البارئ
(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...
العربية
المؤلف | محمد الغزالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد |
لكن الذي نرفضه وندفع عن ديننا فيه ولا نسلمه لغيرنا أن يجئ بعض الناس فيقول: إن المسيحية في الإسلام! نقول له: إذا كنت تقصد بهذا أن عيسى نبي، وأنه عبد لله، وأن الإنجيل الذي نزل عليه وحي من الله لخلقه يقرر عقيدة التوحيد والجزاء، ويوجب على عيسى وغيره من الناس إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فهذا كلام صحيح ما ننكره، فإن الله جل شأنه نبأ أن عيسى أجاب عن نفسه وعن رسالته ..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فإن التوحيد حقيقة الإسلام الأولى، وخاصته التي تفرد بها، وعقيدة التوحيد هي الشارة التي تميز المسلمون باعتناقها، والراية التي عُرفوا بالجهاد دفاعا عنها، وتمكينا لها، قال تعالى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) [البقرة:163] وقال: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة:255] وقال: (إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ) [الصافات:4-5].
والاتصال بالإله الواحد معروف في أعصار كثيرة، وفي أقطار كثيرة، إلا أنه اتصال مضطرب جدا في بعض الأديان، ومضطرب اضطرابا خفيفا في بعض آخر، فإن عبدة الأصنام ما يزعمون أنهم منكرون للإله الواحد، وهم الذين عبدوا اللات والعزى ومناة...! إن أبا سفيان عندما قال في غزوة أحد: اعل هبل.
إن الوثنيين الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى كانوا إذا سئلوا: (مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [الزخرف:9]، كانوا مشركين ولكنهم يؤمنون بالله الواحد، فإذا سألتهم: ما هذه الإلهة التي اختلقتموها مع الله؟ قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) [الزمر:3]، ويجادلهم القرآن جدالا حسنا: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) [يونس:31]، مشركون، ولكنهم يقولون في الإجابة على هذه الأسئلة كلها: "الله"! (فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ)؟ ألا تدعون الشرك بعد هذه الإجابة: (فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ * كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) [يونس:32-33].
وفي الدنيا الآن نحل وملل ومذاهب كثيرة، منها مذاهب تنكر الألوهية بتة، ويعيش أصحابها في الدنيا هملا، ليس لهم معتقد يربطهم بالله جل جلاله.
ومنهم من يؤمن بالله الواحد ولكنه ينسب إلى الله أنه يجهل ويندم، ويلاكم ويُغلب ويهزم، إلى آخر ما وصفت إصحاحات العهد القديم، أو ما يسمى عند اليهود بالتوراة.
ومنهم من زعم أن الله الواحد هو مثلث، وللمثلث زوايا: أ، ب، ج.. أب وأم وروح قدس! ومنهم من زعم أشياء أخرى كثيرة.
ونقول -نحن المسلمين- لكل امرئ دينه، نحن الذين شرفنا الله بالحق، وهدانا سواء السبيل، ما نكلف أحدا رغما عنه أن يعتقد ما نعتقد، نحن مكلفون أن نشرح للناس إيماننا الصحيح، فمن اقتنع به ودخل فيه فهو منا، ومن لم يقتنع به ورفض الدخول فيه فله وجهته ومالنا عليه من سبيل، يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [الشورى:15].
نحن المسلمين نشعر بأن الله أكرمنا بنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، ونشعر بأن هذا الإنسان الجليل المهيب الكبير قد هدانا إلى الحق يوم عرفنا الوحدانية الصحيحة، ويوم أنزل الله على قلبه هذا الكتاب الكريم يبين لنا معالم التوحيد، ويشرح حقائق الإيمان، ويقف بنا على الصراط المستقيم، ويحشرنا تحت راية الحمد في الدنيا والآخرة.
لكن الذي نرفضه وندفع عن ديننا فيه ولا نسلمه لغيرنا أن يجئ بعض الناس فيقول: إن المسيحية في الإسلام! نقول له: إذا كنت تقصد بهذا أن عيسى نبي، وأنه عبد لله، وأن الإنجيل الذي نزل عليه وحي من الله لخلقه يقرر عقيدة التوحيد والجزاء، ويوجب على عيسى وغيره من الناس إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فهذا كلام صحيح ما ننكره، فإن الله جل شأنه نبأ أن عيسى أجاب عن نفسه وعن رسالته فقال: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [مريم:30-33].
وكلمة السلام هنا على عيسى تشبه كلمة السلام على يحيى في أول السورة: (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) [مريم:15] فإذا كان المقصود بأن المسيحية في الإسلام هذا المعنى فهذا كلام صحيح، فإن توراة موسى وإنجيل عيسى كتُب ممهِّدة للقرآن والقرآن مصدق لها يقينا، ونحن مكلفون أن نؤمن بهذه الكتب التي مضت، وباحترام الرجال الكبار الذين جاءوا بها.
لكن بعض الرسائل انتشرت الآن تقول: إن المسيحية التي تعنى التثليث وتعدد الآلهة في إله واحد في الإسلام نفسه! ولما كنت رجلا من خدم القرآن الكريم، وأعرف ديني، فقد تناولت هذه الرسائل وأنا مطمئن، لماذا؟ قلت لكم: أن المحامى عن قضية صحيحة لا يقلق، خصوصا إذا كانت القضية عامرة بالأدلة التي تدفع عنها، مليئة بالبراهين التي تدمغ الباطل وتتركه زاهقا.
تناولت هذه الرسائل وأنا أعرف مصدرها، وأعرف الأقلام التي سطرتها، تناولت هذه الرسائل وقرأتها ولم أجد بدا من أن أضحك! لماذا؟ سأعرض على إخواني المسلمين -هنا- كيف أن هؤلاء الناس يتصيدون في القرآن الكريم كلاما لا يشهد لهم أبدا، بل يشهد عليهم، وبلغ الأمر في ذلك حدا يثير الضحك!.
يقول الله جل شأنه: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) [النساء:171] لكن الرسالة التي تنشر الآن، والتي ألفها أحد كهنة الكنائس بيننا، واقتدى فيها برئيس المسيحية في بلدنا، يقول -وأرجو ألا يضيق أحد، أو يغضب، فإن الضيق أو الغضب لا يجيئان بطائل- يقول تحت عنوان بالثلث: شهادة الإسلام لثالوث المسيحية!.
ربما تتعجب يا عزيزي القارئ إذ أقول: إن القرآن يذكر ثالوث الله الواحد تماما كما تؤمن به المسيحية، فقد مر بنا أن ثالوث المسيحية هو ذات الله وكلمته وروحه، وهذا هو عين ما ذكره القرآن في آية واحدة: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ)! في هذه الآية يتضح أن الله له ذات، في قوله: (رَسُولُ اللَّهِ) فكلمة رسول الله، معناها ذات الله، وقوله: " وَكَلِمَتُهُ " معناها أن عيسى الأقنوم الثاني أو الشريك في الثالوث، وقوله: "وَرُوحٌ مِنْهُ" تأكيد لعقيدة التثليث!.
أنا قرأت هذا الكلام واستغربت له، أدرته في رأسي مرارا، كيف يُفهم من قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) كيف أن "رسولَ الله" ذات الله؟ كيف أن "كلمته" العنصر الثاني في الثالوث؟ كيف أن "وروح منه" تكون تأكيدا للعنصر الثالث؟.
هذه الجملة التي تحدث عنها الكاهن جملة من آية طويلة تقول: (لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ). هل هذا الكلام معناه أن الله ثلاثة؟! هذا شيء عجب! هذا شئ مدهش! ولكن:
وليسَ يَصِحُّ فِي الأفْهَامِ شَيءٌ | إِذَا احتاجَ النَّهَارُ إِلى دَليلِ |
ماذا تقول لرجل يقول لك: (قل هو الله أحد) [الإخلاص:1] معناها أن الله ثلاثة! هذا دماغ مخرب، وكاهن -مسكين- يؤلف ورقا لا أشك أن المال الأمريكي من وراء هذه الطاعة، ولكن أنا لا أهتم بهذا، إنما الذي يهمني أن أرى كيف شهد الإسلام للتثليث؟ القرآن شهد للتثليث! أين هذه الشهادة؟ هذه واحدة.
الشيء الثاني: بدأت أبحث كطبيب نفساني، كعالم مسلم يعالج الضلالات بين الخلق، وسر عوج بعض الناس، فوجدت أن الرجل يخطئ، وأن غيره يقع في نفس الخطأ بسبب أنه ينظر إلى الصفات ويجسمها فيجعلها ذواتا! كيف؟ يقول: إن الله موجود بذاته، ويطلق عليه الأب، وناطق بكلمته ويطلق على ذلك الابن، وحي بروحه ويطلق على ذلك الروح القدس!.
هذا الكلام أشرحه شرحا عاقلا هادئا لا غضب فيه، الله جل شأنه، الذات الأقدس، له كلام، هل ننكر أن الله متكلم؟ لا ننكر هذا، ما كلامه؟ الوحي الذي نزل به الأمين على المرسلين كلهم، هذا نوع من الكلام، هناك أيضا كلمات لا حصر لها، فإن الكلام ترجمة الإرادة الإلهية، وبيان ما تنتجه القدرة العليا في عالم الإحياء والإماتة، في عالم الإشقاء والإسعاد، في عالم الإيجاد والإعدام؟ وكلمات الله هنا لا تنتهي؛ ويقول الله مبينا أن كلماته الدالة على علمه، وعلى قدرته، وعلى سعة ملكوته، وعلى بسطة نفوذه، يقول: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) [الكهف:109] صفة الكلام صفة أثبتناها لله بيقين، لكن كيف مُسخ فكر إنسان فتصور أن صفة الكلام تجسَّدتْ وأصبحت شخصا اسمه عيسى؟! كيف تتجسد صفة، أو كيف تتحول صفة من صفات الله إلى ذات؟ هذا هو البله!.
الشيء الثالث: أن الله حي، من قالَ إِنَّ حياته هي الروح القدس يعني الإله الثالث؟ هو حي بذاته، ويوم نجعل الحياة صفة وتدل علي إله، والكلام صفة ويدل على إله، فماذا نفعل بالصفات الأخرى؟! لله علم واسع، إذا يتحول الثالوث إلى رابوع؛ لله قدرة، إذا يتحول الرابوع إلى خاموس؛ لله رحمة إذا يتحول الخاموس إلى سادوس! ويمكن أن تتحول الصفات بهذا المنطق الأبله إلى أشياء كثيرة، هذا نوع من العجز العقلي في فهم الأمور، الله الواحد له صفة الكلام ولا صلة لهذا الكلام ببشر، كون عيسى كلمة الله ككون آدم كلمة الله؛ معناه أنه وجد بكلمة "كن"، كن بشرا فكان بشرا، هذا معنى "وكلمته"، (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران:59].
إنسان خُلق مثلي ومثل غيري، كيف يكون إلها؟ وكيف يتحول الواحد إلى ثلاثة أو الثلاثة إلى واحد؟! هذا شيء يضحك الإنسان له! ويستغرب وجوده، القول بأن الثالوث في القرآن شيء مضحك بيقين! ويعجب الإنسان؛ لأن الفصل الثاني في رسالة الكاهن بعنوان: "شهادة الإسلام للتثليث والتوحيد" ثم أربعة أبواب: أولا: شهادته لتوحيد المسيحيين، ثانيا: شهادته لثالوث المسيحيين، ثالثا: شهادته أن المسيح كلمة الله، رابعا: شهادته للروح القدس!.
أتناول الباب الأول في هذا الفصل، يشهد القرآن للمسيحيين بأنهم موحِّدون لله وغير مشركين! نحن يسرنا أن يكون الناس موحدين، ونحن لا نلتمس للأبرياء العيوب، ولكننا نستغرب عندما يحاول بعض الناس أن يرمى التهمة عنه فيثبتها!.
إن الله -عز وجل- يعتبر من يؤمن بثلاثة آلهة كافرا، والقرآن في هذا حاسم: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ) [المائدة:73]، ويقول جل شأنه: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [المائدة:72]، اعتَبَرَ هذا شركا، وفي سورة براءة يقول: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة:31] اعتَبَر هذا شركا، لكن الرجل قال ببساطة: إن الإسلام يقول في المسيحيين إنهم مؤمنون! ما دليلك؟ قال: في سورة العنكبوت يقول القرآن: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت:46]، ثم حذف من الآية: (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [العنكبوت:46]، وذكر الكلام بعدها: (وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ) [العنكبوت:46]، ثم قال: وبهذا يشهد القرآن أننا نحن المسيحيين أهل الكتاب نعبد الله الواحد! هذا كلام عجيب! فكوْني أقول لعبَدة الأصنام: ربى وربكم واحد، فليس معناها أن الذين يعبدون الأصنام موحدون، كونى أقول لأي إنسان: ربي وربك الله، فليس معناها أنه مؤمن بالله.
ومع ذلك فمن هم أهل الكتاب؟ أهل الكتاب هم اليهود والنصارى على سواء، فهذه الآية تشمل اليهود وتشمل النصارى متساويين، فإذا كان النصارى مؤمنين بالله فاليهود مؤمنون بالله أيضا، وإذا كان اليهود يكفرون بعيسى وأمه ويتهمونها بالزنا ويتهمون عيسى بأنه لقيط فكيف تنطبق الآية عليهم؟ وكيف يوصفون بالإيمان؟.
دليل آخر، يقال: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) [المائدة:82] هذا كلام جميل، ونحن نصدق هذا الكلام؛ لكن لماذا يقطع هذا الكلام عما بعده؟ لنقرأ ما بعده لنعرف تتمة القصة: (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) [المائدة:82-86] هذه هي الآيات، فمن أحب أن يفهم منها ما يفهم الذي يقف عند قوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) [الماعون:4] ثم يسكت! فهذا لون آخر من الفهم لا يمكن أن يعترف به عاقل، ولا أن يحترمه منصف.
آية أخرى جاء بها الكاهن: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) [آل عمران:55] هذا صحيح، فمن الذي اتبع عيسى؟ لننظر إلى الآيات، قبل هذه الآية آية تقول على لسان عيسى: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [آل عمران:51-54] فالذين يتبعون عيسى على أنه عبد لله يجرى الله على لسانه: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) هم المسلمون، ونحن الذين سنغلب إلى يوم القيامة مصداق قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة:33، الصف:9].
إن الجدل يسرُّني، ونحن المسلمين أبرع الناس في دعم الحق بأدلته، وأبرع الناس في سحق الشبهات التي تعترض طريقه، وقديما قيل لعالم: ما لذتك؟ قال: في حجة تتبختر اتضاحا، وشبهة تتضاءل افتضاحا.
ونحن المشتغلين بالعلم الديني نعرف أن الإسلام في ميدان إعلاء الحق وإثبات التوحيد تفر أمامه شياطين الأرض، وتنهزم أمامه قوى الباطل، لا لشيء إلا لأنه على الحق قام، وبالحق يبقى: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) [الإسراء:105]، أما التلاعب بالألفاظ، وبلاهة بعض الناس في ذكر الأمور التي لا تفهم، فلا يمكن أن يكون أساسا لقيام دين الحق.
شيء آخر يُضم إلى ما قلنا، يحاول بعض الناس القول بأن قضية التثليث فوق العقل، وينبغي أن يؤمَن بها على هذا النحو! ونجيب بأن هناك أمرين مختلفين تمام الاختلاف، هناك أمور فوق العقل، وهناك أمور يجزم العقل باستحالتها، فإذا قال العقل: الجزء أقل من الكل، أو الواحد نصف الاثنين، فهذه قضية لا يمكن أن تقبل نقيضها أبدا، أما إذا قيل للعقل: إن الروح مبهمة فلا تستطيع أن تفهم سرها؛ فإن العقل يُسلم لأنه لا يستطيع أن يفهم سر الذرة أو سر الكهرباء، هناك أمور يحكم العقل بعجزه عن فهمها، وهناك أمور يحكم باستحالة وقوعها.
مما يحكم العقل باستحالته أن الثلاثة واحد، ومما يحكم العقل بأنه عاجز عن فهمه: ما هي الروح؟ ما هي الذات العليا؟ هذا أمر فوق طاقة العقل البشرى؛ لأن المحدود يعجز عن فهم المطلق، أمور ينبغي أن نعرف حدودها حتى لا نتوه أو نغرق في بحارها، وبعد ذلك لنا تتمة إن شاء الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26]. وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
عباد الله: أريد أن تفتحوا قلوبكم لما أقول: إن أمتنا تمر بفترة عصيبة جدا، وإننا يجب أن تتوحد قوانا وراء جيشنا الذي عُبِّئ لاستقبال اليهود المعتدين والرد عليهم ردا يقنعهم بأن الظلم مرتعه وخيم، وأن عاقبة الظالمين مشؤومة، لا نريد بتاتا أن تنقسم جبهتنا في الداخل، لا نريد بتاتا أن يشتغل المسلمون بأمر قد يسيء إلى وحدتهم أو يوهن قواهم في مواجهة عدوهم، وأنا أدري -أدرى جيدا- أن للاستعمار العالمي عملاء درَّبَهم وأمرهم في هذه الأيام أن يثيروا فتنة، وأمرهم في هذه الأيام أن يشغبوا بما يجعل المسلمين ينفعلون ويفقدون صوابهم، وتكون هناك مآس تحسب علينا لا لنا، ولذلك فأنا أطلب من المسلمين بإلحاح، وأرجوهم من أعماق قلبي، أن يفوِّتوا الفرصة على العملاء، وأن يدركوا أن هناك ناسا مكلفين بإحداث فتنة، فلنطفئ الفتنة نحن، إننا سنرد عن ديننا بهدوء، بعقل، بحكمة، ولن نسمح لأحد أن يجرنا إلى معركة تسئ إلى حكومتنا، أو أمتنا، أو جبهتنا، أو وحدتنا.
إنني ألح من أعماق قلبي: فوِّتُوا الفرصة على الفتَّانين العملاء الذين يشتغلون لحساب دول أخرى تريد لنا البوار، وتتمنى لنا الانقسام، والعار، أريد من المسلمين أن يضبطوا أعصابهم، ستسمعون أذى كثيرا، إننا لن نسكت عن أي مساس بعقيدتنا، لكن في حدود تفهيم المسلمين الحق وحمايته بهدوء، إن خطة عدونا استغفال المسلمين، أن ينطلق هو والمسلمون في غفلة، وخطتنا نحن أننا لن ندع الضلال ينطلق، ولكن طريقنا أن يستيقظ المسلمون من غفلتهم، هذا ما نريده فقط: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشعراء:227].
إن الخونة سيدفعون ثمن خيانتهم من دمائهم، لكننا لا نريد أن نخون بلدنا، هذا بلدنا نحن، لا نريد أن نخونه بالانزلاق إلى فتنة تصيب مستقبل هذا البلد، إنني ألح وألح على المسلمين أن يفوتوا الفرصة.
قرأت هذا الكتاب، وقرأت نشرات بالمئات غيره، ولم تهتز لي شعرة؛ لأني عرفت أن المقصود استثارتنا، تشبث بالإسلام، علِّم ولدك الإسلام، قُد ولدك إلى المسجد، صحِّ المسلمين النائمين، وقُل لهم اثبتوا على دينكم؛ هذا ما يمكن أن يقال الآن، لا نريد أن نعطي عدونا فرصة، فإن القوى العالمية- وهى خصم لدود لنا- ترقب أن نتصرف بحماقة لتنال منا، فضيعوا الفرصة على الخونة وعلى المتربصين.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر"
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].