الغني
كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
وهذا ما يغيظ الشيطان ويدحره، وما ظفر إبليس بشيء أشدَّ من ظَفَره بعبد أذنب ذنباً فأيس من رحمة الله تعالى ومغفرته، فترك الطاعات، وركب المحرمات، حتى وقع في الكفر، عياذاً بالله تعالى، وأعظم سلاح يتسلح به المسلم للنجاة من ذلك، وصيانة نفسه وعصمتها، ودحر عدوه الشيطان الرجيم ملازمته للاستغفار، وتكراره للتوبه، فمَن فعل ذلك كان مجاهداً لنفسه ..
الحمد لله؛ يغفر الذنوب، ويستر العيوب، ويجبر القلوب، أحمده حمداً يليق بجلال وجهه، وعظيم سلطانه، وأشكره شكراً يزيد نعمه، ويستجلب رزقه، واستغفره استغفاراً يستوجب رضاه، ويطفئ غضبه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ يقيل العثرات، ويغفر الزلات، ويقبل التوبات.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ كان يستغفر الله تعالى ويتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة، وكان أصحابه -رضي الله عنهم- يعدون له في المجلس الواحد يقول مائة مرةٍ قبل أن يقوم "رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم" أخرجه أحمد وغيره، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، وفي أموالهم حق للسائل والمحروم، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل- فاتقوه: (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ) [الأنفال:29].
أيها الناس: خلق الله تعالى الإنسان، وشرفه بعبادته، وكلَّفه بدينه، وأعطاه عقلاً يدله على ربه، ويعرف به مصالحه؛ وركب فيه شهوة تميل به إلى ما يضره، وتصرفه عما ينفعه؛ وسلط عليه شياطين من الجن والإنس، يزينون له الدنيا وزخرفها ومتاعها؛ فيسقط في شهواتها من يسقط، ويعصم الله تعالى منها من أراد به خيراً.
ولكن الله تعالى بعفوه ورحمته، وجوده على عباده؛ فتح أبواب التوبة للمذنبين، وشرع الاستغفار للمؤمنين، فإذا عصى العبد ربه فتاب تاب الله عليه، وإذا استغفر لذنوبه غفر الله له، (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه:82]. ويقول -سبحانه وتعالى- في الحديث القدسي: "يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم" رواه مسلم.
أيها الإخوة: إن الاستغفار كان دأب الأنبياء والصالحين، وهو سلاح المذنبين ضد الشيطان وأعوانه، وكما أن إبليس أهلكه علوه واستكباره؛ فإن آدم -عليه السلام- أنجاه توبته واستغفاره.
عصى إبليس فاستكبر فحقت عليه اللعنة والعذاب، وعصى آدم -عليه السلام- فاستغفر وأناب، فقبل الله تعالى توبته، وغسل حوبته، وتجاوز عن خطيئته؛ فكانت التوبة من الذنب، والمبادرة إلى الاستغفار عقب الخطأ؛ سنة سنها آدم -عليه السلام- لجميع البشر، فمن عمل بها من بنيه؛ فإنما يقتفي سنة أبيه، ومن عاند واستكبر فهو متبع لإبليس اللعين.
إن الاستغفار كان أول طاعةٍ عملها إنسان بعد أول خطأ، وتلك الطاعة مِنَّهٌ من الله تعالى، وهداية هدى إليها آدم وحواء -عليهما السلام-، وبقيت لبنيهم من بعدهم: (فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة:37].
وتلك الكلمات هي كلمات الاعتراف بالخطأ، وطلب المغفرة والرحمة من الرب -تبارك وتعالى-: (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ) [الأعراف: 22-23].
روى سعيد بن جبير -رحمه الله تعالى- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، قال آدم: أي رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أي رب، ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى، قال: أي رب، ألم تسكنِّي جنتك؟ قال: بلى، قال: أي رب، ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلى، قال: أرأيت إن تبت وأصلحت، أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: بلى، قال: فهو قوله: (فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) [البقرة:37]" رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وكانت الرسل والأنبياء -عليهم السلام- مقتفين أثر أبيهم آدم -عليه السلام- في ملازمة التوبة، وكثرة الاستغفار.
هذا نوح -عليه السلام- يسأل ربه نجاة ابنه المشرك من الطوفان، فيعاتبه الله -عز وجل- في ذلك، ويخبره بأن ابنه ليس من أهله؛ لأنه مشرك، ويحذره أن يكون من الجاهلين، فيبادر نوح -عليه السلام- بالتوبة والاستغفار، وطلب الرحمة: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الخَاسِرِينَ) [هود:47].
ولما دعا نوح على الكفار من قومه بالهلاك بعد أن مكث فيهم ألف سنه إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى توحيد الله تعالى، فلم يستجيبوا له؛ أعقب ذلك بالاستغفار له وللمؤمنين معه، فقال -عليه السلام-: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ) [نوح:28].
وفعلها بعده خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام-، بعد أن بنى البيت الحرام، فدعا بدعوات كان منها: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ) [إبراهيم:41]، وكان دعاؤه -عليه السلام- لوالده قبل أن يتبرأ منه: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة:114].
وحاجج قومه فيما يعبدون فحَجَّهُم، وخاصمهم فخصمهم، وقال في معرض حجته عليهم بعد أن تبرأ من أصنامهم: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ العَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء: 77-82].
