الرحمن
هذا تعريف باسم الله (الرحمن)، وفيه معناه في اللغة والاصطلاح،...
العربية
المؤلف | محمد الغزالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية |
إنني أغتاظ أحيانا عندما يجئ السطحيون فيسألونني عن أمور لا قيمة لها، قلت: وددت لو سألتموني كيف نشيع الأمانة بين الناس؟ كيف نجعل كل امرئ يتحمل مسئوليته؟ كيف يتراحم المؤمنون ويسوق بعضهم الخير إلى البعض الآخر؟ كيف ينسلخون عن الأنانية التي تجعل الواحد منا يدور حول نفسه؟!.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فقد استخرت الله تعالى، ورأيت أن أجعل خطب الجمعة في شهر ربيع كله حديثا عن السيرة النبوية، وإبرازا للشمائل المحمدية. قلت: ذلك شيء نراغم به أعداء الله، وخصوم النبوة الخاتمة؛ فإن الاستعمار شرقيه وغربيه، وإن سماسرة الاستعمار عربا أو غير عرب، يظنون الإسلام دينا خارجا على القانون، ويظنون المسلمين أمما متخلفة ينبغي الخلاص منها، ويظنون النبوة الخاتمة نبوة دعية آن الأوان لينساها الناس!.
ما بُدٌّ في وجه هذا الافتراء الغليظ، وهذا الادعاء الكذوب؛ ما بد من أن نجلو الحقائق، وأن نوضح للناس ما هو الجهاد المحمدي؟ وما هي أبعاد الشخصية الكبيرة التي تفردت في تاريخ الإنسانية كله؟ تفردت على أنها قمة شماء توجها الجلال والمجد، وينبغي أن يعرف الناس حقيقة هذه النبوة، وقدرها العالي.
ولنبدأ بتلاوة الآية الكريمة: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]. كلمة الصلاة هنا تعنى مزيجا من الثناء، والمحبة، ورفعة الشأن والدرجة؛ ولذلك قال العلماء: عُدِّيَتْ بـ "على". يصلون عليه: يثنون عليه، ينوهون بعظمته. وهذه الكلمة وردت بالنسبة إلى أعمال صالحة قام بها أصحابها فاستحقوا بها الصلاة، وبالنسبة إلى جمهور المؤمنين عموما، فمثلا الذين يصبرون على مصابهم، ويتحملون بجلَدٍ بلواهم، هؤلاء لا يحرمون من عناية القدر وعطفه: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:156-157].
والذين يخرجون الحق المعلوم، ويكبتون وساوس الشيطان التي تأمر بالبخل والكزازة، ويبسطون أيديهم بالعطاء تفريجا للكرب، ودعما للجهاد، هؤلاء أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يأخذ صدقاتهم، وأن يصلى عليهم: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [التوبة:103]. أي: يُجاب دعاؤك لهم وصلاتك عليهم.
ورب العالمين يحب أهل الإيمان، ويتولاهم بالسداد والتوفيق، تحيط بهم في الدنيا ظلمات شتى، فهو يخرجهم من الظلمة، ويبسط في طريقهم أشعة تهديهم إلى الغاية الصحيحة، وترشدهم إلى الطريق المستقيم؛ هذا المعنى في عمومه ذكرته الآية: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ...) [البقرة:257]. ثم جاءت آية أخرى تقول: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) [الأحزاب:43].
لكن الصلاة التي يستحقها الصابرون على مصابهم، والصلاة التي يستحقها المؤتون لزكواتهم، والصلاة التي يخرج بها أهل الإيمان من الظلمة إلى الضوء، ومن الحيرة إلى الهدى، هذه الصلوات كلها دون الصلاة التي خص الله بها نبينا محمدا -عليه الصلاة والسلام-، لماذا؟ لأن صلاة الله وملائكته على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- تنويه بالجهد الهائل الذي قام به هذا الإنسان الكبير كي يخرج الناس من الظلام الذي أطبق عليهم في القارات كلها، فشرد خطوهم، وأفسد بالهم، وأضاع لبهم، وجعلهم -سواء كانوا أتباعا لأديان أرضية أو سماوية- لا يعرفون قليلا ولا كثيرا من هدايات الله. بل إما ضلوا ضلالا بعيدا، وإما شاب هداهم من السموم والأوبئة ما يجعله شرا لا خير فيه.
إن ظلمات القطبين لا تستطع شبكات الكهرباء بمصابيحها المحدودة أن تزيحها، ولا أن تبدد عماها؛ إن ظلمات القطبين تحتاج إلى كوكب كالشمس تتعرض له فيبدد الغيوم ويذهب الكسف المتراكم، وكذلك العالم ما كان يمكن أن يهتدي أو أن يرعوي أو أن يرشد إلى الحق ويعرف طريقه ولو تحمل ذلك ألف داعية وألف مفكر وألف فيلسوف، كان أولئك جميعا سيبوؤون بالعجز، ويرجعون بالخزيان. إنما الذي يستطع تبديد هذه الجاهليات، وإذهاب تلك المظالم والظلمات، هو الإنسان الفذ الذي اختاره الله، ورباه على عينه وقال له: (...فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا...) [الطور:48].
هذا الإنسان هو وحده الذي كان يستطيع أن ينقل العالم أجمع من الضلال إلى الهدى، أكد هذا المعنى قوله -جل جلاله-: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة:1]، أي: ما كان أهل الكتاب ولا كان المشركون ينفكون عن ضلالهم، يفارقون غوايتهم وحيرتهم، وعوجهم وشردوهم، ما كانوا يستطيعون الانفكاك من مواريث الغفلة وتقاليد العمى؛ إلا بعد أن جاء هذا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وأخذ يحمل حملاته الصادقة على تقاليد الجاهلية، ومواريثها الزائغة، مسترشدا في ذلك كله بالوحي الذي ظل ينزل عليه قرابة ربع قرن.
(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) [البينة:1-3]. فيها مكتوبات ذات قيمة، قيمتها من أنها هي الحق الذي لا ريب فيه، هي الصواب الذي لا خطأ معه، هي الطهر الذي لم يلوث بأهواء الأرض، ولا إفك البشر، ولا شهوات الضائعين المحرومين من معرفة الحق!. كان ذلك النبي -كما قرر ذلك المنصفون الذين لم يتبعوا دينه، ولكنهم درسوا تراثه- كان كما قالوا: "إنه القمة الأولى بين عظماء الناس!".
والمؤلف الأمريكي الذي ذكر مائة من قمم التاريخ ومن عظماء الخلق، والذي جعل القمة الأولى في هؤلاء العظماء محمدا -عليه الصلاة والسلام- كان هذا المؤلف رجلا ملهما صادقا عادلا، المقياس الذي وضعه لهذه العظمات المختلفة وترجيح عظمة على أخرى هو: مدى التغيير الذي أحدثه هذا العظيم في الدنيا. ولقد وازن، ثم بعد موازنات عميقة وذكية، انتهى إلى أن الأثر الروحي والفكري والخلقي والسياسي والحضاري الذي تركه محمد -عليه الصلاة والسلام- في العالم ليس له نظير أبدا!.
ومن هنا اضطر مع مقدمات العقل والمنطق، ومع موازين الإنصاف والعدالة، اضطر أن يقول: إن القمة الأولى في العالم هي محمد -عليه الصلاة والسلام-. تغيير حاسم تركه هذا النبي في العالم، تتبعتُ عناصر هذا التغيير، وأخذت أتأمل فيها، وأتروى في عرضها، فوجدت عدة عناصر لا بأس أن أتحدث عنها بإجمال.
العنصر الأول: رفض النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يتعرف عظمة الخالق بالتأمل في ذاته، فإن معرفة الذات العليا باكتناه هذه الذات مستحيل، بل إن معرفة الروح الإنساني مستحيل.
قد أحفظ القرآن، أين هو من دماغى؟ أين مكان الذاكرة؟ لا أدرى، فإذا كان الإنسان لا يدرى ما حقيقته هو، فكيف يعرف حقيقة من نفخ من روحه في ملايين الخلق؟ الآن خمسة آلاف مليون من الخلق تتحرك على ظهر الكرة الأرضية كل له عقل، كل له فؤاد، فيه اليأس والرجاء، فيه الحزن والفرح، فيه الإقبال والإدبار، دعك من هذا الجسد وما يحتاج إليه هذا الجسد في دورة الدماء، وفى تنفسه بين الحين والحين، وبين حاجته إلى الإمداد المستمر، دعك من هذا كله؛ فإن الأرض وما عليها تكاد تكون صفرا في الكون الكبير!. إذا كان الإنسان أعجز من أن يعرف نفسه فكيف يعرف حقيقة الله؟!.
