المقيت
كلمة (المُقيت) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أقاتَ) ومضارعه...
العربية
المؤلف | محمد الغزالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - السيرة النبوية |
إنما أحمل التبعة أمراء المسلمين وعلماءهم؛ لماذا؟ لأن مؤتمراً كمؤتمر "بال" يعقد في نهاية القرن التاسع عشر، ويبدأ عمله فوراً في أوائل القرن العشرين، كأن العرب والمسلمين لا يدرون عنه شيئاً، أو ينظرون إلى مقرراته ببلاهة، أو لعلهم هنا أوزاع ربما عارك أحدهم الآخر على أنه صلَّى ورأسه عار! وتحوَّلت التوافة إلى كبائر، واشتعل المسلمون بهذه الصغائر، واستباحوا فيها الدماء والأعراض! حتى جاء أعداؤهم فوجدوهم مشتغلين على هذا النحو فسحقوهم..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فقد كان اليهود في الجاهلية التي سبقت الإسلام في جزيرة العرب، كانوا يكوِّنون لأنفسهم مستعمراتٍ قويةً حصينةً في المدينة المنورة، وشمال المدينة إلى خيبر؛ وأكثر المؤرخين يرى أن اليهود قدموا إلى هذه البقاع فراراً من الاضطهاد الذي كان المسيحيون يوقعونه بهم، وأنهم في جوف الصحراء، وبعيداً عن بطش الدولة الرومانية، استطاعوا أن يحيوا في هذه البقاع على ما يشتهون، كانوا فلاحين مهَرة، وكانوا كذلك تجاراً مهرة، وعاشوا يتاجرون ويزرعون ويستغلون القبائل العربية استغلالا للمصلحة اليهودية وحدها، فهم يبيعونهم السلاح، وهم يعاملونهم بالربا، وهم حريصون على إشعال نار الفرقة بين العرب، فإنهم ما داموا مختلفين يكون استقرار اليهود في المدينة أبقى وأدوم. وهذه طبيعة اليهود!.
هل فكر اليهود أن ينشروا دينهم في الجزيرة العربية؟ لا؛ لأن اليهود ليسو دعاة إلى دين، اليهود يعتقدون أنهم أسرة مفضلة أو شعب مختار، وأن من حقهم أن يسودوا العالم، وأن يستغلوه.
وكما نسوا الدعوة إلى التوحيد فإنهم استباحوا الربا، وكذلك عطلوا حد الزنا، واستهانوا بالجريمة نفسها؛ وخلائق اليهود في الاستهانة بالعقيدة، وما يبنى عليها من فضائل، وما تورثه من ضمير يعاف الرذيلة وينفر منها، هذه الخلائق اليهودية لا تزال مع اليهود إلى الآن.
فلو أن اليهود -فرضاً- سادوا العالم وملكوه، فهل سيقدمون لدين الله خيراً؟ وهل سيرفعون بتعاليم السماء رأساً؟ أو يزكون بها نفساً؟ لا، هذا شيء لا يخطر ببالهم! إن فكرتهم عن الله أنه اختارهم، وعن أنفسهم أنهم ينبغي أن يملكوا الأرض ومَن عليها وما عليها. هكذا عاشوا، وهكذا يعيشون.
وعندما ظهر الإسلام، وانتقل تحت الضغط والاضطهاد من مكة إلى المدينة وجد اليهود على النحو الذي وصفناه لكم الآن ناساً يسكنون بقاعاً خصبة، غنية، قوية، محصنة، لهم فيها تاريخهم الجديد، وآمالهم العراض، وهم يعيشون مستغلين فُرقة العرب، ووثنيتهم؛ كي يحيوا هم، ويمتدوا، وتنمو ثروتهم ،وتكثر.
فلما جاء الإسلام -والإسلام دين إنصاف- عرض على اليهود ما لا معدى لهم عن قبوله، قال لهم: نقر حرية التدين، نعترف بحرية العقل والضمير، لكل إنسان أن يعتنق الدين الذي يحب، وأن يبقى عليه ما يشاء، وبيننا وبينكم في المدينة جوار فلنرع حق الجوار، ولنتعاون في دفع أي عدو يفكر في الهجوم على المدينة بوصف أن لنا مصالح مشتركة فيها؛ فهي وطننا الذي يضمنا، والبلد الذي يؤوينا.
ولم يجد اليهود بدأ من أن يقبلوا المعاهدة، لأن فيها الإنصاف والعدالة، ولا معنى لاعتراض هذا الكلام، قبلوا المعاهدة على مضض، أمضوها برضا ظاهر، ولكن ضيقهم النفسي بها بدأ يظهر على مر الأيام. كيف ظهر؟ يتحدث القرآن الكريم عن تاريخ العلاقة بين اليهود والمسلمين على نحو نحب أن نتدبره، فهو أولا يذكر أن اليهود كرهوا الإسلام، وضاقت به صدورهم، وهذا تصرف غريب، فإن الإسلام دين توحيد، والذين يخاصمونه عُباد أصنام، ولو أن اليهود يخلصون لله ولأنفسهم، ولو أن عندهم احتراماً للتعاليم التي ورثوها بينهم، لقالوا إن الإسلام أقرب إلينا من الوثنية، وعبادة الله أقرب إلى ديننا من عبادة الأصنام؛ ولذلك كان ينبغي أن يهشوا للمسلمين، أو على الأقل أن يدَعوا المسلمين وشأنهم لا حبَّ ولا بغضَ، ولكن القرآن يتحدث عن المشاعر النفسية لهم نحو الإسلام ونبيه فيقول: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا) [البقرة:109].
ولماذا يودون ويتمنون أن يرجع الموحدون كفاراً يعبدون الأصنام؟ قال جل شأنه: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة:109]. ووقع شيء آخر حكاه القرآن، فقد ذهب وفد من بني إسرائيل إلى مشركي العرب في مكة يحرضهم على محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن معه! فسألهم زعماء مكة من عبَدة الأصنام وقالوا لهم: حدِّثونا فأنتم أهل كتاب وخبراء، بما نحن عليه وبما يدعو إليه محمد، نحن أفضل منه أم هو أفضل منا؟ فقال زعماء اليهود: بل أنتم خير منه وأفضل!.
وقص القرآن السؤال والإجابة عليه، وهي إجابة فاجرة، حتى إن بعض مؤرخي اليهود حزنوا لهذه الإجابة وقالوا: ما كان ينبغي أن يكون رد اليهود بهذا الأسلوب المزعج؛ لأن تفضيل الوثنية على التوحيد جريمة منكرة! قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) [النساء:51-54].
وامتد شطط اليهود في معاملاتهم وعلاقاتهم بالإسلام، كان ينبغي أن يكونوا محترمين للمعاهدة التي أبرمت بينهم بين المسلمين، ولكن كيدهم للإسلام أخذ يتزايد، ووضعوا خطة فيها شيء من المكر والدهاء، قالوا: لا بأس أن ننفي عن أنفسنا تهمة التعصب، وأن يدخل بعض منا في الإسلام، على أساس أنه يتوسم فيه الخير، ويظن به الحق، ثم بعد قليل يرجع عنه ويرتد ويقول: ظهر لنا أنه دين لا يصلح، لقد كنا غير متعصبين ودخلنا فيه، فلما انكشف لنا أنه باطل وضلال تركناه! هذه هي الخطة التي وضعوها، قال تعالى: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم) [آل عمران:72-74].
وصبر المسلمون على هذا التحدي، وهذا المكر، وتلك المؤامرات، ولكن اليهود مضوا في طريقهم -طريق العداوة- يقولون: ما لهذا الرجل يتبع قبلتنا، ولا يدين بديننا؟ وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة يرى أن الأصنام المحيطة بالكعبة تمنع من اتخاذها قبلة، فكان يتجه إلى بيت المقدس إشعاراً بأنه نبي له كتاب، وأنه موحِّد، وأنه يرفض الوثنية؛ ولما انتقل إلى المدينة المنورة مهاجراً هو وأصحابه بقي الأمر على ذلك، فكان اليهود يضيقون ويقولون مبكتين أو منكتين: ما لهذا الرجل يتبع قبلتنا ولا يدين بديننا؟.
فتمنى الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الله، ودعا دعاءً حاراً أن يصرفه عن هذه القبلة، وأن يعزم له على قبلة أخرى، وكان ينظر إلى الأفق متشوقاً إلى خبر يجيء من السماء يأذن له بالاتجاه إلى القبلة: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) [البقرة:144].
