الغني
كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...
العربية
المؤلف | محمد بن إبراهيم الشعلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - الحياة الآخرة |
من الناس من ذهبت عليه الليالي والأيام سدى، ومرت عليه الشهور والأعوام ضياعا وهملا، لا يعتبر بذهابها ومرورها، ولا يتفكر فيها وأنها تقربه من الدار الآخرة، وتبعده من الدار الدنيا
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، قال سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
يا عبد الله:
هبْك عُمِّرت مثلما عاش نوحٌ ثـم لاقيـت كلَّ ذاك يسارا
هل من الموت لا أبا لك بـدٌّ أيُّ حيٍّ إلى سـوى الموت صارا
عباد الله!
تمر الليالي والأيام على الناس، فمنهم من أراد الله عز وجل والدار الآخرة فعمر دنياه بطاعة الله عز وجل، وابتعد عن معصية الله، لا يقول إلا خيراً، ولا يفعل إلا خيراً، ولا يأمر إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر، لا يكسب المال إلا من حله، ولا يصرفه إلا في محله، قد سلم الناس من لسانه ويده، فخيره إليهم واصل وشره عنهم حائل، عقيدته حفظها من الخلل والزلل، وفكره حفظه من الزيغ والخَطَل، ومعاملته صانها من الغش والخداع، لا ينظر إلى الدنيا إلا وكأنها ظل استظل به ثم قام وتركه، أو كباب دخل منه ثم خرج، فلم يتعب نفسه فيها وفي ملذاتها وشهواتها، ولم يركب لها جواد الحرص والطمع، القناعة فيها دَيْدَنُه، والإقلال منها سنته، لا ينافس فيها أهلها، ولا يزاحم فيها أصحابها، قد نظر إليها نظر العاقل اللبيب، فرأى الموت يقطع على أهلها لذاتهم، والأوجاع تعكر عليهم صفوها، والهموم والغموم تفسد عليهم سرورهم وفرحهم، والأيام والليالي تنقلهم من شبابهم إلى شيبهم، ومن قوتهم إلى ضعفهم، ومن حياتهم إلى موتهم، فهنيئا لهذا وطوبى له.
قال جل وعلا في كتابه الكريم (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء:18-19].
وقال سبحانه: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [الشورى:20].
ومن الناس من ذهبت عليه الليالي والأيام سدى، ومرت عليه الشهور والأعوام ضياعا وهملا، لا يعتبر بذهابها ومرورها، ولا يتفكر فيها وأنها تقربه من الدار الآخرة، وتبعده من الدار الدنيا، شبابه أضاعه باللهو واللعب، والصبابة والطيش، والسوء والمنكر، ففاته الوصف الذي ينال به من اتصف به الاستظلال بظل الله يوم لا ظل إلا ظله، وهو الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، حيث قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" وذكر منهم "وشاب نشأ في طاعة الله".
وكهولته أضاعها بالوقوع في معصية الله وترك طاعته، واللهث خلف الدنيا يجمع من حطامها الفاني ولذتها الزائلة، لا يسأل عن حرامها فيجتبه، ولا عن حلالها فيكسبه، الحلال عنده ما حل في يده، حراما كان أو حلالاً، بناء جسمه مقدم على بناء دينه وعقيدته وصلاح دنياه واستقامتها له مقدم على صلاح دينه وعقيدته، رضا المخلوق أهم عنده من رضا خالقه، عالم بالدنيا وشئونها وأحوالها وشهوتها، جاهل بدين الله وبالآخرة، قد يقع في ما يخل بعقيدته فلا يكترث، قد أعمى حب الدنيا قلبه، وغطت خمرة الدنيا عقله، ومن وصل منهم إلى الشيخوخة، فإنه مستمر على ضلاله وجهله وولعه بالدنيا، لا يتعظ بقرب الارتحال من الدنيا، ولا يتذكر بدنو شمسه من المغيب، نسأل الله السلامة والعافية، فبؤسا لهذا وتعسا.
إن لم يتداركه الله برحمة منه، فهذا يخشى أن ينطبق عليه قول الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يونس:7-8].
فيا عباد الله! احرصوا على طاعة الله ما دمتم في زمن الإمهال، واعمروا أوقاتكم بها وبالعمل الصالح والكسب الحلال، والدعوة إلى الله ذي العظمة والجلال، واعتبروا بمن كان معكم هذه الحياة، فأتاه هاذم اللذات ومفرق الجماعات، فإن الذي أتاهم سوف يأتيكم عاجلاً أم آجلا.
فاستعدوا ليوم الرحيل وكونوا في الدنيا كأنكم غرباء أو عابروا سبيل، فقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنكبي عبد الله بن عمر وقال له: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".
وكان ابن عمر يقول بعد هذا: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. أخرجه البخاري.
وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك".
وثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل".
رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم من شفقته علينا ورحمته بنا، يحثنا على المبادرة بالأعمال الصالحة قبل أن يأتي زمن هذه الفتن، التي تجعل المسلم حيران، ويصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، وأنتم ترون عباد الله أنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه، بل لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه، فكيف يليق بالمسلم بعد هذا التوجيه والإرشاد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتهاون في طاعة الله ويرتكب معصية الله، وتذهب عليه الليالي والأيام فيما يضره ولا ينفعه،
إن كنت نلت من الحياة وطيبها من حسن وجهك عفة وشبابا
فاحذر لنفسك أن ترى متمنيا يوم القيامة أن تكون تــرابا
فلنغتنم عباد الله هذا العمر بطاعة الله وعبادته، فالفتن في ازدياد، فتن شهوات، وفتن شبهات، وفتن خلافات وتقاطع بين الأفراد والجماعات، وبين الدول والحكومات، والصراع بين المسلمين والكافرين، بين الحق والباطل، بين الهدى والضلال، قد اشتد في هذا الزمان وهو ازدياد وتعاظم، فدول الكفر قد تكالبت على دول الإسلام، والكفار على اختلاف مللهم قد اجتمعوا على حرب المسلمين وجمعوا على المسلمين بين صدهم عن دينهم وعقيدتهم، وبين قتلهم وتشريدهم، وما أحداث كوسوفا المسلمة في هذه الأيام إلا خير شاهد على ذلك.
لقد قال رئيس يوغسلافيا الصربي الكافر مقولة تنبئ عن حقد دفين يملأ قلبه بل وكل قلب كافر، قال: معركة كسوفا بدأت قبل ستة قرون وانتهت اليوم ونحن مستعدون أن نضحي بثلاث مائة ألف مقاتل صربي لاستئصال الإسلام من سراييفو إلى مكة اهـ.
وقال أحد قوادهم: الهدف من هذه الحرب هو القضاء على المسلمين، فالمسلمون في أوروبا يجب أن يختفوا تماما، إن على المسلمين أن يتحولوا عن الإسلام وأن يصبحوا صربيين أو كروات، أما الخيار الثالث فهو الموت اهـ.
وقال: هناك ثأر بيننا وبين المسلمين الألبان في كوسوفا وسوف نقوم بطردهم، ومن يريد البقاء سنقتله، لا نريد مسلمين بيننا، بل حتى في أوروبا كلها اهـ.
أسمعتم عباد الله، فما لكم إلا الاعتصام بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير للمسلم أن يموت على التوحيد والطاعة، لا أن يموت على المعصية والفجور والصدود والإعراض، أو يموت على الكفر والعياذ بالله، اللهم وفقنا لعمارة أوقاتنا بطاعتك وطاعة رسولك، وجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، واجعل أعوامنا كلها أعوام خير وبركة علينا في الأعمال والأقوال والأموال والأولاد، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
بعد المقدمة: عباد الله! تزودوا في حياتكم لحياتكم الأخرى، وإن خير زاد تتزودون به هو زاد التقوى قال سبحانه: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: من الآية197]، وأكثروا من هذا الزاد واحذروا أن يكون يوم القيامة قليل، قال أحدهم يعاتب نفسه:
عدمتك نفسي ما تملي بطالتي وقد مر أصحابي وأهل مودتي
أعاهد ربي ثم أنقض عهـده وأترك عزمي حين تعرض شهوتي
وزادي قليل ما أراه مبلغـي أللزاد أبكي أم لبعد مســافتي