وقال -عليه السلام- يدعو ربه (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [الممتحنة:5].
وهذا موسى بن عمران -عليه السلام- يقر بذنبه، ويعترف بظلمه، ويطلب مغفرة ربه، حين نَصَرَ من كان من شيعته على من كان من عدوه: (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ) [القصص:15-16].
ولما رجع -عليه السلام- من مناجاته لربه -تبارك وتعالى- غضب أشد الغضب من عبادة قومه للعجل، (وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأعراف:150-151].
ولما أصاب الله تعالى مَن أصاب من بني إسرائيل بالرجفة بادر موسى -عليه السلام- بالاستغفار وطلب الرحمة: (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الغَافِرِينَ) [الأعراف:155].
وابتلى الله تعالى داود -عليه السلام- بخصمين يحكم بينهما، فلما علم داود -عليه السلام- أنه قد فتن بذلك بادر بالاستغفار: (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ) [ص:24-25].
وابُتلي ابُنه سليمان -عليه السلام- من بعده، فسار على سنة آبائه من الأنبياء -عليهم السلام- بالمبادرة إلى الاستغفار (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ) [ص: 34-35].
وخاتم الأنبياء، وأفضل الرسل، محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام؛ أمره ربه بالاستغفار، فامتثل أمر ربه، ولازم الاستغفار: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ) [محمد:19]، وفي آية أخرى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النَّصر:3].
قالت عائشة -رضي الله عنها-: ما صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة بعد أن نزَلَت: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ) [النَّصر:1] إلا يقول فيها: "سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" رواه الشيخان، وفي رواية عنها -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" رواه الشيخان.
ولم يكن استغفاره -عليه الصلاة والسلام- مقصوراً على صلاته فحسب؛ بل لازم الاستغفار في جميع أحواله، وفي كل أحيانه، حتى قال -عليه الصلاة والسلام-: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" رواه الشيخان.
وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يَعُدُّ للنبي -صلى الله عليه وسلم- في المجلس الواحد يقول مائة مرة قبل أن يقوم: "استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه" رواه النسائي.
نستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه، اللهم اجعلنا ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ) [غافر:55].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمد الشاكرين، وأستغفره استغفار المذنبين، وأسأله من فضله العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحديد:28].
أيها المسلمون: الزموا التوبة، وأكثروا من الاستغفار؛ فإن الاستغفار أمان من العذاب: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال:33].
روى أحمد من حديث أبي موسى -رضي الله عنه- موقوفاً: قال: "أمانان كانا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رفع أحدهما وبقي الآخر: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال:33]" رواه الترمذي وضعفه الألباني، والحاكم والطبراني، وله شواهد يصح بها.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كان فيكم أمانان، مضت إحداهما وبقيت الأخرى: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال:33]" رواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إن الله جعل في هذه الأمة أمانين لا يزالون معصومين مجارين من طوارق العذاب ما دام بين أظهرهم، فأمان قبضه الله إليه، وأمان بقى فيكم" رواه الطبري والبيهقي بإسناد حسن. قال السندي -رحمه الله تعالى-: فيه حث للناس على الإكثار من الاستغفار حيث ما بقي لهم إلا هذا الأمان.
وروى فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: العبد آمِن من عذاب الله ما استغفر الله -عز وجل-. رواه أحمد.
إنها نعمة، وأيُّ نعمة! أن يلزم العبد الاستغفار لمحو ذنوبه، وتكفير سيئاته، وتأمين نفسه من العذاب، وإذا استزله الشيطان فضعف عن الطاعة، أو وقع في المعصية؛ بادر بالتوبة، وأكثر من الاستغفار؛ حتى يمحو أثر الذنوب، وينجو من العذاب.
وهذا ما يغيظ الشيطان ويدحره، وما ظفر إبليس بشيء أشدَّ من ظَفَره بعبد أذنب ذنباً فأيس من رحمة الله تعالى ومغفرته، فترك الطاعات، وركب المحرمات، حتى وقع في الكفر، عياذاً بالله تعالى، وأعظم سلاح يتسلح به المسلم للنجاة من ذلك، وصيانة نفسه وعصمتها، ودحر عدوه الشيطان الرجيم ملازمته للاستغفار، وتكراره للتوبه، فمَن فعل ذلك كان مجاهداً لنفسه، والله تعالى يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].
وروى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن إبليس قال لربه -عز وجل-: وعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم، فقال له ربه -عز وجل-: فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني" رواه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن المبارك -رحمه الله تعالى- أنه قال في قول الله تعالى: (ألَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور:22]: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى.
وفي هذا العصر كثُرَت الهموم والغموم، وتفشت الأمراض النفسية والعصبية، بسبب ضغط الحياة، وتشعب الاهتمامات، وكثرة الشواغل، وفي ملازمة الاستغفار تفريجٌ للهموم، ومخارج من الضوائق، والاستغفار سبب لجلب الأرزاق.
روى ابن عباس -رضي الله عنهما- فقال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً، ومن كل هم فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
ألا فاتقوا الله ربكم -أيها المؤمنون- وجددوا توباتكم، واستغفروا مولاكم؛ فتلك سنة المرسلين لكم، ودأب الصالحين قبلكم: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ) [آل عمران:147].
ألا وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم...