الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الاعتكاف - الصيام |
إن الخلوة بالله -عزَّ وجلَّ- أنيس الصالحين من عباد الله تعالى، وإن الانقطاع للعبادة أيامًا معدوداتٍ سنة أتباع المرسلين -عليهم السلام-، وقد فعله الصالحون في الأمم الخالية: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتكف، واعتكف أصحابه معه، واعتكف أزواجه من بعده ..
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: مع تعدد المشاغل، وكثرة الصوارف؛ تمضي الأيام والليالي ولا يشعر الناس بها، حتى تنقضي الأعمار سريـعًا، ولمَّا تنته الأعمال، ولا قضيت كل الحاجات، وما من مقبور إلا وله أعمالٌ كان سينجزها لكن الموت حال بـينه وبينها! وينـتهي العمرُ ولا تنتهي أشغال الإنسان وحاجاته، والمغبون من ضاع عمره فيما لا ينفع، أو كان نفعه مقصورًا على حظ الدنيا، والرابح من بنى آخرته ولو فاته شيء من الدنيا، على أن ما كتب له منها سيناله؛ إذ لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها.
إن من مساوئ انفتاح الدنيا على الناس اشتغالهم بالفضول، وفضول الفضول من شؤون الدنيا، وغفلتهم عن الآخرة، حتى يتمنى الواحد منهم ساعة في يومه وليلته يقرأ فيها القرآن، ويذكر الله -عزَّ وجلَّ-، فلا يجد تلك الساعة؛ لكثرة مشاغله، وتعدد صوارفه، وضيق وقته، ويعد نفسه بأنه سيفرغها لطاعة الله تعالى في مستقبل عمره، بعد انتهاء ما يشغله؛ فينتهي عمره ولا تنتهي مشاغله.
إنها معاناة يجدها كل واحد من الناس في هذا العصر إلا من هدى الله تعالى قلبه، فأعطى الدنيا بعض وقته، وجعل همه ومهمته للدار الآخرة، فحافظ على الفرائض، وأتبعها بالنوافل، وعمَّر مواسم الخير والبركات بطاعة الله -عزَّ وجلَّ-، وخصَّها بمزيد جد واجتهاد، فكان سعيه للآخرة، ولم تفته الدنيا.
كم يحتاج العباد إلى الخلوة بربهم، والانقطاع عن الدنيا لذكره وشكره وحسن عبادته! وكم في هذا الانقطاع في أيام معدودات من إصلاح للقلوب، وتزكية للنفوس، ورياضة لها على طاعة الله -عزَّ وجلَّ-، والاجتهاد فيما يرضيه، والأُنس به دون خلقه؟!
كم يحتاج رب الأسرة الذي شغلته طوال العام بمطالبها الدنيوية، وحاجاتها المتكررة، إلى انقطاع عن أسرته بعد أن يؤدي إليهم نفقتهم، ويقيم من يصلح شؤونهم، ينقطع عشر ليالٍ لله تعالى وفي مرضاته!
وكم يحتاج التاجر الذي شغله الضرب في الأسواق، وحساب الخسائر والأرباح، إلى أن يختلي بنفسه، ويحاسبها أشدَّ الحساب، ويعكف على طاعة الله تعالى!
وكم يحتاج من أثقلته المسؤوليات، وشغلته المشاغل إلى أن يفرغ قلبه في العشر المباركات؛ ليجدد إيمانه، وليصفو قلبه من كدر الدنيا وعلائقها!
بل ويحتاج إلى ذلك العلماء والدعاة وطلاب العلم؛ فكثير منهم قد يشتغل بتعليم الناس وإفتائهم ووعظهم وتوجيههم لأعمال البر، وينسى هو نفسه في خضم هموم الأمة، وحاجات الناس إليه؛ فيقسو قلبه، وتقل عبادته، فهو أحوج ما يكون إلى الخلوة بربه، والعكوف في مسجده؛ طاعة لله تعالى، وقد روى الطبراني من حديث جندب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مثل العالم الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج؛ يضيء للناس ويحرق نفسه".
إن الخلوة بالله -عزَّ وجلَّ- أنيس الصالحين من عباد الله تعالى، وإن الانقطاع للعبادة أيامًا معدوداتٍ سنة أتباع المرسلين -عليهم السلام-، وقد فعله الصالحون في الأمم الخالية: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة:125].
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتكف، واعتكف أصحابه معه، واعتكف أزواجه من بعده.
وخَيرُ الاعتكاف ما كان في رمضان، وأفضله ما كان في العشر الأواخر منه؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتكف العشر الأوائل، ثم الأواسط، ثم قيل له: إن ليلة القدر في العشر الأواخر، فاعتكف العشر الأواخر. فعلم أن اعتكافه كان لأجل تحري ليلة القدر، فلما علم أنها في العشر الأواخر نقل اعتكافه إليها.
وكان -عليه الصلاة والسلام- إذا اعتكف لا يدخل بيته إلا لحاجة الإنسان.
قال ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-: "وفي ذلك دليل على أن المعتكف لا يشتغل بغير ملازمة المسجد للصلوات، وتلاوة القرآن، وذكر الله، أو السكوت، ففيه سلامة... ومن جهة النظر فإن المعتكف ناذرٌ، جاعلٌ على نفسه المقام في المسجد لطاعة الله، فواجب عليه الوفاء بذلك، وأن لا يشتغل بما يلهيه عن الذكر والصلاة، ولا يخرج إلا لضرورة كالمرض البين".
وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيَّته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبه، والإقبال عليه، في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم كله به، والخطرات كلها بذكره، والتفكير في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق، فيُعدُّه بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يُفرح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم. ولما كان هذا المقصود إنما يتم مع الصوم، شرع في أفضل أيام الصوم، وهو العشر الأخير من رمضان".
إنه اعتكاف يخلو فيه القلب إلا من الله تعالى، ويتفرغ فيه العبد من كل المشاغل إلا ما كان في عبادة الله -عزَّ وجلَّ-، فهي شغله الشاغل.
يقوم فيطيل القنوت، ويكثر الركوع والسجود، ويقرأ القرآن بتدبر وخشوع، ويذكر الله تعالى في كل أحيانه، ولا يضيع دقيقة واحدة من وقت اعتكافه في غير طاعة.
يمسك عن فضول الطعام والشراب؛ لئلا يثقل عن العبادة، ويجتنب فضول الكلام؛ لأنه أوقف لسانه حال اعتكافه لله تعالى، ويبتعد عن الخلطة بالناس ولو في المسجد؛ لأنه اختار الخلوة بالله العظيم، ويخشى أن يفسد أحد عليه خلوته وأنسه بالرب -تبارك وتعالى-.
يتفكر في عظمة الله تعالى وقدرته، ويلحظ آلاءه ونعمته، ويحاسب نفسه على ضياع ما مضى من عمره في لغو الكلام، وما لا ينفع من الأعمال؛ فيقوم في قلبه من خشية الله تعالى وإجلاله وتعظيمه ما يقشعر له بدنه، وتدمع معه عينه، ويلهج لسانه بذكر الله تعالى، وحمده على نعمه، وشكره على إحسانه، ويستغفر الله تعالى من ذنوبه.
فإذا ما ثقلت نفسه عن العبادة، وفتر لسانه عن الذكر، وجاءه الشيطان يذكّره لهو اللاهين، ومجالس البطالين، وأُنْسَ الناس بأهلهم وأولادهم؛ أنهى فكره، وقطع وساوسه، وانتفض يذكر الله تعالى ويستغفره، ويذكِّر نفسه بأن مطلوبها الأُنْسُ بالله تعالى، والتفرغ لعبادته، والانقطاع لذكره، وتحري ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر، ويستحضر ما أعد الله تعالى للمتقين، فيرجو فضله ورضوانه وجنته، ويجعل وسيلة ذلك كثرة الصلاة والذكر والعبادة، ويتذكر ما أعد الله تعالى للمذنبين؛ فيخاف أن يكون منهم، فيتقي عذاب الله تعالى بما يقوم به حال اعتكافه من أعمال صالحة، مع رجاء ثواب الله تعالى، وخوفٍ من عذابه، وإخلاص له، وإلحاح عليه، ويقين بوعده، وحسن ظن به.