إنما يستطع أن يلمح شعاعا من عظمة الوجود الأعلى عندما يتدبر في الكون، ويتعرف على عظمة الخالق من عظمة المخلوق، وهذا هو ما انفرد القرآن الكريم به، فليس في الدنيا كتاب كالقرآن تحدث عن الملكوت وآفاقه، وعن المادة وأسرارها، وعن القوانين التي تحكم هذا العالم، ثم من خلال هذا عرف الناس بربهم!!.
هذا شيء لم يعرف في كتاب ديني ولا مدني قبل كتاب محمد -عليه الصلاة والسلام-: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام:1]، (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [الأنعام:95-96]. نظرة في الكون: (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) من نواة ترميها بأصبعك على الأرض فتتدخل القدرة العليا في هذه النواة، فإذا نخلة تتكون يصعد عليها عدة أشخاص فتحملهم!. مَن فلق النواة عن هذه النخلة؟ من فلق الحبة عن هذه السنابل ولوز القطن وغير ذلك؟! وهذا من عجائب الكون في الزراعة وحدها. نظرة أخرى: (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ) الضوء يشق الظلام، وكيف يشق الضوء الظلام؟ أثر أصابع القدرة وهى تدفع بالكواكب شرقا وغربا، وتحرك هذا الكون الذي وصفه فلَكيٌّ كبير بأنه كون راقص! كل شيء فيه يتحرك، ومع الحركة شروق وغروب، ومع هذه الحركة ينفلق الليل عن الصبح وتظهر الضحوة الكبرى! هذا نموذج في كتاب مشحون بالكلام عن الكون.
إن أغرب ما يؤسف الإنسان أن الكتاب المشحون بالكلام عن الكون، وأن الكتاب الذي قال لأتباعه: هذا الكون يدل على الله؛ وهو في الوقت نفسه مسخر لكم، ترتفقونه وتنتفعون بخيرات الله الظاهرة والباطنة فيه: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً...) [لقمان:20].
كان المفروض أن يكون المسلمون أسبق الناس إلى غزو الفضاء بتوجيهات هذا الكتاب! ولكن المسلمين سكروا بخمرة السلطة حينا، وخمرة الترف والدنيا المقبلة حينا، وخمرة الغفلة والغباء في فهم النصوص حينا، وخمرة السطحية التي تمشى وراء اللفظ ولا تعرف أنه وعاء للمعنى! كل هذه الخمور جعلت الأمة الإسلامية في وضعٍ تنظر فيه إلى غزاة الفضاء وكأنهم جن! بل بعضهم يستنكر أو يستغرب؛ لأنه لا يدرى عن الكون شيئا، ولم لا يدري عن الكون شيئا؟!، لأنه لا يعرف عن الكتاب شيئا، إنه لا يدرى عن القرآن شيئا، ذلك الكتاب الذي فجر الطاقة الإنسانية في البشر، هذا الكتاب ذهل عنه أهله.
العنصر الثاني: لنترك هذا العنصر ولننظر إلى عنصر آخر. تحدث هذا الكتاب عن الإنسانية كعنصر متماسك يتوزع عليه اليوم والأمس والغد. نظر القرآن إلى الماضي فأخذ يسوق قصصه، ويزجي عبره، ويسرد أمام أعيننا ما كان من الأجيال الماضية، والقرون الغابرة؛ لنتعلم من تجاربهم، ونستفيد مما وقع لهم، وكان أغرب ما أظهره في هذا: أن الحضارات المترفة تتفسخ، وأن المدنيات العابثة تزول، وأن أنصار الحق وإن بدوا ضعافا، فإنهم ينمون في مغارسهم كما تنمو الشجر في مغارسها، لو دستها بقدمك أول ما تنبت لماتت، ولكنها تظل تنمو وتنمو حتى تتحول أشجارا باسقة، لو ركبها عدد من الناس لحملتهم!.
ثم أهل الباطل الذين يبدؤون طغاة جبابرة، ولا تزال الأيام تلح عليهم، وسنن الله تعمل عملها ضدهم، حتى تجعلهم تحت الرغام! (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود:117]. الصراع بين الهدى والضلال، بين الحق والباطل، اتسعت له قصص الأنبياء، وقصص المصلحين، في كثير من سور القرآن الكريم.
وتوقفت وأنا أعجب أمام بعض الآيات التي لاحظت فيها كلمات صارمة، ما تكون إلا من رب العزة، يقول الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في سورة الأنعام، والنبي -صلى الله عليه وسلم- مشتبك مع بعض أعدائه في صراع حياة أو موت، ورسالة الإسلام ملتحمة في ميادين شتى بين أتباع ضعاف، وضُلال أقوياء يريدون إشاعة الفتنة، وتأجيج الشر والجاهلية، يقول الله له تحمل: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام:34].
كلمات الله هنا قوانينه الكونية التي سطرها في الأزل، فهي كتاب العلم الإلهي، ليست كلمات الله هنا كلمات القرآن الكريم، لا، إنما المقصود كلمات الإيجاد والإعدام، والرفع والخفض، والإعزاز والإذلال، (وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ)، لابد أن تخضع الرسالات لهذه الأطوار التي يتم فيها صهر المؤمنين وإنصاف الكافرين (...لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ...) [الأنفال:42].
لابد من هذا التراخى (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ) ثم يقول له: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [الأنعام:35].
وقفتُ عند الكلمة الأخيرة ويكاد شعر رأسى يقف! ثم وجدت أن رب العالمين خاطب أخا لمحمد -صلى الله عليه وسلم- من قبل بهذه اللغة الصارمة، عندما قال نوح: (...رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [هود:45]. لِرب العزة أن يتناول عباده -من الأنبياء فمن دونهم - بما يريد من أساليب التزكية والتأديب، والتربية والتعليم!.
وهذا مسلك يدل على أن القرآن ليس من عند محمد -صلى الله عليه وسلم- ـأبدا، إنه من عند رب محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي يقول له: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) [يوسف:3]. هذا رب محمد -صلى الله عليه وسلم- يتحدث إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهذا كلام رب العالمين الذي يجب أن نستمع له. وأن ننتفع به.
عنصر ثالث: يتصل بيوم الناس هذا، هذا العنصر هو كيف نعيش يومنا؟ كان اليهود يقولون: الجنة حكر علينا وحدنا! كان النصارى يقولون: الجنة حكر علينا وحدنا! وجاء الإسلام يقول: لماذا يُحرم الجنة من أسلم لله وجهه، وأخلص له قلبه، وأحسن لي عمله؟! ما ينبغي أن يحرم، ولذلك لما قالوا: (..لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:111].
إنني أغتاظ أحيانا عندما يجئ السطحيون فيسألونني عن أمور لا قيمة لها، قلت: وددت لو سألتموني كيف نشيع الأمانة بين الناس؟ كيف نجعل كل امرئ يتحمل مسئوليته؟ كيف يتراحم المؤمنون ويسوق بعضهم الخير إلى البعض الآخر؟ كيف ينسلخون عن الأنانية التي تجعل الواحد منا يدور حول نفسه؟. شيء آخر هو مستقبل الإنسانية.
إن القرآن الكريم تحدث كثيرا عن الغد الذي نزيغ منه، لا نفكر فيه، تحدث القرآن عن الآخرة، وحديث كثير من المتدينين عن الموت والآخرة يحتاج إلى مراجعة. إنهم يفكرون في الجسد وحده، يقولون لك: القبر مكان الظلمة، مكان الدود، هذا مكان الجسد. أعجبني وأنا أحدث أحد الناس عن شهيد للإسلام في هذا العصر، فقال لي في هدوء وثقة: لعله الآن يسبح في أنهار الجنة! لعله الآن يمرح في ظلال النعيم! لعله الآن مستريح في جوار ربه يلقى من الرضا ما تقر به عينه، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر!.
