المقيت
كلمة (المُقيت) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أقاتَ) ومضارعه...
العربية
المؤلف | سامي بن خالد الحمود |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
ولو قيل لأحدنا: إن أحد الكبراء أو الأمراء سيزورك في بيتك، لرأيته يستعد لاستقباله وإكرامه قبل أيام وأيام، فكيف بشهر فيه من الفضائل والمحاسن ما يعجز عنه الحصر والبيان؟! إنه شهر الصبر والإحسان، شهر الرحمة والغفران، شهر الدعاء والقرآن، شهر التوبة والعتق من النيران، قلوب المتقين إليه تحن، ومن ألم فراقه تئن.
أما بعد، عباد الله: عن أي ضيف أتحدث اليوم؟ أيام تتكرر، وشهور تتوالى، وسُنونٌ تتعاقب، ولا يزال هذا الضيف العزيز ينشر عبيره في الأيام، وفي الشهور والأعوام.
وفي مدينة سيد الأنام -صلى الله عليه وسلم- كانت البشرى تُزَفُّ لأولئك الأطهار، من الصحابة الأخيار، رضي الله عنهم، يزفها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "أتاكم رمضان، شهر مبارك، فرض الله -عز وجل- عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبوب الجحيم، وتُغَلُّ فيه مرَدة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِم خيرها فقد حُرِم" رواه النسائي والبيهقي وصححه الألباني في صحيح الترغيب.
قال ابن رجب -رحمه الله-: هذا الحديث أصلٌ في تهنئة الناس بعضُهم بعضاً بشهر رمضان. كيف لا يُـبشَّر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟ كيف لا يـبشر المذنب بغلق أبواب النيران؟ كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشيطان؟.
إنها البشارة التي عمل لها العاملون، وشمر لها المشمرون، وفرح بقدومها المؤمنون، فأين فرحتك؟ وأين شوقك وأنت ترى الأيام تدنو منك رويداً رويداً، لتضع بين يديك فرحة كل مسلم؟!.
أخي الحبيب، استحضر في قلبك الآن أحب الناس إليك وقد غاب عنك أحد عشر شهراً ثُم بُشِّرتَ بقدومه وعودته خلال أيام قلائل، كيف تكون فرحتك بقدومه، واستبشارك بقربه، وبشاشتك للقائه؟.
إن أول الآداب الشرعية بين يدي رمضان أن تتأهب له قبل الاستهلال بنفسٍ بقدومه مستبشرة، ولرؤية الهلال منتظرة، وأن تستشرف لنظره، استشرافها لقدوم حبيب غائب من سفره، وهذا من تعظيم شعائر الله: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32].
نعم، يفرح المؤمنون بقدوم شهر رمضان ويسبشرون، ويحمدون الله أن بلَّغهم إياه، ويعقدون العزم على تعميره بالطاعات، وزيادة الحسنات، وهجر السيئات، وأولئك يبشَّرون بقول الله تبارك وتعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:58].
لماذا؟ لأن محبة الأعمال الصالحة والاستبشارَ بها فرع عن محبة الله -عز وجل-، قال تعالى: (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [التوبة:124].
إنني أعتذر إليكم أيها الأحبة، وأنا أتحدث اليوم عن رمضان؛ لا أعتذر لأني قد بكّرت وقد بقي في شعبان جمعة أخرى، بل أعتذر لأننا اليوم متأخرون في الحديث والاستعداد لاستقبال هذا الضيف الكريم، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يكثر من الصوم في شعبان استعداداً وتهيئة للنفس قبل رمضان.
ولو قيل لأحدنا: إن أحد الكبراء أو الأمراء سيزورك في بيتك، لرأيته يستعد لاستقباله وإكرامه قبل أيام وأيام، فكيف بشهر فيه من الفضائل والمحاسن ما يعجز عنه الحصر والبيان؟!.
إنه شهر الصبر والإحسان، شهر الرحمة والغفران، شهر الدعاء والقرآن، شهر التوبة والعتق من النيران، قلوب المتقين إليه تحن، ومن ألم فراقه تئن.
كان الصالحون يدعون الله زماناً طويلاً ليـبلغهم أيام شهر رمضان، قال معلى بن الفضل -رحمه الله-: كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعون ستة أشهر أن يتقبل منهم.
وقال يحيى بن أبي كثير -رحمه الله-: كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلاً.
فادع يا أخي بدعائهم، وافرح كفرحهم، عسى الله أن يشملك بنفحات رمضان، فيغفرَ الله لك ذنبك، وتخرجَ من رمضان وقد أُعتِقتَ من النار.
أخي المسلم: أما خطر ببالك يوماً فضلُ مَن أدرك رمضان؟! أما تفكرت يوماً في عظم ثواب العمل في هذا الشهر المبارك؟ تأمل معي هذه القصة العجيبة: روى الإمام أحمد وابن ماجه وصححه الألباني من حديث طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- أن رجلين من "بلى" قدما على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان إسلامهما جميعا، فكان أحدهما أشد اجتهادا من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستُشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي.
قال طلحة: فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة، إذا أنا بهما، فخرج خارجٌ من الجنة فأذن للذي توفي الآخِر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجع إلي فقال: ارجع فإنك لم يأن لك بعد.
فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحدثوه الحديث، فقال: "مِن أي ذلك تعجبون؟" فقالوا: يا رسول الله، هذا كان أشد الرجلين اجتهاداً ثم استُشهد، ودخل هذا الآخِرُ الجنةَ قبله!.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أليس قد مكث هذا بعده سنة؟" قالوا: بلى، قال: "وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟" قالوا: بلى، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "فما بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض!".
الله أكبر! إن بلوغَ رمضانَ نعمةٌ عظيمة، وفضلٌ كبير من الله تعالى، حتى إن العبد ببلوغ رمضان وصيامه وقيامه يسبق الشهداء في سبيل الله الذين لم يدركوا رمضان!.
لقد بيَّن الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- اختلاف سعي الناس في الاستعداد لرمضان، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بمحلوف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان، ولا أتى على المنافقين شهر شرّ لهم من رمضان، وذلك لما يُعِدُّ المؤمنون فيه من القوة للعبادة، وما يُعِدُّ فيه المنافقون من غَفلات الناس وعوراتهم، هو غُنْمٌ للمؤمن يغتنمه الفاجر"، وفي رواية: "ونقمة للفاجر"، والحديث في سنده اختلاف، وقد أخرجه الإمام أحمد وابن خزيمة في صحيحه، وصححه أحمد شاكر.
ومعنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وما يُعِدُّ فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم"، يعني أن المنافقين يستعدون في شهر رمضان للإيذاء بالمسلمين في دنياهم وتتبع عوراتهم أثناء غفلتهم، وكأن ذلك غنيمة اغتنموها، وهي في الحقيقة شر لهم لو كانوا يعلمون ما أعده الله لهم في الآخرة من العذاب المقيم، والحرمان من النعيم.
وما أدق هذا الوصف في حق بعض أهل الفن والإعلام الذين يغتنمون موسم الطاعة لصد الناس عن سبيل ربهم، وفتنتهم عن طاعة الله -عز وجل-!.
وإذا كان دعاة الباطل واللهو والفجور تتعاظم هِمَمُهُم في الإعداد لغواية الخلق في هذا الشهر، بما يذيعونه بين الناس من مسلسلات ورقص ومجون وغناء، فحريٌّ بأهل الإيمان أن ينافسوهم في هذا الاستعداد، ولكن في البر والتقوى.
باع قوم من السلف جاريةً لهم لأحد الناس، فلما أقبل رمضان أخذ سيدها الجديد يتهيأ بألوان المطعومات والمشروبات لاستقبال رمضان -كما يصنع كثير من الناس اليوم- فلما رأت الجارية ذلك منهم قالت: لمـاذا تصنعون ذلك؟ قالوا: لاستقبال شهر رمضان، فقالت: وأنتم لا تصومون إلا في رمضان؟ والله لقد جئت من عندِ قومٍ، السَّنَةُ عندَهم كأنها كلَّها رمضان، لا حاجة لي فيكم، رُدُّوني إليهم. ورجعت إلى سيدها الأول.
عباد الله: كم من رمضان مر علينا ونحن غافلون؟ ووالله لا ندري أندركه هذا العام، أم تتخطفنا دونه المنون؟.
ما أحوجنا إلى تهيئة النفوس، بمحاسبتها وإصلاحها قبل بلوغ رمضان! ولا نكون ممن يدركون رمضان وقد تلطخوا بالمعاصي والذنوب فلا يؤثر فيهم صيامه، ولا يهزهم قيامه، ويخرجون منه كما دخلوا فيه.
وإذا كان رمضان شهر النفحات والرحمات والروحانيات، فإن الإصرار على المعاصي والذنوب يحجب كل هذه المعاني الجميلة.
عبد الله، إن للمعاصي آثاراً بليغة في قسوة القلوب، وحرمانه من مادة حياته، فإن كنت قد سودت قلبك، ولطخت صفحاتِ حياتك بأدران المعاصي، فها هو رمضان، موسمٌ عظيم، يمنحك صفحة بيضاء، تغسل بها قلبك، وتجدد فيها حياتك، فهيئ قلبك من الآن.
إياك أن تجعل أيام رمضان كأيامك العادية! بل اجعلها غرةً بيضاءَ في جبين أيام عمرك، قال جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: إذا صمت فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك، عن الكذب، والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك، ويوم فطرك سواء.
عبد الله، إذا كنت قبل رمضان كسولاً عن شهود الصلوات في المساجد، فاعقد العزم في رمضان على عمارة بيوت الله، عسى الله تعالى أن يوفقك لذلك حتى الممات.
وإذا كنت أخي شحيحاً بالمال، فاجعل رمضان موسماً للبذل والجود، فهو شهر الجود والإحسان.
وإذا كنت غافلاً عن ذكر الله تعالى، فاجعل رمضان أيام ذكر ودعاء، وتلاوة لكتاب ربك تعالى، فهو شهر القرآن.
قال الحسن البصري -رحمة الله-: إن العبـد لا يـزال بـخير مـا كـان لـه واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته.
أسأل الله تعالى أن يبلغنا وإياكم رمضان، وأن يحسن عملنا فيه، وأن يهدينا لأحسن الأخلاق والأعمال، ويتقبلها منا بقبول حسن، إنه على كل شيء قدير.
الخطبة الثانية:
الحمد لله المتوحد بالجلال بكمال الجمال تعظيماً وتكبيراً.
عباد الله: ماذا أعددنا ونحن على أيام من هذا الشهر العظيم، هل أعددنا نية وعزماً صادقاً بين يديه؟ هل بحثنا عن قلوبنا، لنعرف عزمها وصدقها فيه؟.
إن الإمساك ونية الصوم يأتي بها كل صائم، أما نية إخلاص الصوم، وصدق العبادة، فهي التي لا يحققها إلا القلة من الموفقين، (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت:35].
لا يستوي من لا يتجاوز اهتمامه وتفكيره في استقبال رمضان شراء الحاجيات وتكديس الأطعمة الرمضانية، ومن يجعل جل اهتمامه غذاء الروح والتفكير في تطهير وتزكية النفس والإقبال على الله تعالى في هذا الشهر المبارك.
لسان حاله: كيف أستفيد من هذا الموسم؟ كيف أستعد وأخطط لأن أكون من العتقاء من النار، مِن الذين تشتاق لهم الجنة، من الذين يغفر الله لهم ما تقدم من ذنوبهم.
إن الإعداد للعمل علامة التوفيق وأمارة الصدق في القصد، كما قال تعالى: (وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً) [التوبة:46]، والطاعة لابد أن يُمهَّد لها بوظائف شرعية كثيرة حتى تؤتي أكلها ويُجتني جناها، وخاصة في شهر رمضان، حيث الأعمال الصالحة المتعددة.
ولهذا نقول: من الآن، اصدق عزمك على فعل الطاعات، وأن تجعل من رمضان صفحةً بيضاءَ نقية، مليئةً بالأعمال الصالحة، صافيةً من شوائب المعاصي.
ونحن نتحدث عن الإعداد والتخطيط المسبق للاستفادة من رمضان، أذكِّر نفسي وإياكم بخمسة أمور :
أولاً: بادرْ إلى التوبة الصادقة، المستوفية لشروطها، وأكثر من الاستغفار.
ثانياً: تعلَّمْ ما لابد منه من فقه الصيام، وأحكامه، وآدابه، والعبادات فيه، كالاعتكاف، والعمرة، وزكاة الفطر، وغيرها.
ثالثاً: اعقد العزم الصادق والهمة العالية على استغلال رمضان بالأعمال الصالحة، قال تعالى: (فإذا عزم الأمر فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) [محمد:31]، وقال -جلا وعلا-: (وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً)، وتَحَرَّ أفضل الأعمال فيه وأعظمها أجراً.
رابعاً: استحضر أن رمضان كما وصفه الله -عز وجل- أيام معدودات، فهو موسم فاضل، ولكنه سريع الرحيل، واستحضر -أيضاً- أن المشقة الناشئة عن الاجتهاد في العبادة سرعان ما تذهب بعد أيام، ويبقى الأجر، وشَرْحُ الصدر -بإذن الله-، أما المفرط فإن ساعاتِ لهوه وغفلته تذهب سريعاً، ولكن تبقى تبعاتها وأوزارها.
خامساً وأخيراً : التخطيط والترتيب لبرنامج يومي للأعمال الصالحة، كقراءة القرآن، والجلوس في المسجد، والجلوس مع الأهل، والصدقة، والقيام، والعمرة، والاعتكاف، والدعوة، وغيرها من الأعمال، فلا يدخل عليك الشهر وأنت في شَتات، فتحرمَ كثيراً من الخيرات والبركات.
أسأل الله أن يبلغنا وإياكم رمضان، اللهم بلغنا رمضان، وأحسِنْ عملنا فيه، إنك أجود مسؤول، وخير مأمول.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...