العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المعاملات |
فضل الله تعالى على عباده عظيم، وإحسانه إليهم كبير، ومن أعظم ذلك: مابين لهم من الحلال والحرام، وما شرع لهم من الشرائع التي تصلح أحوالهم في الدنيا والآخرة
وترك المسلم ما يشك فيه أصل عظيم في الورع
فجاءت النصوص النبوية تحذر من الاستهانة بالمتشابهات، وتحث على مجانبتها؛ صيانة للنفس عن التمادي إلى ما وراءها
الحمد الله؛ أوجدنا من العدم، وأغدق علينا النعم، أحمده على فضله وإنعامه، وأشكره على إحسانه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شرع الشرائع، وحدَّ الحدود، وأكمل الدين، وأتم النعمة (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى: من الآية13].
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ تركنا على بيضاء نقية، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ كانوا أنقى هذه الأمة قلوبا، وأصدقهم ألسنا، وأزكاهم أعمالا، وأشدهم ورعا، فتركوا المتشابه خوفا من الحرام، والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس– ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوه حق التقوى (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [البقرة: من الآية223] أيها الناس: فضل الله تعالى على عباده عظيم، وإحسانه إليهم كبير، ومن أعظم ذلك: مابين لهم من الحلال والحرام، وما شرع لهم من الشرائع التي تصلح أحوالهم في الدنيا والآخرة، ولو ترك ذلك إليهم لضلوا وهلكوا، وشرعوا لهم ما يضرهم عاجلا وآجلا (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ) [البقرة: من الآية138].
لقد أنزل الله تعالى على نبيه الكتاب، وبين فيه للأمة ما يحتاجون إليه من حلال وحرام (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل: من الآية89] قال مجاهد رحمه الله تعالى: " كل شيء أمروا به ونهوا عنه" ووكل بيان ما أشكل من التنزيل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل: من الآية44] ولما بين الله تعالى في سورة النساء كثيرا من أحكام الأموال والأبضاع ختمها بقوله عز وجل: (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التوبة: من الآية115] وفي سورة الأنعام ذكر كثيرا من أحكام اللحوم والطعام ثم قال عز من قائل عليما (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) [الأنعام: من الآية119].
وهذا البيان للحلال والحرام هو من هداية الناس لما ينفعهم، وصرفهم عما يضرهم، إذا ما أخذوا بهذه الأحكام الربانية، (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التوبة:115].
وما يبتغيه الناس من مآكل ومشارب، وملابس ومراكب، وبيوع ومعاملات، وأنكحة وعادات إما أن يكون حلالا، وإما أن يكون حراما، وإما أن يكون مشتبها، ولا رابع لها؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" رواه الشيخان.
لقد دل هذا الحديث العظيم على أن من جانب الشبهات سلم له دينه وعرضه، ومن تهاون بشأنها، ورخص لنفسه فيها؛ فهو يدفعها لمواقعة الحرام.
ومن حكمة الله تعالى أن جعل بين كل متباينين برزخا؛ فجعل الشبهات برزخا بين الحلال والحرام، كما جعل الموت وما بعده برزخا بين الدنيا والآخرة، وجعل المعاصي برزخا بين الإيمان والكفر، وجعل الأعراف برزخا بين الجنة والنار، وغير ذلك.
فمن وقع في برزخ المتشابهات جاوزها إلى الحرام، ثم عسر عليه أن يعود مرة أخرى عن الحرام، فضلا عن تورعه عن المشتبهات.
ولذا جاءت النصوص النبوية تحذر من الاستهانة بالمتشابهات، وتحث على مجانبتها؛ صيانة للنفس عن التمادي إلى ما وراءها، قال النبي عليه الصلاة والسلام : "من ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله، من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه" رواه البخاري ، وفي رواية لابن حبان قال عليه الصلاة والسلام : "اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال".
وقال عليه الصلاة والسلام : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" رواه أحمد وصححه ابن حبان والحاكم.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، ما الإثم؟ قال: "إذا حاك في صدرك شيء فدعه" رواه أحمد , ومعناه: إذا شككت في شيء فدعه.
وترك المسلم ما يشك فيه أصل عظيم في الورع، وقد روى الترمذي من حديث عطية السعدي مرفوعا : "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس".
قال الخطابي رحمه الله تعالى: كل ما شككت فيه فالورع اجتنابه ثم هو على ثلاثة أقسام: واجب، ومستحب، ومكروه؛ فالواجب: اجتناب ما يستلزمه ارتكاب المحرم، والمندوب: اجتناب معاملة من أكثر ماله حرام، والمكروه:اجتناب الرخص المشروعة على سبيل التنطع.
وروى وابصة بن معبد رضي الله عنه فقال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم إلا سألته عنه، وإذا عنده جمع، فذهبت أتخطى الناس فقالوا: إليك يا وابصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إليك يا وابصة، فقلت:أنا وابصة، دعوني أدنو منه فإنه من أحب الناس إلي أن أدنو منه، فقال لي: ادن يا وابصة، ادن يا وابصة، فدنوت منه حتى مست ركبتي ركبته فقال: يا وابصة،أخبرك ما جئت تسألني عنه؟ فقلت: يا رسول الله فأخبرني، قال: جئت تسألني عن البر والإثم، قلت: نعم، فجمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري ويقول: يا وابصة استفت نفسك، البر ما اطمأن إليه القلب، واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك".
وفي رواية للإمام أحمد من حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه مرفوعا: "البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون".
وعلى هذا المنهج القويم من اجتناب المتشابهات حذرا من الوقوع في الحرام سار خير هذه الأمة وأفضلها: رسولنا صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله تعالى له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولكنه لم يتكل على ذلك، بل حاذر المشتبهات محاذرة الحرام؛ كما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها" رواه الشيخان.
وروى أنس بن مالك رضي الله عنه : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بتمرة بالطريق فقال: لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها" رواه مسلم.
ولو وقع عليه الصلاة والسلام في مشتبه سهوا أو نسيانا ندم أشد الندم؛ كما روى الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تحت جنبه تمرة من الليل فأكلها فلم ينم تلك الليلة، فقال بعض نسائه: يا رسول الله، أرقت البارحة! قال: إني وجدت تحت جنبي تمرة فآكلتها وكان عندنا تمر من تمر الصدقة فخشيت أن تكون منه".
ولقد تأسى به صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام رضي الله عنهم؛ إذ كانوا أحوط الناس لدينهم، وأبعدهم عن المشتبهات، حتى جعلوا بينهم وبينها كثيرا من المباحات، وقال قائلهم رضي الله عنهم: "كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في باب واحد من الحرام".
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "إن إتمام التقوى أن يتقى الله العبد في مثقال ذرة حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما، يكون حجابا بينه وبين الحرام" .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "إني لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها" هكذا كان القوم رضي الله عنهم، وبنحو هذا سبقوا غيرهم، وشرفوا بصحبة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
أسأل الله تعالى أن يلحقنا بهم، وأن يجعل ورعنا مثل ورعهم، كما أسأله عز وجل أن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، وبفضله عمن سواه، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه، واحذروا المعاصي وما يقرب منها (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة: من الآية229].
أيها المسلمون: خلف الصحابة رضي الله عنهم رجال من التابعين وتابعيهم فساروا على هذه الجادة الواضحة، وعالجوا المشتبه بتركه، كما قال حسان بن أبي سنان رحمه الله تعالى: "إذا شككت في شيء فاتركه" واجتمع حسان مرة ويونس بن عبيد عليهما رحمة الله تعالى فقال يونس: " ما عالجت شيئا أشد علي من الورع، فقال حسان: ما عالجت شيئا أهون علي منه، قال: كيف؟ قال: حسان تركت ما يريبني إلى ما لا يريبني فاسترحت" وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: "ما رأيت أسهل من الورع، ما حاك في نفسك فاتركه".
وسئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن الشبهة فقال: "هو الشيء بين الحلال والحرام .... وقال: آمر الرجل بالوقوف عندها".
وقد توقف الإمام أحمد رحمه الله تعالى في طاعة الوالدين إذا أمرا بالمشتبهات مع ما للوالدين من عظيم الحق عند الله تعالى، قال أبو بكر المروزي: "قلت لأبي عبد الله: هل للوالدين طاعة في الشبهة؟ فقال: في مثل الأكل؟ فقلت: نعم ، قال: ما أحب أن يقيم معهما عليها، وما أحب أن يعصيهما، يداريهما ، قال: ولا ينبغي للرجل أن يقيم على الشبهة مع والديه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من ترك الشبهة فقد استبرأ لدينه وعرضه" ولكن يداري بالشيء بعد الشيء، فأما أن يقيم معهما عليها فلا".
إذا علم ذلك -أيها الإخوة- فأين هو واقع الناس في هذا العصر مما كان عليه أسلافهم من التوقي والاحتياط، ومجانبة الشبهات خوفا من الحرام؟
إنه واقع يندى له الجبين؛ إذ استحل كثير منهم محارم الله تعالى بأدنى الحيل، وأما المتشابهات فقليل ثم قليل من الناس من يسلم منها، وخاصة في مجالات الاقتصاد والمعاملات، والبيع والشراء..تسير بهم المشتبهات رويدا رويدا حتى توقعهم في الحرام الصراح..تغزو البلاد معاملات محرمة من الشرق أو من الغرب؛ فينبري لها جماعة يتلقفونها، ويجرون عليها عمليات تجميلية؛ لأخراجها من الحرام الواضح إلى ما هو دونه بحيل وشروط وضوابط تكتب ولا يعمل بأكثرها، في غفلة أو تغافل عن الأصول الكبيرة في المعاملات من نحو:النهي عن الغبن، والغرر، والغش، والظلم، ووجوب رفع الضرر، وعدم جواز استغلال حاجة المحتاج لإفقاره وإغراقه في ديون لا خلاص له منها، ومع كل مفاسد هذه المعاملات التي إن سلمت من الحرام الواضح لم تسلم من الشبهات؛ فإنها قد قضت قضاء تاما على القرض الحسن الذي رتب عليه الشارع الحكيم أجورا عظيمة.
إن الصورة الجديدة من صور البيع أو الشراكة أو الاكتتاب يدعى الناس إليها فيفتي بحلها عشرة ويفتي واحد بحرمتها ، فقلَّ أن تجد من الناس من يتورع عنها خوفا من الشبهة، ثم تأتي أخرى فيفتي نصف بحلها ونصف بتحريمها؛ فترى أكثر الناس يأخذ بأقوال من أحلوها، ولا يلتفتون إلى من حرموها ولو كانوا من العلماء المعتبرين، ثم تأتي ثالثة فيفتي عشرة بحرمتها ويفتي واحد بحلها، فتجد أقواما يسارعون فيها اعتمادا على قوله ولو كان ضعيفا، ثم تأتي رابعة فلا يفتي أحد بحلها فيقول من ولغوا فيما قبلها:قد أخذنا بالسابقة ولم يفتنا فيها إلا واحد مقابل عشرة، فما قيمة هذا الواحد إن لم يوجد في تلك، فيقعون في الحرام الواضح بعد أن تدرجوا في دركات المشتبهات، من المشتبه الضعيف إلى المتوسط إلى المشتبه القوي الذي هو أقرب ما يكون إلى الحرام.
ولو أنهم تورعوا عن الأولى لما وقعوا في الثانية التي قادتهم إلى الثالثة والرابعة، وما هي خطوات الشيطان التي حذرنا الله تعالى منها بقوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) [البقرة:168-169] وما أكثر ما يقال على الله تعالى بلا علم في المعاملات المعاصرة ، وما أكثر من يتبع خطوات الشيطان فيها، نسأل الله تعالى الهداية لنا وللمسلمين أجمعين.
وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم....