الرقيب
كلمة (الرقيب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - التاريخ وتقويم البلدان |
كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارًا من الطاعون, قالوا: نأتي أرضًا ليس بها موت, حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا, قال الله لهم: موتوا؛ فماتوا, فمر عليهم نبي من الأنبياء, فدعا ربه أن يحييهم؛ فأحياهم...
الْخُطبَةُ الْأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أيها الناس: لقد حكى الله لنا في كتابه من قصص الأوائل؛ ما يستنير به العبد, ويقوى إيمانه, فمن مر به مثل في القرآن أو قصة؛ فليتدبرها, وماذا عني بها؟, فإن تبين له فليحمد الله فإنه من العالمين؛ كما قال –سبحانه-: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ)[العنكبوت: 43].
ومن تلك القصص؛ ما ذكر الله في سورة البقرة, قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت, يقول الله -جل وعلا-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)[البقرة: 243]؛ روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "كانوا أهل قرية يقال لها: دا وردان", وكذا قال السدي وأبو صالح وزاد: "من قبل واسط", وقال سعيد بن عبد العزيز: "كانوا من أهل أذرعات".
وروى وكيع بن الجراح في تفسيره بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنه-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ)؛ قال: "كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارًا من الطاعون, قالوا: نأتي أرضًا ليس بها موت, حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا, قال الله لهم: موتوا؛ فماتوا, فمر عليهم نبي من الأنبياء, فدعا ربه أن يحييهم؛ فأحياهم, فذلك قوله -عز وجل-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ)".
وذكر غير واحد من السلف: "أن هؤلاء القوم كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل, استوخموا أرضهم وأصابهم بها وباء شديد؛ فخرجوا فرارًا من الموت إلى البرية، فنزلوا واديًا أفيح، فملأوا ما بين عدوتيه, فأرسل الله إليهم ملكين؛ أحدهما من أسفل الوادي, والآخر من أعلاه, فصاحا بهم صيحة واحدة؛ فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد, فحيزوا إلى حظائر وبُني عليهم جدران وقبور, وفنوا وتمزقوا وتفرقوا, فلما كان بعد دهر مَرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له: حزقيل, فسأل الله أن يحييهم على يديه؛ فأجابه إلى ذلك وأمره أن يقول: أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي؛ فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض، ثم أمره فنادى: أيتها العظام! إن الله يأمرك بأن تكتسي لحمًا وعصبًا وجلدًا؛ فكان ذلك، وهو يشاهده ثم أمره فنادى: أيتها الأرواح! إن الله يأمرك أن تَرْجِعَ كلُ روح إلى الجسد الذي كانت تعمره؛ فقاموا أحياء ينظرون, قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة، وهم يقولون: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك, لا إله إلا أنت".
وكان في إحيائهم عبرةٌ ودليلٌ قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة؛ ولهذا قال: (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ)؛ أي: فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة والدلالات الدامغة؛ (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)؛ أي: لا يقومون بشكر ما أنعم الله به عليهم في دينهم ودنياهم.
وفي هذه القصة عبرةٌ ودليل على أنه لن يغني حذر من قدر, وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه, فإن هؤلاء فروا من الوباء؛ طلبًا لطول الحياة؛ فعوملوا بنقيض قصدهم, وجاءهم الموت سريعًا في آن واحد.
ومن هذا القبيل ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-: "أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ, لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- وأصحابه, فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام, فذكر الحديث, فجاءه عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- وكان متغيبًا لبعض حاجته, فقال: إن عندي من هذا علما، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا كان بأرض وأنتم فيها؛ فلا تخرجوا فرارًا منه، وإذا سمعتم به بأرض؛ فلا تقدموا عليه", فحمد الله عمر, ثم انصرف".
وعن الأصمعي قال: "لما وقع الطاعون بالبصرة, خرج رجل من أهلها عنها على حمار ومعه أهله وولده, وخلفه عبد حبشي يسوق حماره, فطفق العبد يرتجز وهو يقول:
لن نسبق الله على حمار
ولا على ذي منعة مُطار
قد يصبح الله أمام الساري
فرجع الرجل بعياله لمّا سمع قولَه".
وقد ذكر أهل التاريخ كابن عساكر وغيره عن خالد بن الوليد -رضي الله عنه-، أنه قال -وهو في سياق الموت-: "لقد شهدت كذا وكذا موقفًا, وما من عضو من أعضائي إلا وفيه رمية أو طعنة أو ضربة, وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت العير! فلا نامت أعين الجبناء"؛ يعني: أنه يتألم لكونه ما مات قتيلا في الحرب, ويتأسف على ذلك, ويتألم أن يموت على فراشه.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؛ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ:
أيها الناس: مر بنا قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت, ولقد حوت فوائد كثيرة منها: أن الأجل واحد, وأن وقت الموت محدد, لا يقدمه مرض, ولا يدفعه صحة, وأن طريقة الموت قد تختلف, ولكن النتيجة واحدة؛ وهي خروج الروح ونهاية الدنيا.
من لم يمت بالسيف مات بغيره | تعددت الأسباب والموت واحد |
ويدخل في هذا الإيمان بالقدر, وأن الله مقدر كل شيء, وأنه لا يكون شيء إلا بقدر, فمن أيقن بذلك؛ صار شجاعا مقداما لا يهاب الموت, ولا يهاب شيئا أبدا؛ لأنه أيقن أنه لن يصيبه إلا ماقدره الله له؛ كما قال -تعالى-: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)[التغابن: 11]؛ روى البيهقي في السنن الكبرى عن قتادة قال: "هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ؛فيرضي وَيُسَلِّمُ", وَرُوِىَ هَذَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّهُ عَنْهُ-.
فإذا كان الأمر كذلك فعلى العبد أن يسعى جاهدا في بناء آخرته, وأن لا يجعل ذكر الموت محبطا له عن العمل الصالح, أو منغصا له, فإن البعض أصبح ذكر الموت عنده كالصاعقة, لا يرغب في سماعه, ولا يحب أن يحضر مجالس التذكير به؛ وكأنه لن يموت حتى يحضر هذه المجالس, أو أن الموت يصيب من يكثر من ذكره, ولكن الله قطع الطريق على الجبناء بقوله: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا)[المنافقون: 11], وقوله: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ)[الجمعة: 8].
تأمل لم يقل يلحقكم أو يدرككم, بل قال: (مُلَاقِيكُمْ)؛ فكأن الإنسان يفر من الموت وهو يسير في الاتجاه المعاكس, فالموت أمامك وليس خلفك, مهما فعلت؛ لذا على العبد أن يسعى في إصلاح نفسه, والاستعداد للموت.
ومن الفوائد: أن أمر الله للجميع كأمره للواحد, وأنه لا يكرثه شيء عظم أن يفعلَه, أو كثر أن يأخذ منه وقتا في فعله لصعوبته, بل الكل يكون بقوله كن فيكون مباشرة, قال -تعالى-: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[يس: 82], وقوله: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)[لقمان: 28], فهو يأمر الشيء فيكون بكلمة واحدة, سواء كثر أو قل, عظم أو دق الكل سواء, وهو مع ذلك بأمر واحد لا يحتاج إلى تكرار؛ كما قال -سبحانه-: (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ)[القمر: 50], أي: لا يأمر بالشيء إلا مرة واحدة، فيكون ذلك الشيء لا يحتاج إلى تكرره وتوكده, فهو -سبحانه- المالك والمتصرف الذي لا يعجزه شيء, ولا يكرثه -جل في علاه-.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم؛ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً؛ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِم).