الأحد
كلمة (الأحد) في اللغة لها معنيانِ؛ أحدهما: أولُ العَدَد،...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - التوحيد |
أيها المؤمنون: تأملوا مليًّا في قول نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ" فإن هذه الكلمة جمعت بين أصلين عظيمين؛ فأولها معرفة، وآخرها سلوك، أولها وهو قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ". هذا أمر يجب علينا أن نعرفه عن ربنا وخالقنا جل وعلا، وأن الله جميل في أسمائه وصفاته وأفعاله وذاته، فله تبارك وتعالى الأسماء الحسنى، والصفات العلا، والأفعال الكاملة، وله...
الخطبة الأولى:
الحمد لله حمد الشاكرين، وأثني عليه ثناء الذاكرين، لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، أحمده جلَّ في علاه بمحامده التي هو لها أهل، وأشكره جلَّ وعلا على نعمه التي لا تعدُّ ولا تُحصى، وآلائه ونعمه التي لا تُستقصى، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد: أيها المؤمنون -عباد الله-: اتقوا الله -تعالى-، وراقبوه سبحانه مراقبة من يعلمُ أن ربَّه يسمعُه ويراه، وكونوا له جلَّ وعلا من الذاكرين، ولنعمه سبحانه من الشاكرين، وعلى طاعته جلَّ في علاه مقبلين.
أيها المؤمنون -عباد الله-: روى الإمام مسلم في كتابه الصحيح عن عبد الله ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ"، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً؟ قَالَ: "إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ؛ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ".
أيها المؤمنون -عباد الله-: تأملوا مليًّا في قول نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ" فإن هذه الكلمة جمعت -يا معاشر المؤمنين- بين أصلين عظيمين؛ فأولها معرفة، وآخرها سلوك، أولها وهو قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ".
هذا أمر يجب علينا أن نعرفه عن ربنا وخالقنا جل وعلا، وأن الله -سبحانه- جميل في أسمائه وصفاته وأفعاله وذاته، فله تبارك وتعالى الأسماء الحسنى، والصفات العلا، والأفعال الكاملة، وله تبارك وتعالى ذاتًا بلغت في الجمال والكمال والعظمة ما لا تدركه عقول الناس: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشورى: 11].
وآخر هذا الحديث سلوكٌ في قوله صلى الله عليه وسلم: "يُحِبُّ الْجَمَالَ" فالله -سبحانه- يحب من عباده الجمال بأن يتقربوا إليه -جلَّ في علاه- بكل جميل حسن؛ ألا وهو شرعه الحكيم، ودينه القويم، وصراطه تبارك وتعالى المستقيم.
أيها المؤمنون -عباد الله-: إن قول نبينا -عليه الصلاة والسلام- عن الله -جل في علاه- إنه "يُحِبُّ الْجَمَالَ" ينتظم شرع الله كله ودينه أجمعه؛ فيتناول قوله عليه الصلاة والسلام "يُحِبُّ الْجَمَالَ" أن يجمِّل المرء قوله وقلبه وجوارحه وأعماله وفعاله، فيجمِّل قلبه بالإيمان وزينته، وصلاح القلب وطمأنينته، وأعظم ما تجمَّل به القلوب وتزين: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله واليوم الآخر، قال الله -تبارك وتعالى-: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ)[الحجرات: 7]، وفي الدعاء المأثور: "اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ".
كما أن القلوب تجمَّل وتزين بالأعمال القلبية الزاكية الطيبة؛ من المحبة والرجاء والخوف والتوكل والاستعانة، وغير ذلك من أعمال القلوب الصالحة الزاكية، كما أن القلوب تزين بإبعادها عن أمراض القلوب وأسقامها؛ من سخيمة وضغينة وحقد وحسد، وغير ذلك، فإن وجود هذه الأعمال والأوصاف في القلوب يتنافى مع ما ينبغي أن تكون عليه القلوب من جمال.
أيها المؤمنون: ومن الجمال الذي يحبه الله: تجميل المنطق وتزيين اللسان بأطايب الكلام، وأحسن الحديث، فذكر الله -عز وجل- تسبيحًا وتحميدًا وتكبيرًا وتهليلا، وتلاوةً لكلامه جلَّ في علا، وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، ودعوةً إلى الله، وتعليمًا للخير كل ذلك من جمال اللسان وزينته.
كما أن الجوارح -عباد الله- تزين وتجمل بما يحبه الله من الأعمال الصالحات، والطاعات الزاكيات، وأعظم ذلك -عباد الله- جمالًا في العبد وحُسنا: المحافظة على مباني الإسلام؛ فالصلاة جمال، والصيام جمال، والحج جمال، وزكاة المال جمال، وكل طاعة تتقرب بها إلى الله -جل في علاه- فهي حسن وجمال يحبه الله -سبحانه وتعالى- من عباده.
عباد الله: كما أن من عظيم الجمال وحَسَنه وطيِّبه: أن يتجمل المرء بالأخلاق الفاضلة، والآداب الكاملة، والمعاملات الطيبة، فإن شريعة الإسلام شريعة الأخلاق والآداب؛ فكلما كان العبد أعظم محافظةً على الأخلاق والآداب التي جاءت بها شريعة الإسلام كان ذلك أبلغ في زينته وجماله.
أيها المؤمنون: وإن من الجمال أن يبتعد المرء عن الحرام والآثام؛ فإن الحرام والآثام والمعاصي والذنوب تُفقِد المرء جماله وزينته وحُسنه، وبحسب وقوع العبد في المعاصي والذنوب يفقد المرء من الزينة والجمال بحسب ما ارتكب من العصيان واقترف من الآثام.
أيها المؤمنون: وإن من الجمال الذي يحبه الله عناية المرء بسنن الفطرة التي بيَّنها الرسول -عليه الصلاة والسلام-؛ فإن إزالة الشعور المكروهة كنتف الإبط وحلق العانة وجز الشارب، وكذلك قلم الأظفار، ونحو ذلك من سنن الفطرة؛ كل ذلكم من جمال المرء وزينته ومما يحبه الله -تبارك وتعالى- من عباده المؤمنين.
عباد الله: وإن من الجمال أن يُرى على العبد أثر نعمة الله عليه كما جاء في الحديث في الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ"، وجاء في الترمذي وغيره عن مالك بن عوف -رضي الله عنه- قال: "رَآنِي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رَثَّ الثِّيَابِ، فَقَالَ: "هَلْ لَكَ مِنْ مَالٍ؟" قُلْتُ: نَعَمْ مِنْ كُلِّ الْمَالِ، قَالَ: "فَإِذَا آتَاكَ اللَّهُ مَالًا فَلْيُرَ أَثَرُهُ عَلَيْكَ".
ولهذا -عباد الله- تزين المرء بجمال اللباس في حدود ما أباحته الشريعة وأحلَّه الإسلام هذا من الزينة التي يحبها الله -سبحانه وتعالى- من عباده، فإن الله -عز وجل- منَّ على عباده بنوعين من الزينة عظيم هداهم إليهماـ، ومنَّ عليهم بهما ألا وهما: زينة المرء في ظاهره بلباسٍ حسن طيب، وزينته في باطنه بتحقيق تقوى الله: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ)[الأعراف: 26]، ومن افتقد -عباد الله- لباس التقوى وجماله وزينته لم تنفعه زينته الظاهرة؛ لأن الزينة الحقيقية والجمال الحقيقي إنما هو في تقوى الله -تبارك وتعالى- وتحقيق رضاه.
جمَّلنا الله أجمعين بالإيمان، وزيَّننا بزينة الإيمان، وأصلح لنا شأننا كله، وهدانا إليه صراطًا مستقيما.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المؤمنون -عباد الله-: اتقوا الله -تعالى- وراقبوه سبحانه مراقبة من يعلم أن ربَّه يسمعُه ويراه.
أيها المؤمنون -عباد الله-: وعندما تختل الفطَر ويُطاع الشيطان وتُتبع النفس الأمارة بالسوء يرى المرءُ حسنًا ما ليس بالحسنِ، قال الله -تعالى-: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا)[فاطر: 8]، وقال الله -تبارك وتعالى- عن الشيطان: (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ)[النساء: 119].
أيها المؤمنون -عباد الله-: عندما تتغير فطرة الإنسان ويطيع الشيطان والنفس الأمارة بالسوء يتعاطى أمورًا يظنها من الجمال والحسن وهي ليست من الجمال والحسن في شيء؛ لأنه لا يمكن أن يكون الجمال والحسن بمفارقة طاعة الله ومباينة الفطرة السليمة التي فطر الله العباد عليها.
ولهذا -عباد الله- ليُعلم أن ما جاءت الشريعة بتحريمه والمنع منه لا يُعدُّ جمالًا ولا حُسنا وإن ظنه بعض الناس من الجمال؛ فالنمص والوشر والوشم وغير ذلكم من الأعمال التي جاءت الشريعة بتحريمها ليست هي من الجمال في شيء، وإنما هي من التغيير لخلق الله، والتبديل للفطرة، والطاعة للشيطان، واتباع النفس الأمارة بالسوء.
أيها المؤمنون: ومن جمال الرجل لحيته بأن يعفيها كما أمره بذلك رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه-، ولذا يروى عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنها كانت تقول في حلفها: "والذي زين الرجال باللحى".
أيها المؤمنون -عباد الله-: وليس من الجمال في شيء، بل هو من تمام القبح وفظاعته أن يكون العبد متكبرًا على الحق، متعاليًا على الخلق، ولهذا قال النبي -عليه الصلاة والسلام- في حديثنا المتقدم: "الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ" أما بطر الحق فهو رده، وأما غمط الناس فهو ازدراءهم وانتقاصهم واحتقارهم، وهذا كله صنيع يتنافى مع الجمال تمام المنافاة.
ما أعظم الجمال! وما أعظم التقرب إلى الله بالجمال! وإنا لنتوسل إلى الجميل الذي يحب الجمال -سبحانه وتعالى- أن يجمِّلنا أجمعين بما يحبه ويرضاه من سديد الأقوال، وصالح الأعمال، وأن يزيِّن قلوبنا بالإيمان وجوارحنا بطاعة الرحمن، وأن يصلح لنا شأننا كله، وأن يعيذنا من النفس الأمارة بالسوء ومن الشيطان.
عباد الله: اعلموا أنَّ أصدق الحديث كلام الله، وخير الهُدى هُدى محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بالجماعة فإنَّ يد الله على الجماعة.
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: ٥٦]، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد. وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارضَ اللهمَّ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم كُن لهم ناصرًا ومُعِينا وحافظًا ومؤيِّدا، اللهم آمن روعاتهم، واستر عوراتهم، واحقن دماءهم، واحفظهم يا رب العالمين في أموالهم وأعراضهم وأنفسهم يا ذا الجلال والإكرام بما تحفظ به عبادك الصالحين.
اللهم وعليك بأعداء الدِّين فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولوالديهم ولذرياتهم ولجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45].