المجيد
كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
وإنَّ مما خصَّ الله عز وجل بوافر الفضل، وجزيل الإكرام، وعظيم البركة، ليلةً واحدة تمر مرة في العام، وهي في شهر رمضانَ المبارك ليلة واحدة عظَّم الله أمرها، وأعلى شأنها، ورفع مكانتها، وخصّها بعظيم فضله، وجزيل بركته، إنها -عباد الله- ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر؟ إنها ليلة عظيمة خُصّت بخصائص عظيمة، وميزات كريمة، لم تكن لغيرها من الليالي.
الحمد لله العزيز الغفَّار، يخلق ما يشاء ويختار، أحمده -سبحانه وتعالى- على نِعَمِهِ الغِزار، وعطاياه الكثار، وفضله المدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي المختار، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الأخيار، وصحابته الأبرار.
أما بعد: معاشر المؤمنين عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، ومراقبته في السر والعلن، والغيب والشهادة، ثم اعلموا -رحمكم الله- أن الله -عز وجل- متفرِّد بالخلق والاصطفاء والاختيار، كما قال الله -عز وجل-: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) [القصص:68]، فهو -جل وعلا- يتصرف في هذا الكون ويدبر شؤونه كما شاء عن حكمة بالغة، ونعمة سابغة، وهو -جل وعلا- يصطفي من خلقه ما شاء من الأمكنة والأشخاص والأزمنة فيختصها بمزيد فضله، وواسع إنعامه، وجزيل مَنِّه، فلله الأمر من قبل ومن بعد.
عباد الله: وإن مما خصَّ الله -عز وجل- بوافر الفضل، وجزيل الإكرام، وعظيم البركة، ليلةً واحدة تمر مرة في العام، وهي في شهر رمضانَ المبارك، ليلة واحدة عظَّم الله أمرها، وأعلى شأنها، ورفع مكانتها، وخصّها بعظيم فضله، وجزيل بركته، إنها -عباد الله- ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر؟ إنها ليلة عظيمة خُصّت بخصائص عظيمة، وميزات كريمة، لم تكن لغيرها من الليالي.
إن -عباد الله- ليلة القدر لها شأن عظيم عند الله، ولها مكانة كبيرة في نفوس المسلمين، ومن فضائل هذه الليلة المباركة أن الله -عز وجل- اختصها بأن جعلها وقت نزول كلامه العظيم، وذكره الحكيم، فأنزل -عز وجل- كتابه العزيز في ليلة القدر، قال الله -عز وجل-: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرَاً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الدخان:3–6].
ويقول الله -تبارك وتعالى-: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [سورة القدر].
ومن عظيم مكانة هذه الليلة -عباد الله- أن الله -عز وجل- جعلها ليلة مباركة، كما قال -سبحانه-: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)، وبركة هذه الليلة بركة في الوقت، وبركة في العمل، وبركة في الثواب والجزاء عند الله -عز وجل-.
ومن بركة هذه الليلة وعظيم مكانتها عند الله أن جعلها خيرا من ألف شهر، أي خيرا من أكثر من ثلاث وثمانين سنة! ليلة واحدة -عباد الله- العمل فيها يفضل العمل على أكثر من ثلاث وثمانين عاما! فما أعظم بركتها! وما أوفر مكانتها! وما أعظم ثواب الله -عز وجل- فيها! ليلة واحدة خير من ألف شهر، أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. فما أعظمَ هذه الليلة -عباد الله-!.
ومن فضائلها أن الملائكة تتنزل فيها، وفيهم جبريل، يتنزلون بالخير والرحمة والبركة، فهم ملائكة رحمة يتنزلون بالخير والبركة: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) [القدر:4].
ومن شأن هذه الليلة وبركتها -عباد الله- أنها سلام حتى مطلع الفجر، فهي ليلة سالمة لا شر فيها؛ بل كلها خير ونعمة وفضل وبركة.
ومن شأن هذه الليلة -عباد الله- أنه يفرق فيها كل أمر حكيم، أي يكتب فيها -عباد الله- ما هو كائن من أعمال العباد إلى ليلة القدر الأخرى، والمراد بالكتابة هنا الكتابة السنوية، أما الكتابة العامة التي كانت في اللوح المحفوظ فهي إنما كانت قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما صحَّ بذلك الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ومن فضائل هذه الليلة -عباد الله- ما ثبت عن نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".
فهي ليلة -عباد الله- عظيم شأنها، رفيعة مكانتها، عال قدرها، كثيرة خيراتها وبركاتها، والواجب علينا معاشر المؤمنين -عباد الله- أن نَقْدُر لهذه الليلة قدرها، وأن نعرف لها مكانتها وفضلها وبركتها، وأن نجتهد في تحري خيرها وبركتها بالجد والاجتهاد في العبادة، والإقبال على العبادة والطاعة.
لقد كان -عليه الصلاة والسلام- يستحثّ أمته، ويستنهض عزائمهم لتحري بركة هذه الليلة وخيراتها الموفورة، وبركاتها العظيمة؛ فالواجب علينا أن نتحرّى هذه الليلة المباركة بالجدّ والاجتهاد في الطاعة، والإقبال على العبادة، والنصح لأنفسنا بالتقرب إلى الله -عز وجل-.
ما أعظمَها خسارة أن تمر هذه الليلة مضيَّعة مهملة مفرَّطا في ما فيها من خير أو بركة! ما أعظمها من خسارة -عباد الله- أن تمر هذه الليلة على المسلم ولا شأنَ لها عنده ولا مكانة لها في قلبه فيُحرم من خيرها وبركتها! ما أعظمها من خسارة -عباد الله- أن تمر هذه الليلة والمرء مستمر في غيِّه، سادر في لهوه، مداوم على تفريطه وإضاعته!.
عباد الله: إذا لم تتحرَّك القلوب إقبالا على الله -عز وجل- في مثل هذا الوقت المبارك، والموسم العظيم، فمتى عساها تتحرك؟ إذا لم تُنب إلى الله وتتب إليه في مثل هذه الأيام فمتى تكون الإنابة ومتى تكون التوبة؟.
إنَّ الواجب علينا -عباد الله- أن نقبل على الله -عز وجل- إقبالا صادقا، تائبين إليه من ذنوبنا، سائليه -سبحانه- العافية، راجين رحمته، طامعين في فضله وعظيم ثوابه.
عباد الله: وإن مما ينبغي أن نهتم به في هذه الليلة ليلة القدر الإكثار من الدعاء، ولا سيما ذلكم الدعاء العظيم الذي علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، ففي الترمذي أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله، أرأيت إنْ علمتُ ليلة القدر أي ليلة هي، فماذا أقول؟ قال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".
ما أعظمها -عباد الله- من دعوة مباركة! وما أجملها في ليلة القدر المباركة! وهذه الدعوة -عباد الله- مناسبة لليلة القدر غاية المناسبة؛ لأن ليلة القدر -كما تقدم معنا-: (فِيهَا يُفرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)، أي: يكتب فيها ما هو كائن إلى ليلة القدر الأخرى، فما أجمل أن يُقبل العبد في ليلة الكتابة على الله -عز وجل- يسألها العافية! ومَن أعطي العافية في هذه الليلة فقد أعطي الخير كلَّه.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، اللهم إنك عفو تحبُّ العفو فاعف عنا، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا.
اللهم يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، يا واسع المنّ، يا عظيم العطاء، نسألك يا حي يا قيوم أن تبلِّغنا ليلة القدر، وأن تعيننا على تحصيل أعظم الثواب، وأجزل الأجر، وأن لا تجعلنا من عبادك المحرومين يا ذا الجلال والإكرام.
ونسألك يا حي يا قيوم أن لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وأن تأخذ بنواصينا إلى الخير، إنك سميع الدعاء، وأنت أهل الرجاء، وأنت حسبنا ونعم الوكيل.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صَلَّى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: معاشر المؤمنينَ عباد الله، اتقوا الله تعالى فإن من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.
ثم اعلموا -رحمكم الله- أننا نعيش هذه الليالي والأيام أزمنة فاضلة، وأوقاتا شريفة مباركة، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في هذه العشر في الطاعة والعبادة والتقرب إلى الله بأنواع القربات ما لا يجتهده في غيرها؛ ففي صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في هذه العشر ما لا يجتهد في غيرها.
وثبت في الصحيحين عنها، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخلت العشر شَدَّ مِئْزَرَهُ، وأحيا ليلَهُ، وأيقظ أهله.
فهي -عباد الله- أوقات جد واجتهاد، وبذل وعطاء، وإقبال على عبادة الله، تلاوة لكتابه، وذكرا له -جل وعلا-، وقياما له بالصلاة، وتقرّبا إليه بأنواع القربات، وصنوف الطّاعات.
إنه -عباد الله- موسم جليل، ووقت فاضل، وسرعان ما يذهب، فينبغي علينا أن نستغلّ أوقاته الشريفة وساعاته المباركة بالجدّ والاجتهاد والإقبال على طاعة الله.
ومما ينبغي أن نتنبه له -عباد الله- في هذه الأوقات الفاضلة أن يحرص أولياء الأمور على العناية بأهلهم وأولادهم، فقد كان -عليه الصلاة والسلام- من شأنه في هذه الليالي إيقاظُ الأهل، فهذا ملحظ مهم، وجانب لا ينبغي التفريط فيه.
بل الواجب على أولياء الأمور العناية بأهاليهم وأولادهم إيقاظا لهم، وحثا لهم، واهتماما بهم؛ لئلا تضيع عليهم هذه الأيام الفاضلة والليالي الشريفة سُدَىً، فيستحثهم ويبين لهم مكانة هذه الليالي وعظيم شأنها عند الله.
ولا ينبغي -عباد الله- للمسلمين نساء ورجالا أن تضيع عليهم هذه الليالي في الأسواق وغيرها مفرطين في خيرها وبركاتها، ليال عظيمة سرعان ما تنقضي وتذهب.
وإنا لنسأل الله -عز وجل- أن يعيننا فيها على طاعته، وذكره، وشكره، وحسن عبادته، وأن يهدينا فيها إليه صراطا مستقيما.
هذا وصلوا وسلموا...