ولما تسافه اليهود، وكثر لغطهم، وتحدثوا عن تغيير القبلة حديثاً فيه شيء من العدوان والتحدي، قال لهم القرآن الكريم: إن التعلق بالشكليات هو عمل التافهين من الناس، وإن الأمر عند الله ليس أمر شرق أو غرب أو شمال أو جنوب، إن الأمر عند الله أكبر من ذلك، إن الله يقرب الإنسان إليه يوم يكون الإنسان صادق اليقين، شريف الأخلاق، حسن التعاون مع الناس، صبوراً على البأساء والضراء، مؤدياً لحقوق ربه، يصلى له، ويصوم، ويزكي من أجله، وينفق؛ يوم يكون الإنسان كذلك يكون عبداً صالحاً، أما الشكليات فلا قيمة لها. ما التعلق بقبلة هنا أو هناك؟ إنها أمور رمزية فقط، قال تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ...) [البقرة:177].
وحكى سبحانه ستة عناصر يتكون البر منها: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة:177].
ومضى اليهود في تحديهم، كان الكلام في تغيير القبلة في شهر شعبان -شهرنا هذا- كان الكلام والجدل الطويل حول بيت المقدس والمسجد الحرام، كان في شهر شعبان هذا، وفي رمضان وقعت معركة "بدر"، وقال اليهود بعد أن رأوا النصر الحاسم الذي أحرزه المسلمون قالوا للمسلمين: لا تغتروا أن وجدتم ناساً لا يحسنون الحرب فهزمتموهم، لئن التقينا بكم لتعلمُنَّ أنَّا نحن الناس! هذا النوع من التحدي غريب، وانضم إليه أن شعراء اليهود أخذوا يرثون قتلى قريش في معركة بدر، وهذا تصرف منكر! فإن المعاهدة المبرمة تحولت بعد ذلك كله إلى حبر على ورق؛ وإذا كان اليهود في المدينة يعاملون المسلمين على هذا الأساس، فإن الوفاء بالمعاهدة من جانب واحد يصبح نوعاً من الضعف.
ومع ذلك فإن النبي الحليم الكريم -صلى الله عليه وسلم- والصحابة -رضي الله عنهم- من حوله كانوا يصابرون الأيام حتى يقع ما لابد من معاقبته، فإن امرأة مسلمة ذهبت إلى سوق "بني قينقاع" تشتري حلية لها، فسخر اليهود بائعو الذهب منها، وعلقوا شوكة بذيلها، فلما قامت تعرت وانكشف جسدها؛ فصرخت، فقام أحد المسلمين ورأي الوضع فقتل اليهودي الذي صنع هذا، فتمالأ اليهود عليه وقتلوه، وبلغ الأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فحشد جنده وهجم بهم على سوق بني قينقاع، وعلى القبيلة كلها، وهي قبيلة يهودية ماجنة، وحاصرها حتى أكرهها على ترك المدينة.
هل في تصرف المسلمين بعد هذا كله ما يشتمُّ منه رائحة عدوان؟ لا، لقد صبر المسلمون حتى وقع ما لا يمكن السكوت عليه، فعاقبوا تلك القبيلة اليهودية، وكانت الضربة مفاجئة وسريعة بحيث أسقط في أيدي القبائل اليهودية الأخرى فعجزت أن تصنع شيئاً.
والمعروف في تاريخ البطولات والقيادات أن محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- كان يتمتع -بفضل الله وتوفيقه- بعبقرية عسكرية فريدة لا نظير لها في دنيا الناس، فضرب ضربته وكل الحيثيات معه، ووقف عند هذا الحد، لكن اليهود أبوا أن يتعلموا درسا من هذا الذي حدث، وفكر يهود بني النضير في أن يقتلوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وانتهزوا فرصة ذهابه إليهم ليطالبهم ببعض الالتزامات التي تفرضها المعاهدة المبرمة، وقال بعضهم لبعض: فرصة تاحت ما نرى فرصة مثلها، لقد جاءنا خاليا! وأوعزوا إلى أحدهم أن يصعد إلى سطح بيت كي يلقى منه حجر رحى على رأس النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مسترسل لا يدري ما يُبَيَّت له فينتهوا منه.
لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- استبان من حركات اليهود وتصرفاتهم ما رابه، فانطلق مسرعاً وتوجه إلى المدينة، ولحقه أصحابه فقالوا: نهضت ولم نشعر بك؟ فأخبرهم بما همَّت به يهود، وجرَّد عليهم جيشه، وحاصر بن النضير حتى كسر حصونها، وحرق زروعها، وأنزلها على حكم الله، وتركها تخرج من المدينة لاحقة ببني قينقاع.
كان ينبغي ليهود "بني قريظة" وهم بقية اليهود في المدينة أن يستفيدوا من ذلك، والحقيقة أن رئيسيهم تعلم من الدروس التي مرت كيف يكون وفياً، فلما دخل عليه في حصنه "حُيي بن أخطب" سيد بني النضير وزعيم المتآمرين ضد الإسلام قال له "كعب" زعيم "بني قريظة": ياحُيَيّ، اذهب عني، أنت رجل مشؤوم، إنكم غدرتم بمحمد فأصابكم ما أصابكم، وأنا لم أر من الرجل إلا وفاء وبراً، فدعني منك. وأبى أن يفتح له باباً!.
ولكن اليهودي ظل يقرع الباب، ويرسل الكلام، ويقول له: يا مغفل! جئتك بعز الدنيا، جئتك بعرب الجزيرة كلهم، قد حاصروا المدينة ولن ينصرفوا حتى يجهزوا على محمد ومَن معه، وأخذ يراوده، فإذا الرجل السيئ المنكوب يتبع ما قيل له، وينسى الوفاء والبر اللذين لم ير غيرهما من محمد -صلى الله عليه وسلم- وينضم إلى أعداء الإسلام الذين حصروا الإسلام والمسلمين داخل المدينة في معركة كاد الإسلام فيها يزهق.
قال -جل شأنه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) [الأحزاب:9-11].
في هذا الوقت العصيب انضم اليهود إلى المهاجمين، فلما نصر الله المسلمين في هذه المعركة، وهو نصر ما كان متوقعا، وتوجه المسلمون تواً إلى بني قريظة يؤدبونهم على غدرهم، وعلى الخيانة العظمى التي ارتكبوها معهم، وانتهى الأمر بضرب رقاب بني قريظة، وهم بذلك جديرون!.
ثم انتهي اليهود من المدينة بانتهاء بني قريظة، فلما فر من فر، وبدأت المؤامرات، وانبعثت من "خيبر"، اتجه المسلمون إليها، وأنهوا الوجود العسكري اليهودي تماما في هذه البقاع.
أربع معارك متتابعة مع قبائل اليهود المسلحة المحصنة المستعدة المعبأة انتهت جميعاً بهزيمتهم وانتصار المسلمين عليهم!.
هنا يجيء سؤال ربما روجه المستشرقون والمبشرون ومن لف لفهم من الأفاكين والمضللين، يقولون: لم هذا القتال؟ لقد كان قتالاً دينياً! والجواب: هذا ما يتصوره قصار النظر، ومن لا عقل له، فإن القتال في الحقيقة كان قتالا سياسيا عسكرياً، ولم يكن قتالاً دينياً بالمعنى المفهوم في عصرنا! ما معنى هذه الإجابة؟ معنى هذه الإجابة أن الإسلام ما كان عليه من بأس أن يبقى اليهود إلى جواره يعيشون بدينهم أبداً دون أن يخرجوا ودون أن يرهبوا لو أنهم لزموا حدود الشرف والوفاء؛ ولكنهم لما تبجحوا بقواهم العسكرية، وظنوا أنهم بهذه القوى يستطيعون سحق الإسلام، اشتبك الإسلام معهم في حروب على النحو الذي سمعتم، فلما قلَّم أظافرهم، وانتزع أنيابهم، وجردهم من الأسلحة التي استعملوها في الغدر والخيانة، قبل أن يبقوا في جزيرة العرب مواطنين يهوداً يتبعون دينهم، ويعاملهم المسلمون معاملة حسنة!.
يروى البخاري في الأدب المفرد، عن عبد الله بن عمرو، أنه ذبحت له شاة، فجعل يقول لغلامه: أهديتَ لجارنا اليهودي؟ أهديت لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثة".
جار يهودي، رأي تلميذ رسول الله أن يكرمه وفق تعاليم رسول الله -صلى الله عليه وسلم، إن هذه الأقليات يوم تكون مجردة من القوة، يوم تكون بعيدة عن الإيذاء والشر، يوم تكون بريئة فلا تشتغل عميلة لأحد، يوم تحب أن تبقى على دينها فقط، فإن الإسلام يقبلها، ويحسن إليها! إن الإسلام يكره الغش والخديعة، والتآمر، والمعاملات الوضيعة، لعل التاريخ لا يعرف إنسانا مخالفاَ في الدين يعيش في بلد كثرته مسلمة، سلطته مسلمة،حكومته مسلمة، ثم يقول لرئيس الدولة ورجلها الأول وقد جاء يشتري منه شيئاً: لا أعطيك إلا بالثمن أو برهن.
يهودي في المدينة قبل وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمدة بسيطة جاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- يطلب منه بضاعة، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يومئذ سيد الجزيرة العربية، كانت جيوش الإسلام قد هزمت الرومان وخوَّفت الفرس، وكسرت العسكرية اليهودية، ومرغتها في الوحل، وكسرت ظهر الوثنية عابدة الأصنام، وجعلتها تلقى السم. الرجل الأول الذي يملك كل هذه السطوة، وكل هذه القوة، يعطي مخالفيه في الدين الحق في كل شيء، فيشعر اليهودي في المدينة المنورة عاصمة هذه الدولة بأنه آمن على نفسه وعلى عرضه، وعلى ماله وعلى أولاده وعلى حرياته، وعلى كل شيء له، وأنه يجد من نفسه الجرأة ليقول لمحمد: لا أعطيك حتى تأتي برهن! فيعطيه -صلى الله عليه وسلم- درعه رهناً.
إنما كان ليعلِّم الناس طبيعة الأمة الإسلامية، وأن الإسلام يرعى القلة بشرط ألَّا تكون خسيسة، ألا تجحد الصنيع، ألا تُبّيِّتَ الشر، ألا تكون عميلة لأعداء الإسلام، والَّا تكون قنطرة لانتقال العدوان إليه!.
إذن لم تكن الحرب التي ضاع اليهود فيها حرب إكراهٍ لليهود على دخول الإسلام، فإن الإسلام لم يكره أحداً على الدخول فيه، ولكن الحرب كانت لمنع الذئاب من أن تتخذ من أنيابها الحادة وسيلة لعض الآمنين، وترويع الذين يريدون أن يعبقوا هنا أو هناك بدينهم وضمائرهم وأفكارهم دون حرج.
لكن اليهود ظلوا على خلالهم الخسيسة، لقد استبقاهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- في "خيبر" على جزء من زراعتها، وذهب إليها الجابي كي يأخذ حق المسلمين من الأرض، فإذا هم يحاولون رشوته، ويريدون أن يشتروا ذمته، وينظر الرجل المسلم إليهم ويقول لهم: يا معشر اليهود! والله إنكم لمن أبغض خَلق الله إلىّ، وما ذاك يحملني أن أحيف عليكم! فلما رأي اليهود أمانة الرجل قالوا له: هذا هو العدل به قامت السماوات والأرض. إذا كان العدل به قامت السموات والأرض؛ فلم لا تعدلون؟.
فاضطر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بعد محاولات مختلفة من هذا النوع أن يجلي اليهود من جزيرة العرب نهائياً، وكان ذلك، وعاش اليهود بعدئذ قلة في العالم الإسلامي، ما أساء إليهم أحد، لكنهم هم الذين أساؤوا إلى ثقافتنا، وإلى مجتمعنا، وإلى أحوالنا!.
وليس الملوم أولئك اليهود، إنما الملوم من ظن أن السماحة تعني الفوضى، ومن ظن الحرية للأديان تعني أن يُعرض الإسلام -مانح هذه الحريات- لشتى المؤامرات الخسيسة.
إننا نلفت النظر إلى أن قوى الشر في العالم تعمل ضد الإسلام بضراوة وقساوة، وهي تنظر إلى غير المسلمين في العالم الإسلامي أنه يصلح أن يكون عميلا للاستعمار أو الصهيونية، وتحاول أن تجعل منه رمحا في ظهرنا، وحربة تشق أضلعنا؛ وعلى المسلمين ألا يكونوا مستغفلين، عليهم أن ينظروا إلى غير المسلمين نظرة فيها ذكاء، وفيها استبانة لما هنالك، فإننا نعامل بشرفٍ مَن يطوى ضميره على الشرف، أما من باع ضميره للصهيونية والاستعمار ويريد انتهاز الفرص للنَّيْل منا فلْيَعْلَمْ أنه بين قوم أيقاظ، فإن نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين".
