الحي
كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...
العربية
المؤلف | محمد الغزالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
سورة القتال نلقى عليها نظرة لِنَرَى بدءاً أن المحور العام الذي تدور عليه السورة هو: وصف أهل الحق وأهل الباطل وما يدور بينهما من نزاع حار أو بارد، وبدأت السورة تذكر الفريقين من أول سطر فيها فتذكر أن الرضا الأعلى، واليمن، والفأل الحسن، من نصيب أهل اليقين والإيمان؛ وأن الغضب الإلهي، وشؤم العاجلة، من نصيب الذين آمنوا بالجبت والطاغوت، وكفروا بالله الواحد الأحد، وتجهموا للرسالة وصاحبها ..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صَلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فنظرتنا في هذه الجمعة إلى سورة القتال، أو إلى سورة محمد -صلى الله عليه وسلم-، كلا العنوانين اسم للسورة، وهذه السورة تميزت في تاريخ الجهاد الإسلامي بأن الجيوش الزاحفة تحت علم التوحيد كانت تعلو أصواتها بتلاوتها، وكما يصرخ الفتية -الآن- بالنشيد الوطني –مثلا- في بعض البلاد، فإنها النشيد الذي كان يعلو فوق هذه الفرق المقاتلة، ويحدد هدفها، وينظم خطوها، بل يكون الموسيقى التي تشد الأعصاب، وتدفع بالمجاهدين إلى موارد الردى وهم مبتسمون .
كان كثير من المقاتلين يقرؤون سورة الأنفال أوسورة القتال، وما نعرف في تاريخ الأولين والآخرين قتالا أشرف ولا أزكى ولا أطهر من القتال الذي حمل عبئه صاحب الرسالة الخاتمة أو أصحابه الذين جعلوا من أجسادهم جسوراً عبر عليها الإسلام إلى القارات كلها؛ ابتغاء ما عند الله، وانتظار مثوبة الآخرة، واحتقاراً لعرَض الدنيا وزينتها.
سورة القتال نلقى عليها نظرة لِنَرَى بدءاً أن المحور العام الذي تدور عليه السورة هو: وصف أهل الحق وأهل الباطل وما يدور بينهما من نزاع حار أو بارد، وبدأت السورة تذكر الفريقين من أول سطر فيها فتذكر أن الرضا الأعلى، واليمن، والفأل الحسن، من نصيب أهل اليقين والإيمان؛ وأن الغضب الإلهي، وشؤم العاجلة، من نصيب الذين آمنوا بالجبت والطاغوت، وكفروا بالله الواحد الأحد، وتجهموا للرسالة وصاحبها. يقول تبارك اسمه: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ) [محمد:1-3].
(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) للكفر صور كثيرة، أولها إنكار الإلوهية أصلا كما يفعل الماديون والشيوعيون وناس كثيرون ممن انتشروا في قارات الأرض الآن، لا يعرفون إلا ما يعرفه سفلة الأعراب قديماً عندما كان أحدهم يقول: إن هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر! تحول هذا إلى فلسفة عامة، ودول مسلحة، ومذاهب تدعى المعرفة، وتنطلق باسمها أبواق ودعايات، وإعلام وصحف، إلى غير ذلك، هذا نوع من الكفر.
هناك كفر آخر يؤمن بالله ولكن يراه جسداً، يمكن في نظره أن الله يجهل فلا يدي ما يقع، أو يندم على شيء صنعه لأنه كان لا يعرف عاقبته، أو يأكل مع الناس، أو يتصارع مع بعض عباده، وهذا الكفر هو دين اليهودية الآن، وما ذكرته عنهم هو تلخيص لما ورد في العهد القديم أو في سفر التكوين بالذات.
ثم هناك كفر آخر، ناس تدعي أن الله ابناً أو بنتاً أو صاحبة، أو أنه ابن لشخص آخر، أو ما إلى ذلك مما لا أصل له، وقد اشترك في هذا وثنيو العرب، ونصارى العالم، والقرآن الكريم حاسم: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [المؤمنون:91-92]. سبحان الله وتعالى: أي تنزه وترفع عن أين يكون له ولد أو أن يكون ولداً لأب أو ما إلى ذلك مما يقول الأفاكون وإن كثرت جيوشهم، وكثرت المخترعات الفتاكة بين أيديهم، فإن شيئاً من هذا لا يحوِّل الضلال إلى حق.
هناك كفر آخر أن يعبد بعض الناس أصناماً أو عناصر من الأرض يظنون أن الله حل فيها، أو جعلها مظهراً له، كما يفعل الهنادك في الهند، أو كما يفعل البوذيون في جنوب آسيا وشرقها؛ وهناك كفر -معروف أيضاً وهو أن يؤمن أحد الناس بالله، كما يزعم- ولكنه يرفض طاعته والانقياد لأمره ونهيه، ويجادل في الأحكام التي جاءت من عنده، ولعله يتهمها بالرجعية أو بالقسوة، أو بأن الفرائض تعطل الإنتاج، أو ما إلى ذلك مما يقوله كفار في البلاد العربية في عصرها الحديث؛ وأعتقد أنه مما يدخل في باب الكفر إنكار السنة جملة وتفصيلاً، وهو ما حمل رايته الآن بعض العسكر الذين يحكمون أجزاء من العالم الإسلامي.
وأنواع الكفر كثيرة، قد يكون الكفر مرضاً فتك بصاحبه فانزوى به، وعاش في سوأته، وانتهى أمره على هذا النحو، هذا كفر ضرره محدود، وإن كان كفراً؛ لكن هناك كفاراً يرون أن ينقلوا الظلمة التي في قلوبهم إلى قلوب الآخرين، والخرافة التي في رؤوسهم إلى رؤوس الآخرين، مهمة هؤلاء أنهم إذا اعوجت الطرق بهم لم يكتفوا بضلالهم؛ بل قرروا أن يعترضوا السائرين على الطريق المستقيم، فهم يضعون الألغام في هذا الطريق، أو يعرقلون مسيرة أصحابه على أي نحو، وهؤلاء هم الذين سماهم القرآن في سورة كلها (الصادين عن سبيل الله)، فمعنى الصد عن سبيل الله: أن تضع يدك في فم يقول الحق حتى لا يقول الحق، أو تعترض بسلطانك سائراً على الطريق المستقيم حتى تلوي عنقه، وتضلل سعيه، وتجعله ينتكس بأي أسلوب، هذا هو الصد عن سبيل الله.
وهذا الكفر المزدوج، أو الضلال المضاعف، أو تحول الكفر من حيوان عات إلى حيوان فاتك، هذا الكفر المزدوج المقرون بالصد عن سبيل الله هو ما شكا المؤمنون منه قديما ً وحديثا، وهو ما أعلن القرآن عليه حرباً شعواء : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا) [النساء:167]، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا) جمعوا بين الكفر والظلم (لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) [النساء:168-169].
قد يستطيع الكفرة الصادون أن يملكوا السلطة، وأن يتولوا الأمور، ولكن إلى حين، إلى أن تتهيأ كتيبة الرحمن، وتستجمع خصائص القيادة، وتملك من الأسباب المادية والأدبية والعقلية والحضارية ما يجعلها قادرة على الوراثة، فإذا هي ترث للفور؛ ولكن -ما بقى هؤلاء الكفرة الصادُّون يحكمون- فالشؤم في أثرهم، والبوار في أعمالهم، وقد رأيت في قُطر من الأقطار قتل حكامه عشرة من أئمة المساجد وأحرقوهم؛ لأنهم رفضوا التسوية بين الرجل والمرأة في الميراث! هذا وقع في الصومال، ويريد الله أن الأنهار التي تجري في الصومال جفَّت! ويريد الله أن الحكام هناك يتسولون الأكل لمن حولهم، وهيهات!.
(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ) [محمد:1-3]. تكرر هذا المعنى في السورة ثلاث مرات أو أكثر، فمثلاً في أواخر السورة نقرأ قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُول مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ) [محمد:32]، نفس المعنى الذي افتتحت السورة به؛ لكن مع الزيادة وهو وصفهم بأنهم (شاقُّوا الرسول)، ومعنى المــُشَاقَّة: أن يكون هذا على شق وذاك على شق، أو بتعبير العصر الحاضر: على طرفي نقيض، ومعنى (يُحادُّون الله ورسوله) معنى المحادَّاة: أن يكون هذا على حد وذلك على حد آخر، أي على طرفي نقيض، وهذا الاختلاف أو الافتراق ليس عن جهل، ولكن (بعد ما تبين لهم الهدى) هذه إضافة في الآية التي جاءت بها السورة، وذاك يعطي: أن على المسلمين ضرورة بيان الحق وإبلاغه لكل أذن، وتوضيح حقائقه لكل لُب.
وهناك تقصير شديد -للأسف- بين المسلمين في هذا المجال، وتكرر المعنى مرة أخرى في السورة، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) [محمد:34]، والآية الثالثة تفيد أنهم طالت أمامهم فرص الحياة، وأتتهم النذر فما ارعووا ولا اهتدوا، ولكن تشبثوا بضلالهم حتى لاقوا حتفهم، فلما ماتوا كانوا حطباً لجهنم، ما يصلحون إلا لهذا. هذا موضع ثالث.
هناك موضع رابع تناول القرآن فيه هؤلاء على أحد معنيين: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا...) [محمد:16]، هذا التساؤل إما أن يكون عن بلادة وجهل، وهو واقع بين الكفار حقيقة، فإن ناساً من الكافرين سيطر عليهم الضلال، فمهم ما يعطون أي فكر لما يقال لهم، بل هم كما قال القرآن في السورة الثانية، سورة البقرة: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) [البقرة:171]، فقطعان الغنم، أو قطعان الكلاب، لا تسمع إلا صوت الراعي، تسمع رُعاء، تسمع شيئاً لا يحرك منها فكراً ولا عقلا، هذا هو شأن الكفار: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) لكن لا يفهم وحيه، ولا يُلقي باله ليفهم، ولا يسأل الفاهمين، (حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا)! وقد يكون التساؤل سخرية، أو لعباً ولهواً، أو استهانة بما قيل: (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) [محمد:16].
هذا فيما يتصل بحزب الباطل، أو بأولئك الذين فقدوا وعيهم، وعاشوا في الدنيا لأنفسهم، ولم يحيوا لربهم، ولم يفكروا في مرضاته، ولم يضبطوا سلوكهم وفق هداياته؛ هذا نوع من الناس هو الجزء الذي تحدثت السورة عنه في نصف آياتها تقريباً، أما أهل الإيمان فإن الحديث عنهم أخذ عدة مواضع في السورة نفسها.
أول هذه المواضع أن الله أمرهم بأن يكونوا أشداء على الكفار، وبأن يعتقدوا أن نصرة الحق لها أعباؤها، وربما اقتضت تكاليف ثقيلة من بذل الدم والمال، وما بد من أن يدفع المؤمنون الصادقون هذه الضرائب التي كتبت عليهم لينصروا الحق، وبدأ التشديد في نصرة الحق وضرب المبطلين حيث كانوا بقوله تعالى: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) [محمد:4-6]، ربما تساءل متسائل: لم هذه الشدة في مؤاخذة الكافرين وملاقاتهم في الميدان بهذا الأسلوب الصارم؟.
السبب واضح ويجب أن يشرح للمسلمين، فإن الأمة الإسلامية أحيانا تشبه إنساناً مخدَّراً لا يعرف ما يقع له، وأرى أن المسلمين في عصرنا كأنما بلعوا بِنْجَاً فهم لا يدرون ما يقع لهم! القبيلة التي منها "عيدي أمين" وفي "أوغندا" ربما تكون أبيدت كلها في صمت ما يتحدث أحد، عشرات الألوف من المسلمين في شرق وغرب أوغندا ماتوا هناك في هدوء، في صمت، ما يتحدث أحد! هذه واحدة؛ عملية إبادة المسلمين في "الفلبين" ما يتحدث عنها أحد، وهي تتم بقتل الألوف المؤلفة في هدوء؛ عملية قتل المسلمين في "روسيا"!.
ولم يعرف العالم قصة نقل السكان، يعني أن يصدر أمر بنقل سكان "القاهرة" مثلا إلى "أسوان" هذا شيء يحدث في روسيا! سكان "القرم" -وهي دولة إسلامية- يؤمر بنقلهم إلى "سيبيريا" ويُجاء بآخرين بدلهم من "الآرون"؟ مسيحيون، مَن الذين ذهبوا؟ مسلمون! حتى لا يبقى المسلم مرتبطاً بمسجد إلى جواره، أو بإنسان بينهما صداقة. تُنقل شعوب حتى تبتر من تاريخها، ومن عقائدها، ومن صلاتها بالزمان والمكان!.
الحقيقة أن الباطل إذا ملك لم يَلْوِ عِنانَه شيء، ولم يُكَفْكِفْ شرَّه أحد، ولكن المسلمين في آذانهم وقر، ما يقرؤون، ما يسمعون، ويؤخذون واحدا بعد الآخر، شعباً بعد شعب؛ حتى تدور الدائرة على قلبهم فيطحن. الواقع أن المسلمين الآن يعانون بلاء جسيماً في أقطار كثيرة، والذي يغيظ في هذه المعارك التي يُباد فيها الموحدون أن أحداً لا يصنع لهم شيئاً؛ لأن الأمة الإسلامية أمام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لا تعتبر أمة لها حقوق إنسان!. إذا قُتل المسيحيون في "لبنان" هاجت الدنيا وماجت، أما إذا قتل المسلمون فلا حرج! ليست لهم حقوق إنسان، حقوق الإنسان لغيرهم وهكذا؛ ولذلك قيل لمن يعلمون مجاهدين في سبيل الله: يوم تصطدمون بقوى الضلال فلا يكن في صدركم مثقال من رحمة بهؤلاء: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا...) [محمد:4].
ثم بيَّن -جل جلاله- أنه ما خلق الدنيا لتكون دار استقرار، أو دار مُتع وملذات لمن أحبوه وآمنوا به، لا؛ هي دار اختبار لآخر رمق، الله قادر على أن يخسف الأرض بمن يشركون به، الله قادر على أن يخسف الأرض أو يسقط كسفاً من السماء على من يعاندونه ويرفضون الخضوع لأمره، ولكنه لا يفعل هذا؛ لأنه يختبر المؤمنين بالكافرين، ويختبر الكافرين بالمؤمنين، وكما قال في سورة أخرى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) [الفرقان:20] إنها فتنة! (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) [محمد:4-6].
سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلا يدعو في المسجد يقول: اللهم إني أسألك أفضل ما تؤتي عبادك الصالحين، فلما قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلاة، قال: "مَن المتكلم آنفاً؟" فقال الرجل : أنا يا رسول الله، قال: "إذاً يعقر جوادك وتستشهد في سبيل الله" يقتل في سبيل الله هذا عطاء، هذا أفضل ما يعطاه الرجل الصالح في هذه الدنيا، (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ).
هذا أول ما كلف به المؤمنون أو الصفة الأولى في أوصافهم؛ الصفة الثانية هي إخلاص النية لله في العمل، بمعنى أن القتال ينبغي أن يتمحض لله، وهذا شيء صعب في الحقيقة، ففي اختباراتي لنفسي، واختباراتي لمن حولي، ونظري لشئون الناس، مؤمنهم وكافرهم، وجدت أن عدداً كبيراً من الناس -وما أبرئ نفسي- تفكيره يدور حول نفسه؛ ولذلك فإن خُلوص النية لله ليس عملا سهلا، إنه عمل كبير؛ ولكي نعرف -مثلاً- نماذج من العمل الذي ليس لله: قرأت في كتب الأدب قصيدة لعمرو بن معديكرب، وهو شاعر في الجاهلية، وشاعر في الإسلام، ولعل القصيدة التي قرأتها له كانت أيام جاهليته أما بعد أن أسلم فقد كان رجلاً من المسلمين الذين شاركوا في جيوش الفتح، وفي غسل الأرض المحررة من ظلمات الجاهلية وأدران الشرك، لكنه في جاهليته بدأ قصيدته كلاماً حسناً:
ليسَ الجمالُ بِمِئْزَرٍ | فاعْلَمْ، وإنْ أوتيتَ بُرْدا |
إنَّ الجَمَالَ مَعادنٌ | ومَناقِبٌ أورَثْنَ مَجْدا |
فعلا، هذا كلام صحيح. ثم قال:
أعْدَدْتُ للحَدَثانِ سَا | بِغَةً وعَدَّاءً عَلَنْدَى |
إلى أن يقول:
كُلُّ امرئٍ يَجْرِي إِلَى | يَوْمِ الِهيَاجِ بِمَا اسْتَعَدَّا |
لَمـَّا رأيْتُ نساءَنا | يفحَصْن بالمعْزاءِ شدَّا |
وبَدَتْ لَميسُ كأنَّها | بَدْرُ السَّماءِ إذا تبَدَّى |
وبدَتْ محاسنُها الَّتي | تخفي وكَانَ الأمرُ جِدَّا |
نازلتُ كبْشَهُمُ ولمْ | أرَ من نزالِ الكَبْشِ بُدَّا |
هل هذا قتال لله؟ لا. هل لله في هذه الكلمات شيء؟ لا. إنه قاتل من أجل امرأة، وكانت عادة العرب قديماً أن النساء يخرجن وراء الجيش المقاتل، حتى في غزوة أحد خرجت نساء قريش وراء جيشها تحرِّض الكفار على القتال وتقول لهم:
إن تُقبِلُوا نُعَانِقْ | وَنَفْرُشُ النَّمَارِقْ |
أو تُدبِرُوا نُفَارِقْ | فِراقَ غَيْرِ وَامِقْ |
والله نساء قريش كن أشرف من نساء كثيرات الآن! المرأة تقول للرجل: إذا لم تكن رجلاً طلقتك، ابتعدت عنك! الآن هناك نساء لا تدري إلا الجنس والملذات والسقوط الخلقي، ليكن. هل هذا القتال لله؟ لا. هذا نوع من غش النية؛ هل لله في هذه الكلمات شيء؟ لا، ليس لله فيها شيء.
موقف آخر لشاعر آخر، عنترة بن شداد العبسي، كان رجلاً غريب الأطوار، فقد وُلد أسود الجلد، ومن سفاهة بعض الناس أنهم يضيقون بالسود، ما دخل الجلد الأسود في عظمة القلوب وقيم النفوس؟ لا دخل بداهة في هذا، لا من ناحية علم تشريح الأعضاء، ولا من ناحية الأفكار الإنسانية بتاتاً؛ لكن أباه كان أحمق، ضاق بابنه، وجعله عبداً ينتشل الماء من الآبار، أو يحلب الشياه، وما إلى ذلك؛ فلما هو جمت القبيلة انهزمت، وكان عنترة رجلا معروفاً، قال له أبوه : قاتل، قال له : لا. أنا عبد، العبد لا يُحسن الكَرَّ، إنما يُحسِن الحِلَابَ والصَّر، قال: كُرْ وأنت حُرْ؛ فكَرَّ وقاتل وهزم الأعداء؛ لكي يثبت مكانته، ولكي يثبت جدارته بالحرية، هذا القتال هل لله فيه نصيب؟ لا. إنما القتال لله: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"، هذا هو القتال لله؛ لتكون كلمة الله هي العليا، على نحو ما قال الشاعر:
وَلَسْتُ أُبَالي حينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً | على أيِّ جنْبٍ كانَ في اللهِ مَصْرَعي |
وذلكَ في ذاتِ الإِلهِ وإنْ يَشَأْ | يُبَارِكْ عَلَى أوصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ |
لكن هذه النية تحتاج إلى تهذيب نفس، ما يحصل الإنسان عليها إلا بعد أن يهذب نفسه كثيراً حتى يكون عمله لله وحده، وهذا هو معنى الآية هنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7].
ثم جاء في أوصاف المؤمنين -ايضاً- أن ولاءهم لله في أثناء المعركة بارز، فهو لا يعمل لخدمة تراب من تراب الأرض، أو لإعلاء جنس من أجناس الناس، إنما هو يقاتل من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، من أجل أن يسود دين الله في الأرض، وتختفي الطواغيت من على صعيدها، هذا هو الولاء الحقيقي لله، وهذا المعنى استثار النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة أحد. ومع أنهم كانوا مهزومين، وآخر المعركة كان مظلم الوجه، سيء الطالع، لكن رفض النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يسكت عندما قال أبو سفيان: اُعْلُ هُبَل، فسكت المسلمون، فغضب النبي صلي الله عليه وسلم وقال: " أجيبوه" فقالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: " قولوا: الله أعلى وأجل". ثم قال أبو سفيان : لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكُم -والعُزى صنم حقير- فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "أجيبوه" قالوا : ما نقول يا رسول الله؟ قال: "قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم". وهو هنا ما قالته الآية : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ) [محمد:11].
صفة أخرى من صفات المؤمنين، وهي تأميلهم في الجنة ونعيمها، وقد يقال : إن نعيم الجنة حسى، والتعلق بالحسيات مهانة! هذا كلام فارغ لا قيمة له، فإن الإنسان إنسان ومعنى أنه إنسان أنه جسد يأكل، والقول بأن جسداً لا يأكل ضلالة أو خرافة، والقول بأنه يكره المتع التي خُص بها وزُينت له كلام غير صحيح، كون الإنسان يترك متعة خبيثة لما عند الله من متع طاهرة فهذا هو السمو، كون واحد يرفض الحرام أو يرفض الشح لأنه ينتظر عند الله نعماً أوفر وأغزر فهذا هو الاكتمال.
ولذلك جاء في الآية هنا ما يجعل المسلم المقاتل لا يأسى إذا فات متاع الدنيا؛ لأنه لن يفقد شيئاً، إن فقد الأكل والشرب، أو النساء، أو الرضا أو المتع المعنوية، فسيجدها أمامه، ولذلك ذُكرت للمؤمنين هنا: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) [محمد:15].
هذا هو الوصف الإسلامي الحقيقي للمتع الحلال التي ينتظرها من يركل بقدمه شهوات الدنيا؛ لأنه يعلم أنها مُمهدة له في الدار الآخرة، فما هي إلا لحظات حتى ينتقل من ظمأ ووحشة هنا، إلى رحيقٍ مختومٍ ونعيمٍ مقيمٍ هناك.
بعد هذه المقارنة بين الفريقين تجد تحديد الهدف الذي من أجله دار القتال: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) [محمد:19]، هذه الكلمة يكابر فيها أربعة أخماس سكان الأرض، ولكننا نتشبث بها، ثم نعلم أن الذي أمر أن يقول هذه الكلمة وأن يعلمها الناس عبد الله يطلب مغفرته، ويرجو رضاه، ويرسم من سنته نماذج لأهل الأرض الذين يوحدون ربهم، ويثنون أصلابهم رُكَّعَاً وسجوداً عندما يُصَلُّون له، ويقفون مخبتين قانتين يقرؤون كتابه، وهم ليسو معصومين فهم يتبعون نبيهم -صلى الله عليه وسلم- في طلب الاستغفار من رب العالمين، (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) [محمد:19].
هذا الجهاد حبله يطول، وهذا الامتحان يتكرر كل يوم، كل شهر، كل عام؛ إنه امتحان متكرر، وما بُدٌّ من أن يثبت أهل الحق فيه؛ لأن السورة هنا تقول: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد:31]. الاختبار لا بد منه.
ويقول الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في هذه السورة: ممكن أن أعرفك المنافقين، ولكن دع التكاليف تكشف عنهم؛ فإن المنافق يتكاسل عن الصلوات، يضيق بإعطاء المال في الجهاد والزكوات، ومع ذلك ممكن أن نعرفك إياهم، ووقع فعلاً أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يوما خطب ثم قال: "إن فيكم منافقين، فمن سميتُ فليقم. ثم قال : قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان حتى سمى ستة وثلاثين رجلاً، ثم قال: إن فيكم أو منكم منافقين، فاتقوا الله"، ودائما في كل جبهة تعمل للحق، وفي كل ميدان يكون لله فيد جُند، فإن هناك عيوناً تعمل ضدهم، أو نقلة كذبة أو صادقين يغشونهم، والمقصود أن المنافقين موجودون في كل زمان ومكان، (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) [محمد:30]، ومعنى لحن القول: إعطاء الكلمة رنيناً خاصاً، يقال: الأغنية تلحين فلان، الكلمات كلمات عادية، لكن إخراج الكلمة بطريقة معينة، برنة معينة، هذا شُغل الملحنين (ولنعرفنهم في لحن القول) فإن الذي يتربص بك السوء يقول كلاماً له رنين خاص يُعرف منه أنه غشاش.
وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرئٍ مِن خَليقَةٍ | وإنْ خَالها تَخْفَى على النَّاسِ تُعلَمِ |
على كل حال فهذه السورة -بما استمعتم من آياتها- كانت هي النشيد الذي يقرؤه ويردده ويصرخ به المؤمنون وهم سائرون إما ليجْهزوا على أنقاض الإمبراطورية الرومانية، وإما ليجهزوا على أنقاض الإمبراطورية الفارسية، وكلتا الإمبراطوريتين كانت تجمع بين الخصلتين: الكفر بالله، والصد عن سبيله.
أما مجوس فارس فما كادت تبلغهم الرسالة التي بعث بها إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليؤمنوا حتى مزقوها، وأصدر "كسرى" خطاباً لرجال الشرطة بأن يجيئوا له بكاتب الرسالة ومن بعث بها ليُقتَل في "المدائن"! طبعاً مُزق مُلك الرجل، قتله ابنه، وضاعت الإمبراطورية الفارسية، وذهبت في خبر كان. مَن الذي أضاعها وهدمها وأقام العدل الإسلامي مكانها؟ العرب الذين أدبهم الإسلام! وجَدُّنا "ربعي بن عامر" هو بدوي من البدو، لما تثقف بالقرآن الكريم وقف يقول لحاشية كسرى: " إن الله ابتعثنا لنُخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام". هذا رجل تخرج من مدرسة القرآن.
ثم وجدنا الإمبراطورية الرومانية لما شعرت بأن الإسلام يزحف في الشمال ويريد أن يصل بطريق الدعوة إلى كل مكان في الشمال، وفي الشمال مَن؟ الرومان! كانوا محتلِّين لمصر، محتلين للشام، محتلين لأماكن كثيرة، فلما بدأ زحف الدعوة شمالاً بدأ الرومان يقتلون الدعاة، بل قتلوا رجلاً يحمل رسالة من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أحد أولئك الولاة، والرسل لا تُقتَل، ولكنها استهانة بالإسلام، فكانت معركة "مؤتة"، ثم معركة ذات السلاسل، ثم معركة تبوك، والملفت أن هذه المعارك مع الدولة الرومانية التي تعتنق النصرانية تُدرس للمسلمين بغباوة، فما يُقال إن المسلمين قاتلوا الرومان ولا قاتلوا النصارى المعتدين المعوِّقين لسير الدعوة، كل ما يُقال: والتقى المسلمون بأعدائهم في "مؤتة" وقتل فلان وفلان. وانتهى الأمر! أي تدليس هذا؟ أي تعليم هذا؟.
بعد غزوة تبوك عاد النصارى والرومان مرة أخرى لمحاولة ضرب الإسلام وتهديد الدعوة في الشمال، فاضطر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يُعد جيشاً بقيادة أسامة بن زيد -رضي الله عنهما-، الذي قُتل أبوه "زيد" في مؤتة، الابن حل محل الأب: اُخرُجْ فقاتِلْ مَن قتلوا أباك. اخرج فقاتل من عوَّقوا الدعوة. أخرج فقاتل الذين صدوا عن سبيل الله.
ومات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يخرج جيش أسامة، فأنفذه أبو بكر -رضي الله عنه-، فنحن قاتلنا وما نقول إلا أننا قاتلنا، ولكن مَن الذين قاتلناهم؟ من الذين كانوا يقرؤون سورة القتال، سورة محمد -عليه الصلاة والسلام-؟ لقد كانت السورة، سورة القتال، تضم هذه المعاني، وأحسب -فيما أظن- أن تسميتها بمحمد -صلى الله عليه وسلم- كأنها لغرض أن النبي الذي يمثل غضب الأحرار إذا حاول عبيد الأرض استغلالهم، غضب المؤمنين أصحاب الحق إذا حاول المخرفون من عَبَدة الأوهام أن يشردوا خطوهم؛ كان محمد -صلى الله عليه وسلم- تجسيداً لمقاومة الحق في هذه الدنيا أمام باطل استأسد وظن أن أحداً لن يقاومه، حتى جاء النبي العربي الخاتم -صلى الله عليه وسلم- فقلَّم أظافره، وكسر أنيابه، وعرف العالم أن للحق رجالاً يحيون من أجله، ويموتون في سبيله. هذه سورة محمد -صلى الله عليه وسلم-.
الخطبة الثانية:
الحمد لله (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].
وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين؛ وأشهد أن محمداً رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: وأنا أقرأ تفسير سورة القتال وأقارن بين تاريخ الأسلاف العسكري والثقافي وبين عصرنا الحاضر وجدت أموراً هي: شر البلية ما يضحك! كما قيل. الإسلام الآن مظلوم بين نوعين من الناس: محترفين من أهل الدين لا علم لهم، وكذا بين ممن اشتغلوا بالكتابة والكلام عن الإسلام ولا علم لهم!.
قرأت في كتاب عليه أسماء بعض الدكاترة لا أدري دكتور أطفال، دكتور بنج، دكتور دم، دكتور"بلاء أزرق" كلام فارغ مكتوب في هذا الكتاب ماذا قيل في هذا الكتاب؟ حتمية تأويل آيات القتال في الإسلام؟ قبح الله وجهك! آيات القتال في الإسلام تؤول كلها؟ لماذا؟ في أي ظرف؟ في مقتلة المسلمين بأوغندا؟ في مقتلة المسلمين بسوريا؟ في مقتلة المسلمين بالفلبين؟.
" فطاني" فيها خمسة ملايين -في تايلاند- يُدَوَّخون الآن، والعالم الإسلامي مبنج لا يدري! ويأتي واحد يكتب كتابا عليه أسماء ثلاثة دكاترة يقول فيه: تؤول آيات القتال! كيف هذا (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) [محمد:4]؟ يعني قتلوا الشهوات! الله الله! الكلام قبلها: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ) [محمد:4]، رقاب مَن؟ رقاب الشهوات؟ (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي قاتِل الهوى!.
يقول الله تعالى: (فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة:12-15]، هل هذا قتل شهوات وأهواء؟ هذا كلام قاله رجل ملحوس اسمه ميرزا غلام أحمد، في الهند في بلد قاديان تكلم هذا الرجل عن الإسلام ليبطل الجهاد لحساب انجلترا، يُنقل هذا الكلام الآن في بعض الكتب، ويمضي عليه بعض الدكاترة؟ ما هذا الهوان الفكري؟ هذا كلام حشاشين! هذا الهوان الفكري يُنْشَرُ ثم نجد ناساً ممن ينتسبون إلى الإسلام يقفون ببرود أو بجهالة لا يدرون كيف يردُّون على هؤلاء.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].