البحث

عبارات مقترحة:

المجيب

كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...

المحسن

كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...

الرياح آية من آيات الله تعالى

العربية

المؤلف إبراهيم بن محمد الحقيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التاريخ وتقويم البلدان - أهل السنة والجماعة
عناصر الخطبة
  1. جند الله .
  2. الرياح بين النعمة والعذاب .
  3. من منافع الرياح .
  4. تسخير الرياح لبعض الرسل .
  5. النهي عن سب الرياح . .
اهداف الخطبة
  1. الحث على التفكر في نعمة الرياح ومعرفة آثارها .

اقتباس

إن الريح أعجوبة من الأعاجيب يحتاج البشر إليها ولكنهم يخافون منها، ولو عملوا ما عملوا من وسائلهم ومخترعاتهم لما حركوها وهي ساكنة. وإذا تحركت فلا طاقة لهم بإيقافها أو تخفيفها

الحمد لله رب كل شيء ومليكه؛ خلق الخلق فأتقن خلقهم، ودبرهم فأحسن تدبيرهم (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) [الفرقان:2] نحمده حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ويرضي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ إقرارا بربوبيته، واعترافا بألوهيته، وإرغاما لمن كفر به (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) [يونس:31-32].

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أعلم الخلق بربه عز وجل، وأتقاهم له، يخشى العذاب وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فإن آياته في خلقه عظيمة، يراها العباد في السموات وفي الأرض وفي أنفسهم، وكلها دلائل على عظمة الله تعالى وقدرته، وعلمه وإحاطته، وعجيب صنعه وتقديره (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) [غافر:13] (وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) [غافر:81] (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصِّلت:53] وذلك يستوجب عبادته وحده لا شريك له، وشكره على نعمه، والحذر من معصيته (يُنَزِّلُ المَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) [النحل:2].

أيها الناس: لله عز وجل في خلقه آيات باهرة، ومعجزات قاهرة، تبهر العقول، وتملك النفوس، وتخوف العباد، وتقهر الأقوياء. وله سبحانه وتعالى جند في الأرض وفي السماء، من الملائكة والإنس والجن، ومن الحيوان والوحش والطير، ومن الزواحف والحشرات والطفيليات والجمادات، ومن الكواكب والأنجم والنيازك، ومن البحار والرياح والزلازل والأعاصير والبراكين والأوبئة، في البر والبحر، وفي الأرض والأجواء، لا يعلم عدتها إلا الله تعالى، ولا يدرك قوتها إلا هو سبحانه، تأتمر بأمره عز وجل، يسلطها على من شاء من خلقه فلا يقف أمامها شيء، حتى تنهي مهمتها، وتؤدي وظيفتها (وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) [الرعد:11].

والرياح خلق من خلق الله تعالى لا يراها البشر، ولكنهم يحسونها، ويرون أثرها، تكون رحمة وتكون عذابا بأمر خالقها ومدبرها جل في علاه، وهي من أعظم الآيات الدالة على عظمته وقدرته، ووجوب إخلاص العبادة له وحده لا شريك له؛ ولذا جاء في معرض ذكر آيات الله تعالى الدالة على ربوبيته وألوهيته: ذكر الرياح وتدبيرها (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الجاثية:5].

والريح آية في حال كونها رحمة من الله تعالى يرحم بها عباده (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الرُّوم:46] وفي الآية الأخرى (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [النمل:63].

كما أن الريح آية عظيمة من آيات الله تعالى في حال كونها عذابا؛ فقد عدد الله عز وجل جملة من آياته الدالة على قدرته سبحانه، وذكر منها آية إهلاك عاد بالريح (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ العَقِيمَ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) [الذاريات:42 ].

وللرياح منافع عظيمة لأهل الأرض، وبفقدها تموت الأرض ومن عليها؛ فالرياح هي سبب الغيث المبارك بأمر الله تعالى، وهي البشرى بين يديه (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) [الفرقان:48]. وفي الآية الأخرى (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [الرُّوم:48]. فهم يستبشرون بها لما يعقبها من الرحمة والغيث المبارك الذي تكون به حياتهم، وحياة أنعامهم وأشجارهم وزرعهم، ونماء أموالهم، ورغد عيشهم.

والرياح هي التي تسوق السحب في السماء أمثال الجبال إلى حيث يأمر الله تعالى، فيسقي به من يشاء من عباده (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ المَاءَ) [الأعراف:57] وفي الآية الأخرى (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) [فاطر:9].

والرياح تلقح السحب بأمر الله تعالى فينزل الماء، وتلقح الزرع والشجر فيهتز خضرا مثمرا، وتنقل البذور من أرض إلى أرض حتى إذا سُقيت اكتست خضرة وربيعا، ومهما عمل البشر وبكل إمكانياتهم فهم أعجز من أن يزرعوا صحارى تمتد مد الناظرين بساطا أخضر بأنواع النبات الطيب في مشارق الأرض ومغاربها، ولكن الرياح تفعل ذلك بأمر الله تعالى وقدرته وتدبيره (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) [الحجر:22] قال عبيد بن عمير الليثي رحمه الله تعالى: "يبعث الله تعالى المثيرة فتقم الأرض قما، ثم يبعث الله تعالى الناشئة فتنشئ السحاب، ثم يبعث الله تعالى المؤلفة فتؤلف بينه، ثم يبعث الله تعالى اللواقح فتلقح السحاب"
والرياح سبب بإذن الله تعالى لدورة المياه حول الأرض، ولولا ذلك لأسن الماء، ولم تنتفع به الأحياء، بل إن كل الأحياء على الأرض لو فقدت الرياح لهلكت، يقول كعب الأحبار رحمه الله تعالى: "لو حبست الريح عن الناس ثلاثا لأنتن ما بين السماء والأرض".
 

والرياح فيها ما لا يحصى من منافع العباد، وتسير بالسحب التي فيها حياة الأرض، وتذروا البذور، وفيها أرزاق العباد والحيوان والطير، وقد أقسم الله تعالى بها (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالحَامِلَاتِ وِقْرًا) [الذاريات:1-2] فالذريات هي الرياح، والحاملات هي السحب، وفي سورة أخرى (وَالمُرْسَلَاتِ عُرْفًا فَالعَاصِفَاتِ عَصْفًا) [المرسلات:2] وابن عباس رضي الله عنهما لما وصف جود النبي صلى الله عليه وسلم استعار الرياح المرسلة في وصفه فقال رضي الله عنه "فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة" متفق عليه. وما هذا الوصف من ابن عباس رضي الله عنهما إلا لأن الريح ينتج عنها خير عظيم للأرض ومن عليها.

والرياح جند من جند الله تعالى يسخرها سبحانه لقوم ساكنة طيبة، تجري بها فلكهم في البحار حيث يريدون (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ) [الشُّورى:33].
وفي لحظة يأمرها الله عز وجل ، فتتحرك بعد السكون، وتتحول من ريح طيبة هادئة إلى عاصفة تكاد تغرقهم، فلا ملجأ لهم منها إلا الله تعالى (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ المَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [يونس:22] ولذلك حذر الله تعالى العباد من الكفر به، وأمن مكره، وهددهم بريح تغرقهم (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ) [الإسراء:69].
ولما كانت الريح من جند الله تعالى فإنه سبحانه سخرها لبعض رسله؛ كما سخرها لسليمان عليه السلام (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) [الأنبياء:81 ] وفي آية الأخرى (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [ص:36].

ونصر الله تعالى بالريح هودا عليه السلام، وأهلك بها عادا لما كذبوا (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا) [فصِّلت:16] وكان من شدة هذه الريح أنها ترفع الواحد منهم في السماء، ثم تلقيه صريعا على الأرض حتى تثلغ رأسه كما قال الله تعالى في وصف فعلها بهم (تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) [القمر:20] نسأل الله تعالى العافية من سخطه ونقمته.

لقد فرحت عاد بها في بادئ الأمر يظنون أنها من المبشرات فإذا هي من المهلكات، وانقلب فرحهم بها إلى حزن وعذاب، فأخذتهم وصرعتهم، ودمرت حضارتهم، وأبادت خضراءهم (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ) [الأحقاف:25].

وحاقت بهم أياما عددا، لا يستطيعون لها دفعا، ولا يجدون لهم منها مهربا، وما عجزت الريح عنهم في مساكنهم فأخرجتهم منها، وألقتهم صرعى، فما أقواها من ريح! وما أشدها على المكذبين! وما أطوعها لرب العالمين! (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى القَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) [الحاقَّة:7].

ونُصِر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالريح في أعسر موقف أحاط بالمسلمين، لما حاصرت جموع المشركين المدينة في غزوة الأحزاب، ففرقت الريح جموعهم، وفكت تحالفهم، وصدعت أحزابهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) [الأحزاب:9] قال مجاهد رحمه الله تعالى: "سلط الله تعالى عليهم الريح فكفأت قدورهم، ونزعت خيامهم حتى أظعنتهم"
وهي ريح الصبا، كما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: "قال نُصرت بالصبا، وأُهلكت عاد بالدبور" متفق عليه. والصبا مهبها شرقي، والدبور مهبها غربي.

ورأينا قبل سنوات قلائل ما فعلت الريح بأمر الله تعالى في تسونامي وكاترينا حين حركت البحر فأخرجت أمواجه العاتية أمثال الجبال لتضرب مدنا ساحلية فتغرقها، وتطمر جزرا كاملة، وتهلك بشرا كثيرا، وتتلف مالا كبيرا، وتخلف خرابا عظيما.

بلدان كانت قبل الريح عامرة متحركة، تدب الحياة في أرجائها، ويأتيها البشر من كل مكان؛ لجمال أرضها، وطيب أجوائها، وحسن سواحلها، وفي غمضة وإفاقتها أضحت موحشة يبابا، لا ساكن فيها ولا زائرا، فسبحان من خلق الريح لها، وسبحان من سخرها عليها، وسبحان من أمرها ففعلت فعلها، فأهلكت من أهلكت بأمر ربها، ونجا من نُجِّي منها؛ ليحكي للناس ما رأى، وما نجا منها بقوته وهو الضعيف، ولا هلك القوي فيها لضعفه، ولكنه أمر الله تعالى وقدره، يصيب من يشاء من عباده.

إن الريح أعجوبة من الأعاجيب يحتاج البشر إليها ولكنهم يخافون منها، ولو عملوا ما عملوا من وسائلهم ومخترعاتهم لما حركوها وهي ساكنة. وإذا تحركت فلا طاقة لهم بإيقافها أو تخفيفها، أو تحويل مسارها. وغاية ما يفعلون الهرب منها، والاحتماء بالملاجئ عنها، حتى إنهم يُجْلون أهل المدن والقرى التي في طريقها، ثم يتربصون تربص العاجز البائس، الذي انقطعت حيلته، وغلبه يأسه، ينتظرون قدومها، وينظرون إلى آثارها. ثم إذا سكنت دفنوا موتاهم، وداووا جرحاهم، وآووا مشرديهم، وحسبوا خسائرهم، وأصلحوا ما دُمِّر من عمرانهم، وبكوا على ما أصابهم. ولما ضرب إعصار كاترينا جزء من الدولة الكبرى في الأرض، ظهر عجزها فأعلنت حالة الطوارئ، وقبلت المساعدات من الدول الفقيرة المعدمة، فما أضعف البشر! وما أعجزهم! وما أقل حيلتهم أمام الريح! وهي آية واحدة من آيات الله تعالى، وجندي واحد من جنود لا تحصى (وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [الفتح:7] (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) [المدَّثر:31] بارك الله لي ولكم...

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين؛ دلت مخلوقاته على أنه الرب المعبود، وأن ما سواه عبيد مخلوقون، خلقهم وصرفهم على مقتضى علمه وحكمته (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [يونس:3] نحمده ونشكره ونتوب إليه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله ربكم، وأخلصوا له عملكم، وارجوا رحمته، واحذروا سخطه ، ولا تأمنوا مكره (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلَّا القَوْمُ الخَاسِرُونَ) [الأعراف:99].

أيها المسلمون: الريح خلق من خلق الله تعالى، سخرها لمنافع عباده ومصالحهم، تكون رحمة وتكون عذابا، وما أُنزل بها على البشر من رحمات أرحم الراحمين أكثر مما أخذت من المكذبين، وهذا من إعذار الله تعالى للبشر،وإملائه لهم، ورحمته بهم.

والمشروع للمسلم عند هبوب الريح أن يخاف العذاب ؛ فقد عذب أقوام بها في القديم والحديث، وما الأعاصير التي وقعت في الشرق والغرب فأهلكت بشرا كثيرا إلا من عذاب الله تعالى بها، روت عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر، فإذا مَطَرت سُرَّ به وذهب عنه ذلك، قالت عائشة: فسألته، فقال: إني خشيت أن يكون عذابا سُلِط على أمتي " وفي رواية "فقال: يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا" رواه مسلم.

ولما كانت الريح من أمر الله تعالى، وقد يتضرر بها بعض الناس، بفساد زروعهم وثمارهم، أو نفوق أنعامهم وتلف أموالهم، أو خراب مدنهم وعمرانهم كما في العواصف والأعاصير الشديدة فإنه لا يحل لأحد سبها؛ فمسبتها مسبة لله تعالى؛ لأنه خالقها وآمرها ومدبرها جل في علاه، بل ينبغي للمسلم عند هبوبها أن يلحظ قدرة الله تعالى فيها، ويلتزم بما ورد في السنة. روى أبي بن كعب رضي الله عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الريح فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به" رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أخذت الناسَ ريحٌ بطريق مكة وعمر بن الخطاب حاجٌّ فاشتدت عليهم، فقال عمر لمن حوله: من يحدثنا عن الريح؟ فلم يرجعوا إليه شيئا، فبلغني الذي سأل عنه عمر من ذلك، فاستحثثت راحلتي حتى أدركته فقلت: يا أمير المؤمنين، أُخبرت أنك سألت عن الريح وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الريح من رَوْحِ الله تأتي بالرحمة وتأتى بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها وسلوا الله خيرها واستعيذوا به من شرها" رواه أحمد.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رجلا نازعته الريح رداءه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلعنها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنها فإنها مأمورة، وإنه من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه" رواه أبو داود.

وأما الدعاء بقوله: اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا، فلم يصح في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأولى للمسلم أن يقتصر على ما ورد؛ فإنه أتبع للسنة، وأنفع له.

وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم....