الكريم
كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
وظلت إمامة الدين في هذه الأمة عقب بعثة إمامها محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكان الصحابة رضي الله عنهم أئمة الدين، وخَلَفَهم التابعون وأتباعهم من العلماء الربانيين في إمامة الدين إلى يومنا هذا، وكانوا يلتزمون الدعاء القرآني: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) ..
الحمد لله العليم الحكيم؛ خلق كل شيء فقدره تقديراً، نحمده فهو أهل الحمد، ونشكره فقد جعل الزيادة في الشكر، ونستغفره فهو أهل التقوى والمغفرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ رفع بدينه أقواماً فكانوا أئمة هدى، ومصابيح دُجى، وأصحاب رشد وتُقى، بهم يزيل الناس جهلهم، ويعرفون دينهم، ويتقربون لربهم على بصيرة من أمرهم.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ رفع الله تعالى ذكره في الأولين والآخرين، وأعلى مقامه بين العالمين، وبوأه مقاماً محموداً يوم الدين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتمسكوا بحبله ولا تفلتوه، والزموا دينه ولا تتركوه؛ فإنه لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شرٌّ منه، ولا نجاة إلا بالتقوى: (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الزُّمر:61].
أيها الناس: مَن تعلو به همته لا يرضى إلا أن يكون وجوده أوسع من محيط نفسه، فإذا هو قام بنفع بلده كان وجوده بقدر بلده بحيث يكون ذكره مالئاً له، وإذا هو قام بخدمة أمته كلها بعلم نافع يبذله لها فإن وجوده يكون واسعًا بقدر سعة أمته كلها، لا يجهل حقّه قُطرٌ من أقطارها.
وإذا استطاع أن ينفع جميع البشر فإن وجوده يكون بقدر العالم الذي انتفع به، وأمثال هؤلاء الرجال هم الذين يوزن الواحد منهم بأمة، قال الله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) [النحل:120]. قال ابن مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-: الْأُمَّةُ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ. وقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: الأمة الذي يعلم الناس دينهم.
ونفع الناس قد يكون نفعاً دنيوياً، وقد يكون نفعاً دينياً وهو الأنفع، وهو المراد بكون الخليل -عليه السلام- كان أمة، كما أن الإمامة قد تكون في الدين وقد تكون في الدنيا.
وإذا اشتدت غربة الدين، وقلَّ في الناس أتباعه وأنصاره، كان المتمسكون به الداعون إليه أئمة يوزن الواحد منهم بأمة، كما كان الأنبياء -عليهم السلام- في أقوامهم: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) [البقرة:213]، قال مجاهد -رحمه الله تعالى- في هذه الآية: آدمُ أمةٌ وحدَه؛ وذلك أن آدم -عليه السلام- أول من عبد الله تعالى في الأرض من البشر، ودعا بنيه إلى توحيد الله تعالى.
وأنال الله تعالى خليله إبراهيم -عليه السلام- الإمامة في الدين بعد أن ابتلاه بعظيم البلاء، فثبت على صبره ويقينه، (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) [البقرة:124]، (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الصَّافات:84] (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النَّجم:37].
لقد كان إبراهيم -عليه السلام- أمة؛ لأنه عاش دهراً طويلاً لا يعبد الله تعالى ولا يوحده في الأرض إلا هو، ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر في الأرض سواه، واجتمع فيه من الكمال والفضائل ما لم يجتمع في أحد قبله، ولا يجتمع عادة إلا في العدد الكثير من الناس. قال الخليل -عليه السلام- لزوجه سارة -رضي الله عنها-: إِنِّي لَا أَعْلَمُ في الأرض مُسْلِمًا غَيْرِي وَغَيْرَكِ. رواه مسلم.
ثم كانت إمامة الدين عقب الخليل -عليه السلام- في نسله الصالحين: إسماعيل وإسحاق ويعقوب، ثم في عقِب يعقوب: يوسف وموسى وداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى، عليهم السلام؛ لأنهم الأمة التي فضلها الله تعالى على العالمين في وقتها: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ) [البقرة:47].
وقال الله تعالى في إبراهيم وآله من بني إسرائيل -عليهم السلام-: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) [الأنبياء:73]، وقال -سبحانه- في موسى وأتباعه: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ) [القصص:5].
ونالوا هذه الإمامة بصبرهم ويقينهم؛ إذ إن سنة الله تعالى قاضية بأن الإمامة في الدين لا تُنال إلا بالصبر واليقين: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24].
ولما حادت بنو إسرائيل عن دين رسلهم -عليهم السلام-، وتخلوا عن مقومات الإمامة من الصبر واليقين، سلبها الله تعالى منهم، فتحولت الإمامة لآل إبراهيم من ابنه إسماعيل عليهم السلام ببعثة خاتم النبيين محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكانت فيهم إلى آخر الزمان؛ لأن الله تعالى قضى بأن الظالمين لا يستحقون الإمامة في الدين: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة:124].
