهم من التضخم بحيث لا يقبلون إلا ما وافق العقول والآراء، كمن ساوى منهم بين الباطنية وأهل التوحيد، بل ربما شجع الباطنية على شغبهم وتخريبهم وبغيهم، بل ودعا للموافقة على تسلطهم على أهل السنة ونزول أهل السنة تحت رئاستهم وحكمهم، وأن ذلك حق من حقوقهم، أي عقل هذا!!
ولا غرابة في هذا وأمثاله من أصحاب الفكر المنحرف، وهو نفسه الذي يخضع أحكام الشريعة الثابتة للتصويت، فحقوق المرأة المسلمة خاضع للرأي والتصويت: تؤيد أو لا تؤيد، وحد الردة قابل للتصويت: توافق أو ترفض!!
بل وصل به الضلال أن يقول: من حق اليهودي التسويق لدينه في ديار الإسلام، وأن هذا حق مكفول له إسلاميًا -يقول- من باب حرية التعبير، وأن الحجة تقارع بالحجة لا بالقمع، وأن هذا من الوسطية!! أي وسطية هذه التي يدعو إليها وأي منهج وأي عقيدة!!
إن المعلوم من الدين بالضرورة وصريح القرآن أن الباطل لا يقارن ولا يجلس مع صاحبه أصلاً، فكيف يجوز لنا أن نسمح بتسويقه بين الناس!! (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأنعام:68]، وقال أيضًا سبحانه: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) [النساء:140].
وقد ضرب الفاروقُ صبيحَ التميمي حتى آلمه لما رآه يروج الشبهات وينشرها بين الناس، فكيف بمن يسمح بنشر الكفر والتسويق له في أرض الإسلام!!
وقد يستصغر البعض تلك الشطحات ويقول: يا أخي: هو داعية ومعرض للخطأ وعنده خير كثير. كلا؛ الموضوع ليس خطأً بل هو منهج يدركه هو بنفسه ويدرك أبعاده ويعرف ما يضاده من منهج السلف الصالح، ثم إن الأمر دين، وإن الثقة بالعقيدة تستوجب موقفًا واضحًا من هذه الضلالات وغيرها.
بعض الفضائيات المروجة للإثارة تستضيف من يتجرأ على العقيدة وثوابت الشريعة بلا حياء ولا خجل، تستضيف من يتردد في كفر النصارى ومن يرضى بتحكيم القوانين الوضعية، وتستضيف من يشكك في القرآن وتسلط عليه الأضواء، وتستضيف من يؤسس منهج الانبطاح والتنازل الذي يتسامح مع الزنادقة.
فلنحذر من هذا التفريط، ولنجدد ثقتنا بعقيدتنا، ونجعل هذه الثقة محسوسة مرئية في واقع حياتنا.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبي الله محمد، سيد المرسلين، وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد ذكرنا فيما مضى ضرورة الوعي بنظرة الغرب إلينا وموقفه الحقيقي منا كعرب ومسلمين، لماذا هذا الوعي ضروري بل ضروري جدًا؟! لأن هذا الوعي يمكننا من التمييز بين العدو والصديق من منظور عقدي، ولأننا بهذا الوعي نستطيع أن نربط بين المواقف وأن نقرأ ما بين السطور، فلا نغتر كثيرًا ولا ننجرف عاطفيًا بلا قيود، ولا نستغفل ونكون على حذر وبمنأى عن الخداع.
من هذا الوعي نقطع الطريق على مكرهم إن أرادوا بنا مكرًا، أو كيدهم إن أردوا بنا كيدًا، ولن نركن إليهم ولن نأمنهم وإن كان الركون إليهم أصلاً منهيًّا عنه في القرآن: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)، ويقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا) [النساء:144].
ولن نكون سذجًا إلى حد الثقة بهم وإنما نتعامل معهم بحذر، نأخذ ما ينفعنا في ديننا وحياتنا، وندع ما يضرنا في ديننا وأخلاقنا، وبالتالي نحافظ على معتقداتنا ومبادئنا وقيمنا التي بها نسعد في الدنيا ونفوز في الآخرة.
معاشر المسلمين: ربما يشيع ظنٌّ بأن العصر الحديث الذي نعيش فيه اليوم -عصر العولمة- قد جمع الدول والشعوب بشتى مذاهبها وأعراقها، وأذاب اعتبارات الولاء والبراء ونعرات التعصب التي كانت تنشأ بسبب اختلاف الدين أو العرق، فهو عصر الثقافة الحديثة والتحضر والحوار الحضاري وحماية الحقوق ونزاهة النوايا، وأصبحت المصالح فيها تحكم العلاقات، فمن تحققت مصالحهم معهم كنوا له الاحترام وقدروا له ذلك بكل إخلاص وتجرد ووفاء.
هذا ظن متداول ومشهور، وأخشى أن يكون هذا الظن شبيهًا بخيال أفلاطون بالمدينة الفاضلة التي لا توجد إلا في مخيلته، وسوريا هي أكبر مثال على ذلك على عدالة ذلك الغرب وصدقه.
لماذا أقول هذا الكلام أيها الإخوة؟! أقول هذا لأن من تدبر محكم القرآن ليس كمن لم يتدبر، ومن استهدى بكلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وتوجيهاته ليس كمن هو بعيد عن تلك التوجيهات.
إن من تدبر قوله تعالى: (كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا)، وقوله سبحانه: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ)، وقوله أيضًا: (مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ)، وقوله تعالى -وهو يحذر-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).
إن من تدبّر هذه الآيات تكفيه حتى عن الواقع الذي نراه، لا يمكن أن يلغي عقيدة الولاء والبراء من واقع حياته، ولا أن يتردد في الإيمان بعداوة الكفار لنا، لكن إذا قست القلوب واختلطت الأمور ووردت الشبهات فإنها أسباب ثلاثة كفيلة بأن تحرف المسلم عن هدي الإسلام بالتعاون مع الكفار بشتى أصنافهم: معاهَدين وغير معاهَدين، نصارى ويهود وغيرهم، وإنما يصبح تغليب الآراء الفلسفية لدى الكثيرين هو الموقف الحضاري السليم في التعامل معهم.
إن الثقة بالعقيدة -أيها الإخوة- لها دلالتها على الأرض، أسأل الله أن يرفع رؤوسنا بها.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...