البحث

عبارات مقترحة:

الرقيب

كلمة (الرقيب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...

القابض

كلمة (القابض) في اللغة اسم فاعل من القَبْض، وهو أخذ الشيء، وهو ضد...

المجيب

كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...

أول فتاة مؤمنة صرخت في وجه الطغاة

العربية

المؤلف عدنان مصطفى خطاطبة
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - السيرة النبوية
عناصر الخطبة
  1. السيرة هي المرجع الأصيل للدعوة والدعاة .
  2. منهج نبوي في مقارعة الظلم وأهله .
  3. السيدة فاطمة تنتصر لأبيها .
  4. التآمر على إيذاء رسول الله وحملة المنهج .
  5. السخرية من المظلومين من عباد الله .
  6. أول فتاة نصيرة للدين .
  7. الدعاء سلاح المظلومين .
  8. الحكمة من تأخير إجابة الدعاء .
  9. تيقن الكفار بصدق الدعوة الإسلامية .

اقتباس

وهكذا هو شأن كل مواقف دعاة الإسلام، ولكن الطغاة لا يفهمون ذلك، فكل حركة وكل موقف من حملة الدين لا بد وأن يكون عندهم مشبوهًا، لا بد وأن يضيقوا به ذرعًا حتى ولو كان صاحبه خاشعًا بين يدي ربه سبحانه، وهذا ما حصل من صناديد مكة، حينما اختنقوا من نبي الله -صلى الله عليه وسلم- الذي يناجي مولاه سبحانه ..

 

 

 

 

إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله.

وبعد:

ستبقى السيرة النبوية المرجع الأصيل، والركن الرشيد، لهذه الأمة، يجد فيها المسلمون من الوقائع والأحداث ما يسترشدون به في أيام النصر أو الهزيمة، وفي لحظات الضعف أو القوة، وفي أحوال العزة أو الذلّة، يجدون فيها المنهج الذي يقتفونه ويسيرون على دربه، يجدون في أحداث السيرة المواقف المشروعة التي يستدلون بها ويتّبعونها، ويقتدون بها، رجالاً كانوا أو نساءًَ.

نعم، إنّ أحداث السيرة النبوية تشكل المنارات التي لا يخبو ضوؤها لأبناء هذه الأمة ولفتيات هذه الأمة، في مسيرتهم الطويلة في حمل أمانة الدين، وفي مقارعة الباطل وأهله والطغيان وزمرته، بل وفي دفع نفثات المُخذّلين من أبناء جلدتنا وهمزاتهم؛ ذلك لأنها سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام، الذين لا يعرفون إلا التضحية ولا يُقرّون إلا الصدق، ولا ينصرون إلا الحق، ولا يدفعون إلا الباطل، فجعل الله لنا في سيرتهم العبرة التي لا تنقطع مع تقادم الزمان، والمنهج الذي لا يبلى مع دوران الأيام.

ودعونا -أيها الإخوة- في هذه الخطبة نسترد عافيتنا، ونفقه دعوتنا، ونتأمل مواقف حملة الدعوة الأوائل، فننظر إلى نساء هذه الأمة وإلى فتياتها السابقات كيف نصرن الدين، بل وكيف وقفن في وجه صناديد الكفر، وكهنة الشرك، ومعاول الهدم، ورؤوس الشر، وطغمة الفساد، وزمرة الطغيان، نقف مع حدث من السيرة في عهدها المكي، نرى فيه سنن الله في المحن وفي الانتقام وفي نصرة عباده وفي إهلاك أعدائه، نرى فيه مواقف النصرة والتحدي من أتباع مدرسة النبوة ومن خريجيها.

أيها الإخوة المؤمنون: الموقف الدعوي الذي سننثر حباته المتلألئة، والتي نسأل الله -عز وجل- أن تضيء لنا دربنا، رواه البخاري ومسلم والنسائي عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، وهذه رواية مسلم أذكرها كاملة ثم أضيف إليها في ثنايا الخطبة وأثناء التحليل بعض الروايات من البخاري والنسائي:

فقد أخرج الإمام مسلم عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّى عِنْدَ الْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالأَمْسِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى سَلاَ جَزُورِ بَنِي فُلاَنٍ فَيَأْخُذُهُ فَيَضَعُهُ فِي كَتِفَي مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟! فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَأَخَذَهُ، فَلَمَّا سَجَدَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، قَالَ: فَاسْتَضْحَكُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ. لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَالنَّبِي -صلى الله عليه وسلم- سَاجِدٌ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ، فَجَاءَتْ وَهِىَ جُوَيْرِيَةُ فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- صَلاَتَهُ رَفَعَ صَوْتَهُ ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلاَثًا، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلاَثًا، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ". ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُمُ الضِّحْكُ وَخَافُوا دَعْوَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِى مُعَيْطٍ". وَذَكَرَ السَّابِعَ وَلَمْ أَحْفَظْهُ، فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ.

أيها المؤمنون: دعونا نتأمل في هذا الموقف الدعوي الذي يشخّص لنا حال الدعوة في عهدها المكي، ويلخص لنا واقع الدعوة والدعاة في أزمنة الشدة والمحن كما هو الحال في زماننا هذا، سائلين المولى سبحانه النفع والانتفاع.

يقول راوي هذا الموقف -وهو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه-: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي عند البيت"، ماذا كان يعمل -يا أيها الإخوة-؟! كان يتعبد لربه تعالى، كان في حالة طاعة وقربة لله تعالى، فهل هذا أمر مفزع؟! هل هذا إرهاب؟! هل هذا إفساد في الأرض؟! هل هذا يدعو الطغاة لأن يضيقوا ذرعًا به؟! الأصل لا؛ لأن موقفه هذا هو الهدى والرحمة والخير والسلم والأمان، وهكذا هو شأن كل مواقف دعاة الإسلام، ولكن الطغاة لا يفهمون ذلك، فكل حركة وكل موقف من حملة الدين لا بد وأن يكون عندهم مشبوهًا، لا بد وأن يضيقوا به ذرعًا حتى ولو كان صاحبه خاشعًا بين يدي ربه سبحانه، وهذا ما حصل من صناديد مكة، حينما اختنقوا من نبي الله -صلى الله عليه وسلم- الذي يناجي مولاه سبحانه.

أيها الإخوة: يقول ابن مسعود متابعًا: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي عند البيت وملأ من قريش -أبو جهل وأصحاب له- جلوس"، وإذا سمعت كلمة "ملأ" في سياق دعوات الأنبياء وأتباعهم فاعلم أنه مجمع الظلم والتآمر على حملة الدين، يقول ابن مسعود متابعًا: "فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى سَلاَ جَزُورِ بَنِي فُلاَنٍ -أحشاء وفرث ودم إبل مذبوحة- فَيَأْخُذُهُ فَيَضَعُهُ فِي كَتِفَيْ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ".

إنه التآمر والتشاور على كيفية إيذاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وما زال هذا التآمر قائمًا إلى يوم الدين، كما قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [الأنعام: 123]، يقول ابن مسعود: "فانبعث أشقى القوم فجاء به فنظر حتى سجد النبي -صلى الله عليه وسلم- ووضعه على ظهره بين كتفيه".

وتأمّل معي كلمة "فانبعث"، وهو تعبير يشير في اللغة إلى أنه خرجا مسرعًا؛ لأن شيطانه يدفعه دفعًا كما يدفع أمثاله دائمًا من جنود الطغاة والظالمين لإيذاء عباد الله الصالحين، ووصفه بأنه أشقى القوم، أي: أكثرهم خبثًا، وهو وأمثاله كذلك، وكان هذا الذي ذهب وتولّى هذه المهمة هو عقبة بن أبي معيط.

عباد الله: هذا المشهد غاية في الإيذاء والمكر والتعدي على حملة الدين، هذا المشهد يكشف لنا دور وعمل الطغاة في كل زمان ومكان وحال، حيث يحيك المؤامرة ضد المخلصين الصادقين من أبناء هذه الأمة، ثلة قليلة من الطغاة والأعداء ويضعون الخطط، والعجيب أنهم يجدون من يتبارى ومن يسارع، كما فعل ابن معيط هذا، إلى تنفيذ مهماتهم القذرة من شن مختلف أنواع الإيذاء على حملة الحق ودعاته، والوقيعة في أعراضهم وأملاكهم وأجسادهم.

عباد الله: هذا المشهد يشكل حلقة من سلسلة واسعة من ألوان التعدي من قبل الظالمين على حملة الدين الصادقين المخلصين، فلك هنا في هذا المشهد أن تتصور شكل الإيذاء الجديد والتفنن فيه من قبل صناديد قريش، فلم يكتفوا بسب النبي -صلى الله عليه وسلم- وتشويه دعوته واتهامه ومحاولة قتله ومحاصرته، ومطاردة أتباعه والتضييق عليهم، لم يكتفوا بكل ذلك حتى بادروا هنا إلى وضعِ قَذَر وأحشاء إبل مذبوح بالأمس بفرثه ودمه على ظهر النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين كتفيه وهو في أعلى مقامات العبودية لله تعالى، وهو في أشرف الأمكنة المقدسة عند الله تعالى، فأي إيذاء هذا وأي حقد على هذه الدعوة التي ما زال حملتها المخلصون يواجهون من مثل هذه الأشكال المؤذية والمزرية من التعذيب من التبوّل عليهم وعلى قرآنهم، ومن رمي الأوساخ والقاذورات، وفتح المجاري على أجسادهم ومناماتهم، وغير ذلك مما سنّه لهم قدوتهم عقبة ابن أبي معيط!!

أيها الإخوة: قال ابن مسعود متابعًا سرد المشهد: "وأنا أنظر لا أغير -أغني- شيئًا، لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-". وفي هذا إشارة إلى أنّ المظلومين قد تمر بهم أوقات يقفون عاجزين عن فعل شيء، صامتين لا يملكون حيلة من أمرهم، محتملين للأذى، صابرين عليه، ولكن الساعة لا يمكن أن تقف عن المسير، ولا بد أن يمر الليل وتنكشف الظلمة.

ثم يصف لنا ابن مسعود حال صناديد قريش وهم يشاهدون القاذورات على ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ساجد لربه فيقول: "فَاسْتَضْحَكُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ساجد لا يرفع رأسه".

الله أكبر!! أي بشر هؤلاء؟! وأي قلوب وأنفس يملكها أولئك؟! ولكن هذا هو شأن الطغاة في كل زمان، شأنهم دائمًا السّخرية من المظلومين واحتقار المقهورين والتكبر على عباد الله الطائعين المسالمين، بل والتبجح بما يفعلونه وعدم المبالاة بما يقوله الناس عنهم، وتبلد إحساسهم تجاه المحرومين والمعذبين، ولكنه فرح وبطر لن يدوم ولن يطول، ولكنها ساعات ودهر من الزمن، وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون.

أيها الإخوة: وبعد كل هذا ماذا جرى؟! رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ساجد لربه والقاذورات على ظهره، وابن مسعود حزين لا يقدر على فعل شيء، وصناديد قريش يتفكهون للموقف ويتندرون ويتمايلون ويضحكون، فماذا جرى بعد ذلك، يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "حَتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ، فَجَاءَتْ وَهِىَ جُوَيْرِيَةُ فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ".

نعم، هذه أول فتاة نصيرة للدين، هذه أول فتاة تتحدى جموع الطواغيت، هذه أول فتاة تقف في وجه الظالمين، هذه أول فتاة تدفع الأذى عن حملة الدين، وتدرك أن نصرة الحق فرض، وأن ردّ الظلم واجب، هذه أول فتاة مؤمنة تُسمع الصناديد كلامًا لا يرضيهم فتسبّهم وتحتقرهم وتزدريهم على أفعالهم الشنيعة هذه، إنها الفتاة المؤمنة التي تربّت على معاني العقيدة والنصرة والوقوف مع الحق وأهله، تعلمتها من مدرسة النبوة ومن مدرسة خديجة وسمية، وهبها الله هذه الشجاعة والجرأة وثبتها، فردّت الظلم عن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- وأهانت الظالمين وحقرتهم رغم أنهم يرون أنفسهم قادة وسادة وكهنة عظامًا لا يجرؤ أحد على المس بهم، أو مخالفة أمرهم، أو النظر في أعينهم، فكيف بهذه أن تسبهم، ولكن الفتاة المؤمنة لم تبال بكل ذلك؛ لأن الله عندها أكبر من كل هؤلاء الطغاة والصناديد، ولأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودين الله ودعوة الله أحب إليها من كل شيء في حياتها.

أيها الإخوة: وما زالت حفيدات فاطمة وما زالت خريجات مدرسة فاطمة، في كل زمان ومكان، يقفْن في وجه الظالمين والطغاة المعتدين على دعوة هذا الدين وعلى حملة لواء الحق، يقفن منتصرات لدعوتهن ولإسلامهن بكل ما آتاهنَّ الله من وسع وقدرة، قدوتهن في ذلك فاطمة وخديجة وأم عمارة وغيرهن ممن ذدْن عن الإسلام وأهله وأرضه وحقوقه.

وتذكر -يا عبد الله- أن موقفًا تنصر فيه دينك وحملته ودعاته في زمن الضعف واستقواء الأعداء كما فعلت الفتاة المؤمنة فاطمة، لَيَزِنُ ملء الأرض من مواقف قد تنصر فيها الدين يوم يكثر أهله وتقوى شوكته.

عباد الله: يقول ابن مسعود متابعًا وقائع هذا المشهد: "فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- صَلاَتَهُ رَفَعَ صَوْتَهُ، فحمد الله وأثنى عليه وهو مستقبل القبلة، ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلاَثًا. قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ". ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.

نعم، إنه سلاح الدعاء، إنه سلاح المظلومين المقهورين، إنه السلاح الفتاك، إنه السّوط الذي يقمع به المظلومون الظالمين، إنه السّوط الذي يضرب به المستضعفون المجرمين في الأرض، إنه السلاح القوي الذي لا ترده قوى الأرض كلها؛ لأن قوته من قوة الله الذي وعد أن ينتقم لهذه الدعوات من المظلومين التي ترتفع إليه، وهو سبحانه ينتصر لها ولو بعد حين كما هو الحال هنا، ولذلك تُرهب دعوات المظلومين الظالمين، وتخلع قلوبهم من مكانها مهما حاولوا التظاهر بالسلامة وبالكبرياء، يقول ابن مسعود: "فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُمُ الضِّحْكُ وَخَافُوا دَعْوَتَه"، ولم يكتف النبي -صلى الله عليه وسلم- بالدعاء العام عليهم، بل سمّى الظالمين والصناديد، دعا عليهم بأسمائهم وحدًا واحدًا لشدّة ظلمهم ولقسوة جبروتهم ولعلوّ فسادهم في الأرض، فقال: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِى مُعَيْطٍ"؛ ليكون هذا درسًا لأتباعه إلى يوم الدين، أنكم قد تُظلَمون وتُسفَّهون وتُعذَّبون من قِبل الظالمين والمعتدين، ولا تجدون حيلة ولا نصيرًا، فما عليكم إلا أنْ ترسلوا عليهم سيلاً من الدعاء، وأن تشدّوا عليهم بالاستغاثة وباللجوء إلى الواحد الديان إلى العزيز المنتقم.

عباد الله: كما ترون في هذا الموقف، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد دعا على هذه الثلة الظالمة الطاغية، والسؤال الكبير: هل استجاب الله له فورًا وحالاً؟! الإجابة: لا، لماذا؟! ليعلّمنا ربنا سبحانه درس الصبر والتسليم، وترك الأمور للحكيم سبحانه، فرسولك -صلى الله عليه وسلم- هنا دعا ودعا، ثم سلّم الأمر إلى المنتقم سبحانه، الذي لا ينسى المظالم ولا يغفل عن كل طاغية وظالم، وتمضي الأيام والأشهر ولم يحصل شيء لهؤلاء الصناديد الظلمة، وظنوا أنهم قد أفلتوا من العقاب ومن القصاص الإلهي، ولكنّ ربك بالمرصاد، دارت أشهر وسنوات، وجاءت لحظة الانتقام الإلهي، جاءت لحظة العدالة السماوية، جاء الوقت الذي يذلّ الله به الظالمين والطواغيت وأعوانهم، هناك في غزوة بدر، وإذا بربك القدير سبحانه يأتيهم من حيث لم يحتسبوا كما هي سنته في الظالمين الغابرين والمعاصرين فينتقم الله منهم ويذلهم ويبيدهم على أيدي عباده المجاهدين، على أيدي تلك الفئة التي لطالما احتقرها الطغاة وأعوانهم وظلموها وقهروها وعذبوها واستضعفوها، ولكنها اليوم تسترد حقها وعافيتها وعزتها بمدد ونصرة ومنعة وقوة من الله القوي العزيز.

يقول ابن مسعود واصفًا وقْعَ هذه الدعوة وتبدّل حال هذا المشهد بعد سنوات مرّت ودهر انقضى، يقول: "فوالذي نفسي بيده لقد رأيت الذين عدّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صرعى في القليب، قليب بدر، وأتبع أصحاب القليب لعنة".

هذه هي نهاية كل ظالم ومتجبر، هذه نهاية كل معتد أثيم على دعاة الدين وعلى حقوق الأمة وحملة الأمانة، نهاية مخزية في الدنيا، وما ينتظرهم في الآخرة أشد وأبقى، وأخزى وأنكى.

أقول قولي هذا وأستغفر الله...

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

أيها الإخوة المؤمنون: أذكر على مسامعكم الكريمة شيئًا مما قاله الإمام الكبير ابن حجر العسقلاني في شرحه لهذا الحديث، فقد قال -رحمه الله- في فوائده: "وفي الحديث تعظيم الدعاء بمكة، وفيه معرفة الكفار بصدقه -صلى الله عليه وسلم- ولكن حملهم الحسد على ترك الانقياد له، وفيه استحباب الدعاء ثلاثًا، وفيه جواز الدعاء على الظالم، وفيه قوة نفس فاطمة الزهراء من صغرها لشرفها في قومها ونفسها؛ لكونها صرخت بشتمهم وهم رؤوس قريش فلم يردوا عليها، وفيه أن المباشرة آكد من السبب والإعانة؛ لقوله في عقبة: "أشقى القوم"، مع أنه كان فيهم أبو جهل وهو أشد منه كفرًا وأذى للنبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن الشقاء هنا بالنسبة إلى هذه القصة؛ لأنهم اشتركوا في الأمر والرضا، وانفرد عقبة بالمباشرة، فكان أشقاهم، ولهذا قتلوا في الحرب وقتل هو صبرًا".

اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئًا، يا رب العالمين.