الأكرم
اسمُ (الأكرم) على وزن (أفعل)، مِن الكَرَم، وهو اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | إبراهيم الغامدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
فإن آخر ساعة في حياة الإنسان هي الملخص لما كانت عليه حياته كلها، فمن كان مقيمًا على طاعة الله عز وجل بدا ذلك عليه في آخر حياته ذكرًا وتسبيحًا وتهليلاً وعبادة وشهادة، فهلموا ننظر كيف كانت ساعة الاحتضار على سلفنا الصالح الذين عاشوا على طاعة الله وماتوا على ذكر الله، يأملون في فضل الله ويرجون رحمة الله، مع ما كانوا عليه من الخير والصلاح ..
عباد الله: فإن آخر ساعة في حياة الإنسان هي الملخص لما كانت عليه حياته كلها، فمن كان مقيمًا على طاعة الله -عز وجل- بدا ذلك عليه في آخر حياته ذكرًا وتسبيحًا وتهليلاً وعبادة وشهادة، فهلموا ننظر كيف كانت ساعة الاحتضار على سلفنا الصالح الذين عاشوا على طاعة الله وماتوا على ذكر الله، يأملون في فضل الله ويرجون رحمة الله، مع ما كانوا عليه من الخير والصلاح.
لما رأت فاطمة -رضي الله عنها- ما برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الكرب الشديد الذي يتغشاه عند الموت قالت: وا كرب أبتاه، فقال لها -صلى الله عليه وسلم-: "ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم".
وهذا عبد الله بن جحش عندما خرج لمعركة أحد دعا الله -عز وجل- قائلاً: "يا ربّ: إذا لقيت العدوّ فلقِّني رجلاً شديدًا بأسه، شديدًا حرده، فأقاتله فيك، ويقاتلني، ثم يأخذني ويجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدًا قلت: يا عبد الله: من جدع أنفك وأذنك؟! فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت"، وبعد المعركة رآه بعض الصحابة مجدوع الأنف والأذن كما دعا.
وطعن جبار بن سلمي الكلبي عامر بن فهيرة يوم بئر معونة، فنفذت الطعنة فيه، فصاح عامر قائلاً: فزت ورب الكعبة.
وكان بلال بن رباح -رضي الله عنه- يردد حين حضرته الوفاة وشعر بسكرات الموت قائلاً: غدًا نلقى الأحبة، محمدًا وصحبه، فتبكي امرأته قائلة: وا بلالاه، وا حزناه، فيقول -رضي الله عنه-: وا فرحاه.
وعندما خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه حاثًّا لهم على الاستشهاد في سبيل الله في معركة بدر قال: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض"، فسمع عمير بن الحُمام هذا الفضل العظيم وقال: والله يا رسول الله: إني أرجو أن أكون من أهلها، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "فإنك من أهلها"، فأخرج عمير تمرات من جعبته ليأكلها ويتقوى بها، فما كادت تصل إلى فمه حتى رماها وقال: إنها لحياة طويلة إن أنا حييت حتى آكل تمراتي، فقاتل المشركين حتى قتل.
وعندما حضرت الوفاة معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: "مرحبًا بالموت زائرًا مغيبًا، وحبيبًا جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك، فأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء عند حِلَق الذكر".
ولما احتضر عمر بن عبد العزيز قال لمن حوله: "اخرجوا عني فلا يبق أحد"، فخرجوا فقعدوا على الباب فسمعوه يقول: "مرحبًا بهذه الوجوه، ليست بوجوه إنس ولا جان"، ثم قال: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:83]، ثم قُبض -رحمه الله-.
ولما حضرت آدم بن إياس الوفاة ختم ما تبقى عليه من سور القرآن وهو مسجّى، فلما انتهى قال: "اللهم ارفق بي في هذا المصرع، اللهم كنت أؤملك لهذا اليوم وأرجوك". ثم قال: "لا إله إلا الله"، وقضى.
ولما حضرت الوفاة أبا الوفاء بن عقيل بكى أهله، فقال لهم: "لي خمسون سنة أعبده، فدعوني أتهنّى لمقابلته".
قال أنس بن مالك –رحمه الله-: "ألا أحدثكم بيومين وليلتين لم تسمع الخلائق بمثلهن؟! أول يوم يجيئك البشير من الله إما برضاه وإما بسخطه، واليوم الثاني يوم تعرض فيه على ربك آخذًا كتابك إما بيمينك وإما بشمالك، وأول ليلة ليلة تبيت فيها بالقبر، والليلة الثانية ليلةٌ صبيحتُها يوم القيامة".
وقال المزني: دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه فقلت: كيف أصبحت؟! فقال: "أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقًا، ولكأس المنية شاربًا، ولسوء عملي ملاقيًا، وعلى الله تعالى واردًا، فلا أدري: روحي تصير إلى الجنة فأهنيها أم إلى النار فأعزيها"، ثم بكى.
ولما احتضر عامر بن عبد الله بكى وقال: "لمثل هذا المصرع فليعمل العاملون".
وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: ويحك يا يزيد، من ذا الذي يصلي عنك بعد الموت؟! من ذا الذي يصوم عنك بعد الموت؟! ثم يقول: أيها الناس: ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟! يا من الموت موعده، والقبر بيته، والثرى فراشه، والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر، كيف يكون حاله؟!
وكثير من السلف الصالح مات وهو على طاعة داوم عليها فترة حياته؛ فهذا أبو الحسن النساج لما حضره الموت غشي عليه عند صلاة المغرب، ثم أفاق ودعا بماء فتوضأ للصلاة ثم صلى ثم تمدد وأغمض عينيه وتشهد ومات.
وهذا ابن أبي مريم الغساني لم يفطر مع أنه كان في النزع الأخير، وظل صائمًا، فقال له من حوله: لو جرعت جرعة ماء!! فقال بيده: لا، فلما دخل المغرب قال: أذّن؟! قالوا: نعم، فقطروا في فمه قطرة ماء، ثم مات.
ولما احتضر عبد الرحمن بن الأسود بكى فقيل له: ما يبكيك؟! فقال: "أسفًا على الصلاة والصوم"، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات.
وهذا أبو حكيم الخبري كان جالسًا ينسخ الكتب كعادته، فوقع القلم من يده وقال: "إن كان هذا موتًا، فوالله إنه موت طيب"، فمات.
وعن الفضل بن دكين قال: "مات مجاهد بن جبر وهو ساجد".
أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية:
وبعد:
فإن حسن الخاتمة هي أن يوفّق العبد قبل موته للتوبة عن الذنوب والمعاصي والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة.
ومما يدل على هذا ما روى أحمد في مسنده قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أراد الله بعبده خيرًا استعمله"، قالوا: كيف يستعمله؟! قال: "يوفقه لعمل صالح قبل موته".
ومن العلامات التي يظهر بها للعبد حسن خاتمته: ما يُبشّر به عند موته من رضا الله تعالى واستحقاقه كرامته تفضلاً منه تعالى، كما قال -جل وعلا-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت:30]. وهذه البشارة تكون للمؤمنين عند احتضارهم وفي قبورهم وعند بعثتهم يوم القيامة. وفي الصحيحين قال -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن إذا بُشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه".
ومن علامات حسن الخاتمة: الموت على عمل صالح؛ لما رواه أحمد في مسنده قال -صلى الله عليه وسلم-: "من قال: لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله وختم له بها دخل الجنة، ومن صام يومًا ابتغاء وجه الله خُتم له بها دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ختم له بها دخل الجنة".
ولكي يدرك العبد المؤمن حسن الخاتمة فينبغي له أن يلزم طاعة الله وتقواه والحذر من ارتكاب المحرمات فقد يموت عليها، والمبادرة إلى التوبة من الذنوب.
أما الخاتمة السيئة فهي أن تكون وفاة الإنسان وهو معرض عن ربه -جل وعلا-، مقيم على ما يسخطه سبحانه، مضيع لما أوجبه الله عليه، ولا ريب أن تلك نهاية بئيسة، طالما خافها المتقون، وتضرعوا إلى ربهم سبحانه أن يجنبهم إياها.
ومن أسباب سوء الخاتمة أن يصر العبد على المعاصي ويألفها، فإن الإنسان إذا ألف شيئًا مدة حياته وأحبه وتعلق به فالغالب أنه يموت عليه، قال ابن كثير -رحمه الله-: "إن الذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت"، ويقول ابن القيم -رحمه الله-: "وسوء الخاتمة لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، إنما تكون لمن له فساد في العقيدة أو إصرار على الكبيرة أو إقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل عليه الموت قبل التوبة، فيأخذه قبل إصلاح الطوية، ويصطدم قبل الإنابة والعياذ بالله".
إخواني: فالواجب علينا إن مات أحد المسلمين ميتة سوء وهو على معصية من المعاصي أن نستعيذ بالله من ميتةٍ كميتته، وأن ندعو له، وأن لا نشهر به في المجالس، فقد أفضى إلى ما قدّم. ولكن مع ذلك يجب علينا أن لا نمجد ميتته هذه، وأن لا نتكلم في وسائل الإعلام بأنه مات في ساحة النضال وميدان البطولة والشرف، وأن ميتته كانت من أجمل الميتات؛ لأن هذه الأمة لا تعرف إلا ساحة نضال واحدة وميدان بطولة واحد، وهو جهاد أعداء الله -عز وجل-، ولأن أجمل ميتة في التاريخ هي الموت على طاعة الله -عز وجل-.
ولكن وسائل الإعلام كعادتها درجت على خلخلة المفاهيم الصحيحة في عقول الناس، وجعلت المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وخاصة تلك الفضائيات التي أمسك بزمامها من لا خلاق لهم ولا أخلاق، وحملوا على عاتقهم إفساد هذه الأمة وتغيير ثوابتها، فبئس ما يقولون وما يفعلون.
ألا وصلوا وسلموا على خير البرية...