فكان محمد -صلى الله عليه وسلم- إمام هذه الأمة كما كان إمام الأنبياء -عليهم السلام- ليلة المعراج، وسلَّموا له بالإمامة قبل بعثته، وأخذ الله تعالى عليهم الميثاق بها، فكان عيسى عليه السلام تابعاً له، داعياً إلى شريعته حين ينزل آخر الزمان، وكان ورثة النبي -صلى الله عليه وسلم- من العلماء الربانيين هم أئمة الدين من بعده.
ومن أوائل أئمة الدين في هذه الأمة زيد بن عمرو بن نفيل -رضي الله عنه-؛ فإنه آمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- قبل بعثته، ولم يبق من قريش على دين الخليل -عليه السلام- سواه؛ كما روت أَسْمَاءُ بِنْتِ أبي بَكْرٍ -رضي الله عنهما-، قالت: رأيت زَيْدَ بن عَمْرِو بن نُفَيْلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلى الْكَعْبَةِ يقول: يا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ، والله ما مِنْكُمْ على دِينِ إبراهيم غَيْرِي. رواه البخاري.
رأى -رضي الله عنه- قريشاً والعرب عامة في ضلال، فجاب الأرض يبحث عن دين الله تعالى، فقيل له: إنه يبعث في أرضك نبيٌّ، فعاد إلى مكة، وما كان يأكل شيئاً ذُبح لغير الله تعالى، ومات قبل البعثة، وقال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يأتي يوم القيامة أُمَّةً وحده" رواه النسائي، وصححه الحاكم وقال: على شرط مسلم، ثم قال الحاكم بعد روايته: ومَن تأمل هذا الحديث عرف فضل زيد وتقدمه في الإسلام قبل الدعوة.
وقد ذكر العلماء أن ورقه بن نوفل -رضي الله عنه- تابع زيداً على الحنيفية، ولكن ورقة عاش إلى وقت خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى أنزل عليه الوحي، ومات زيد قبل الوحي.
وظلت إمامة الدين في هذه الأمة عقب بعثة إمامها محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكان الصحابة -رضي الله عنهم- أئمة الدين، وخَلَفَهم التابعون وأتباعهم من العلماء الربانيين في إمامة الدين إلى يومنا هذا، وكانوا يلتزمون الدعاء القرآني: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان:74].
وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يدعو فيقول: اللهم اجعلني من أئمة المتقين. قال الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-: وفي هذا الأسوة الحسنة أن تكون همة المؤمن تدعوه إلى أن يكون إماماً في الخير، وإذا كان إماماً في الخير كان له أجره وأجر من عمل بما عَلِمَه وائتم به فيما عَلِمَه وأجزاه عنه.
وعلى قدر علم العالم، وعمله بما علم، ودعوته إليه، وصبره على الأذى فيه، تكون إمامته في الدين، وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: إِنَّ مُعَاذًا كان أُمَّةً قَانِتًا، ومعاذ -رضي الله عنه- كان من فقهاء الصحابة العاملين، بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن قاضياً ومعلماً.
إن الإمامة في الدين لا تنال بالوراثة، وقد حرص أرباب البيوت الكبيرة في العلم والجاه أن يجعلوا أولادهم أئمة في الدين فما كانوا، وسبقهم في ذلك أبناء الضعفة والفقراء فسادوا بالعلم والإمامة عليهم؛ لأن الإمامة لا تنال بالوراثة، وإنما تنال بالصبر واليقين.
وفي عصر التابعين كان أبناء الجواري أئمة بعلمهم وتقواهم، وكان كثير من أبناء السادة والأشراف هملاً. قال أعرابي لأهل البصرة: مَن سيد أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن البصري، قال: بِمَ سادهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم.
وقد يقف العالم موقفاً في الحق يستحق به الإمامة في الدين، كما وقف الإمام أحمد ضد بدعة المعتزلة، واجتمع عليه أهل الأهواء كلهم، وخذله الناس جميعاً، فثبت على الحق وحده، فاستحق أن يخلع عليه وصف إمام أهل السنة، وإن كانت السنة قبله، وسبقه من أئمتها جمٌّ غفير من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ولكنه وقف موقفاً لم يقفه عالم في زمنه، حتى قال بعض العلماء: لم يُظهر أحدٌ ما جاء به الرسول كما أظهره أحمد بن حنبل.
وقد يظهر العالم في زمنٍ فشا فيه الجهل، واضمحل العلم، وماتت السنن، وظهرت البدع، وكثرت الأهواء، فيحمل العالم لواء تبليغ العلم، وإزالة الجهل، ونشر السنة، ومحاربة البدعة، ويؤذَى في سبيل ذلك فيصبر ويحتسب حتى يظهر الله تعالى دعوته، فينال منزلة الإمامة في الدين؛ كما وقع لشيخي الإسلام ابن تيمية وابن عبد الوهاب -رحمة الله تعالى عليهما-.
فحري بأهل العلم أن يقوموا به تعليماً ودعوة وصبراً ويقيناً، وحري بشباب المسلمين أن يجِدُّوا في طلب العلم بإخلاص وصبر ويقين؛ رجاء أن يكونوا من أئمة الدين، وحري بالناس أن يأتموا بالعلماء العاملين؛ فهم أئمة الهدى والدين، وحري بكل مسلم أن يلزم هذا الدعاء المبارك: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان:74]، فعسى الله تعالى أن يستجيب دعاءه فيجعل إمامة الدين فيه أو في عقبه من بعده.
(رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان:74]. بارك الله لي ولكم في القرآن...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
أيها المسلمون: بين وفاة عالم رباني أمضى حياته في العلم والتعليم والدعوة والحسبة، وبين هلاك مُغَنٍّ سافلٍ منحط أمضى حياته في الغناء الرقيع، والرقص الخليع، بين هذا وذاك تتمايز الصفوف، وتتباين القلوب، وتختلف مواقف الناس، فيبين أهل الحق والإيمان والصلاح من أهل الباطل والنفاق والفساد.
ولما كان العلماء الربانيون هم أئمة الدين، وورثة المرسلين، لم يستحق أن يكون أتباعهم إلا الخُلَّصَ من المؤمنين، يفرحون بمجالسهم، ويحتفون بأقوالهم، ويَرِقون لمواعظهم، ويرجعون إليهم في أمور دينهم، ويلتزمون بفتاواهم؛ لعلمهم أنهم معظمون للشريعة، متبعون للكتاب والسنة، ويحزنون لوفاة الواحد منهم أشد الحزن؛ لما يفقدونه من علمه وهديه، متمثلين في ذلك قول الإمام الآجُرِّيِّ -رحمه الله تعالى- حين قال: ما ظنكم -رحمكم الله تعالى- بطريق فيه آفات كثيرة، ويحتاج الناس إلى سلوكه في ليلة ظلماء، فقيض لهم فيه مصابيح تضيء لهم، فسلكوه على السلامة والعافية، ثم جاءت طبقات من الناس لا بد لهم من السلوك فيه فسلكوا، فبينما هم كذلك إذ طفئت المصابيح فبقوا في الظلمة؟ فهكذا العلماء في الناس. اهـ.
وأما أهل النفاق والفساد فلا يحتفون بأئمة الدين، ويفرحون بموت العلماء الربانيين، ولا يكون حزنهم وبكاؤهم إلا على هلاك الزنادقة والمرتدين والفسقة من المغنين والشهوانيين، وحينئذ فلا عجب أن يتباكى الإعلام الضال المضل ويتأثر أزلامه الفسقة المفسدون بهلاك مغن شاذ مفسد قضى حياته في الغناء الماجن، والرقص العاهر، فلا يرثي العاهر إلا عاهر مثله، فتلك منزلتهم التي وُضعوا فيها واستحقوها؛ إذ كان القائد لهم شهواتهم لا عقولهم.
وهؤلاء الفسقة بإعلامهم الفاجر لا يمثلون حقيقة الأمة ولا نبضها، ولا يستحقون الكلام باسمها، فهم مفروضون على الناس في زمن الإرهاب الفكري، والرأي الأحادي الإقصائي.
وتظهر حقيقة الأمة ونبضها في جنائز أئمة الدين، من العلماء الربانيين، والصالحين المصلحين، حين تجتمع الجموع في تشييعهم، وتبكي القلوب قبل العيون لفراقهم، وتحملهم قلوب الرجال قبل أكتافهم.
ولقدكان الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- يقول: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز. ويوم مات أحمد تعطلت مساجد بغداد من كثرة المشيعين، حتى قال أبو صالح القنطري -رحمه الله تعالى-: شهدت الموسم -أي الحج- أربعين عاماً فما رأيت جمعاً قط مثل هذا. يعني مشهد جنازة الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-.
يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-: صدَّق الله تعالى قول أحمد في هذا، فإنه كان إمام السنة في زمانه، وعيونُ مخالفيه: أحمد بن أبي داؤد وهو قاضي قضاة الدنيا لم يحتفل أحد بموته ولم يلتفت إليه، ولما مات ما شيعه إلا قليل من أعوان السلطان، وكذلك الحارث بن أسد المحاسبي مع زهده وورعه وتنقيره ومحاسبته نفسه في خطراته وحركاته لم يُصَلِّ عليه إلا ثلاثة أو أربعة من الناس، وكذلك بشر بن غياث المريسى، لم يُصَلِّ عليه إلا طائفة يسيرة جدا، فلله الأمر من قبل ومن بعد! وقد روى البيهقي عن حجاج بن محمد الشاعر أنه قال: ما كنت أحب أن أقتل في سبيل الله ولم أصل على الإمام أحمد. اهـ
فمن أراد معرفة حقيقة الأمة فلا ينظر إلى ما يعرض في إعلامها المضل، وإنما ينظر إلى جنائز أئمة الدين فيها؛ ليعلم حقيقة ما عليه الناس من محبة العلم والعلماء، وتحيزهم للدين وأهله، ولو قال المفسدون غير ذلك.
وإذا ذهب العلم ذهب الدين، وهذا يقع في آخر الزمان، كما في حديث عبد الله بن عَمْرِو -رضي الله عنهما- قال: سمعت رَسُولَ الله ? يقول: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ من الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حتى إذا لم يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ الناس رؤوسا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" متفق عليه.
وصلوا وسلموا...