فمن فعل ذلك كان حظه من اعتكافه كبيرًا، وكان أجره جزيلاً، وكان رمضانه خير رمضان، وعشره خير عشر إن قبله الله تعالى، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
جعلني الله وإياكم من أهل طاعته، وجنبنا ما يسخطه، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنه، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعمروا عشر رمضان الأخيرة بطاعة الله تعالى؛ اقتداءً بالنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه كان إذا دخلت العشر أحيا ليله، وشد مئزره، وأيقظ أهله، وجدَّ واجتهد في عبادة الله تعالى.
أيها الناس: احذروا الذنوب والمعاصي؛ فإنها رافعة النعم، جالبة النقم، وما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، وقد قال الله تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) [الأعراف:56]، فالإفساد في الأرض وهي فاسدة محرم، فإذا كانت صالحة فالإفساد حينئذ يكون أشدّ تحريمًا، والله تعالى خلق الأرض صالحةً، وما أفسدها إلا بنو آدم بعصيانهم وبغيهم وظلمهم، واعتداء بعضهم على بعض.
وإن من أعظم الظلم، وأكبر الفساد في الأرض: ترويع الآمنين، واستهداف النفوس المعصومة من مسلمين ومعاهدين، وإتلاف الأموال والعمران بالتخريب والتفجير.
ولا يستحل ذلك إلا من حاد عن شريعة الله -عزَّ وجلَّ-، وافتأت على قواعد الإسلام، وخرج عن إجماع الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، والأئمة المهديين، والعلماء المجتهدين المتبوعين؛ كما فعل الخوارج على عهد الصحابة -رضي الله عنهم-؛ فاستحلوا دماء المسلمين، وقتلوا الخليفتين الراشدين عثمان وعليًّا -رضي الله عنهما-، وفعلوا الأفاعيل بالمسلمين.
وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن المؤمن لا يزال في فسحة من دينه ما لم يُصبْ دمًا حرامًا، فكيف بمن يبيِّت إخوانه المسلمين، فيزهق النفوس المعصومة، ويروع الآمنين، لا شك في أن هذا من الجرم العظيم، والإثم الكبير.
والله تعالى قد أمرنا بإيفاء العهد لأهل العهد، وعدم خفر ذمة أهل الذمة؛ فقال سبحانه: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ) [التوبة:4]، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن: "من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة". رواه البخاري.
إن الكفر المجرد لا يبيح الدماء كما هو مذهب جماهير العلماء؛ ولذا جاز إقرار الكافر على كفره، ولا يكره على الإسلام إذا خضع لسلطان المسلمين ولم يحاربهم، أو يظاهر من حاربهم، ولا يجوز مقاتلةُ إلا المقاتلين المحاربين من الكفار، أو المعينين لهم على المسلمين؛ كما هو مبسوط في كتب الفقه وشروح الحديث.
والجهل بأحكام الشريعة سبب للوقوع في المحرمات من الأقوال والأفعال، كما أن الهوى سبب لفساد الدين والعمل، وإذا ما اجتمع الجهل مع الهوى عظمت الفتن، واستحلت الحرمات، ورفع الأمن، وحل محله الخوف، نسأل الله العفو والعافية، ونسأله تبارك وتعالى أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم من أراد البلاد والعباد والإسلام والمسلمين بسوء فاشغله في نفسه، ورد كيده إلى نحره، واكفنا شره.
اللهم من أراد الإفساد في الأرض، وقصد الآمنين المعصومين فأحبط كيده، واهتك ستره، واكشف أمره.
اللهم اهد ضال المسلمين، وأمن خائفهم، وأطعم جائعهم، واكسُ عاريهم، وارزقهم من حيث لا يحتسبون.
اللهم احفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كيد الكائدين، وشر المتربصين، وحسد الحاسدين، من الكفار والمنافقين والظالمين.
اللهم من اعتدى على ديننا بتحريف أو استهزاء، أو قَصَدَ ترويع المسلمين أو إيذاءهم فعامله بما يستحق، واكفنا شره، اللهم اكفنا شر كل ذي شر يا رب العالمين، واجمع قلوبنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ووحد صفوفنا، وأعذنا من الفرقة والاختلاف، ومن مضلات الفتن والأهواء، يا سميع يا قريب يا مجيب، آمين آمين يا رب العالمين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.