قلت له: أحسنت، هذا هو الجواب. إن الحديث عن الدار الآخرة كما وضحه الإسلام، ما يتناول القبر بهذه الطريقة، وإنما يتناول الروح ومستقبله عند الله، ويعرض حوارا بين مسلم مؤمن بالآخرة وبين شيوعي أو وجودي أو مادي، سواء كان من غرب أوربا أو أمريكا أو أي بلد في العالم. والمادية الآن لها شقان: شق ملحد شيوعي، وشق ملحد آخر يدعي أنه من أتباع النبيين، ولا نبوة له ولا صلة له بالسماء: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ). أين هو؟ (قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ) [الصافات:50-55]. أى في وسط الجحيم، في وسط النار، في قعر جهنم. (قال تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين) [الصافات:56-57].
بهذا القرآن، بحديثه عن الكون، بقصصه التاريخي عن الأوائل، بوصفه للمسلك المستقيم في يوم الناس هذا، بإعداده لليوم المشهود يوم اللقاء، بهذا غيَّر محمد -صلى الله عليه وسلم- وجه الدنيا! وبعد أن كان التوحيد مطاردا، أو مجهولا هنا وهناك، وطَّأ له الأكناف، وفتح له الآفاق، وجعل الناس يدخلون في دين الله أفواجا، بالعلم، بالخلق، بالأسوة الحسنة. وما وضع سيفه إلا يوم وجد ناسا يغلقون الأفواه المؤمنة، يمنعونها الكلام، أو يفتنون الضعاف يمنعونهم الإيمان، عندئذ وضع سيفه؛ ليكسر القوة، ويمنعها من أن تقيد العقول والضمائر، إذا كانت في الأرض فراعنة تقول للمؤمنين مقالة فرعون القديم: (...آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ...) [طه:71، الشعراء:49].
سبحان الله! ولماذا تستأذن حضرتك؟! من الذي سلطك على الضمائر، وملكك مفاتيح القلوب؟! لا، لن تقولها، وسيقطع عنقك فبل أن تقولها!. هذا ما فعله محمد -عليه الصلاة والسلام- لأنه نبي المرحمة، ونبي الملحمة، نبي الدليل يعرضه متألقا يشرح الصدور، ونبي السيف إذا جاء من يعترض الحق ويقول لمن اعتنقه: لا تعتنقه، أو يقول لمن عرف حجته: لا تذكرها لأحد! يقول له: لا؛ سيسير الحق مقتحما العقبات، ومزيحا العوائق، ولو أدى ذلك إلى أن تسفك دماء الفتانين والفاجرين.
قمة تفردت في العالم كله من أزله إلى أبده في التاريخ القديم، في التاريخ الوسيط، في التاريخ الحديث؛ لا توجد قمة بشرية تفردت بأعلى الشمائل، وأحلى الأخلاق، وأتعب الجهاد؛ واستطاعت أن تقيم أعدل الحضارات، وأزكى المدنيات، ليس إلا هذه القمة التي توَّجها الله بالطهر والعفة والجمال، وسميت في التاريخ البشرى بـ: محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.
الخطبة الثانية:
الحمد لله (..الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، واعلموا أيها المؤمنون أن العالم الإسلامي الآن يفتتح القرن الخامس عشر الهجري في ظروف عصيبة، وأزمات رهيبة، وقضايا دقيقة، ولكن مفتاحها -وإن زعم الشرقيون والغربيون أنه لديهم فهؤلاء وأولئك كذَبة- إن مفتاحها بين أيدينا نحن!.
في الوقت الذي تغير فيه روسيا على أفغانستان، والذي يغير فيه أتباعهم على المسلمين في سوريا، والذي يتعرض فيه المسلمون في بقاع شتى للترويع، في هذا الوقت أحب أن أقول: إن المفتاح بين أيدينا نحن، إذا تجمعنا، واستندنا إلى ربنا، واستمددنا منه، واعتمدنا عليه، وواجهنا عدونا بقوة.
إن آلام المسلمين لا تزال تنبع من أرضهم لا من عدوهم، وإن شاء الله في مساء اليوم سينعقد مؤتمر أرجو أن تحضروه لنتحدث فيه عن حقيقة الموقف في أفغانستان، عما يجب لأولئك المجاهدين من نصرة في أعناقنا.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].