ألا فليترك المسلمون استرسالهم وغفلتهم وسذاجتهم، ولينظروا إلى الغيوم المقبلة مع الأفق؛ إن مستقبل الإسلام خطير، تآمر عليه اليهود والنصارى في أوربا وأمريكا، تآمر الكل عليه لينالوا منه! فإذا لم نكن صاحين أيقاظا فإن غير المسلمين ربما عبث بنا، أو نال منا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله، إمام الأنبياء، وسيد المصلحين؛ اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: أيها الإخوة: اتباعاً لتعاليم نبينا، واستفادة من التجارب التي مرت بنا، بدأتُ أنظر إلى التاريخ نظرة أتعلم منها، وأعتبر بها، فإن مَن لم يعتبر بماضيه لم ينتفع بحاضره، ولم يضمن مستقبله! نظرت فوجدت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أعدل حاكم ظهر في القارات الخمس يقتله كلب مجوسي متَّهِما له بالظلم! سبحان الله! ما هذا؟ ويتبين من دراسة التاريخ أن مصرع عمر -رضي الله عنه- لم يكن قتلا فردياً من إنسان ظن كذباً أو صدقاً أنه ظلم، لا، بل كان مؤامرةً لليهودِ فيها ضلع، فإن رجلا جاء إلى عمر -رضي الله عنه- وقال له: رأيتُ في التوراة أنك ستقتل بعد ثلاث ليال! ما دخل التوراة في مقتل عمر؟ ما هذا الكلام؟ والقائل يهودي! لقد كان اليهود يعلمون.
وقُتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان وهو يتلو القرآن الكريم، وعُلم أن "عبد الله بن سبأ" -وهو يهودي- كان من وراء قتله! وقُتل عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- والأمر كذلك.
الخلفاء الراشدون الأربعة أعظم حكام الإسلام يقتل ثلاثة منهم! ما السبب؟ لقد ظهر لي أن التاريخ الإسلامي ينبغي أن يدرس بعناية، وأن المؤامرات التي تحاك الآن ضد المسلمين كثيرة، وأن الشغل في الظلام، والمؤامرات في الخفاء، ونيات الشر التي تعمل في جنح الليل، هذه هي التي تعمل الآن ضد الإسلام!.
تسمعون في المؤتمرات الدولية كلاماً معسولاً، وقرارات حلوة، ولكن العمل في الظلام هو الذي يُنفذ، والحقد على الإسلام هو الذي يملي إرادته، وبدأ هذا الحقد يظهر على فلَتات الألسنة، وفي تصريحات الساسة.
إن الروح المتعصبة الخسيسة التي كانت تعمل في جوانح "بطرس الناسك" عندما حرض أوربا على العرب والمسلمين، هذه الروح لا تزال هي هي في قلب زعماء أوربا من يهود ونصارى. لكن، أنا لا أحمل هؤلاء التبعة، إنما أحمل التبعة أمراء المسلمين وعلماءهم؛ لماذا؟ لأن مؤتمراً كمؤتمر "بال" يعقد في نهاية القرن التاسع عشر، ويبدأ عمله فوراً في أوائل القرن العشرين، كأن العرب والمسلمين لا يدرون عنه شيئاً، أو ينظرون إلى مقرراته ببلاهة، أو لعلهم هنا أوزاع ربما عارك أحدهم الآخر على أنه صلَّى ورأسه عار! وتحوَّلت التوافة إلى كبائر، واشتعل المسلمون بهذه الصغائر، واستباحوا فيها الدماء والأعراض! حتى جاء أعداؤهم فوجدوهم مشتغلين على هذا النحو فسحقوهم. أين كنا يوم كانت هذه المؤامرات تقرر مصيرنا، وتخطط لمستقبلها على أنقاضنا؟.
يجب أن نبحث -نحن المسلمين- عن آثار العداوة ضدنا، إنها في صمت ودون ضجيج، بل ووراء ابتسامات صفراء تعمل قوى كثيرة بين ظهرانينا؛ لتغتال الإسلام، لتمحق قوانينه وتقاليده، لتهين كرامته، لترمى بالعمامة البيضاء وحدها في الأقذار، أما غيرها -ولو كانت تاجاً على رأس خادم البقر- فلها كرامة!.
لعابد البقر، لسادن العجول كرامة من كرامة الدين المنتصر، أما الإسلام المهزوم فإن شاراته وشعاراته تداس! أريد من المسلمين أن يتركوا هذه الغفلة، وألا ينظروا إلى التاريخ بهذه البلاهة، وأن يفكروا في مستقبلهم تفكيراً لا سذاجة فيه ولا غفلة! الأمر جد، إن مستقبلهم ومستقبل أولادهم في مهب الرياح؛ إن ظلوا بهذه المثابة.
لقد عاملنا الآخرين بشرف، ولكن الأمر كما قال الله تعالى: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران:119-120].
والله لقد رأيت وجوهاً في 1967 -عام الخزي والعار- متهللة في هذا البلد، تصطبغ بالبهجة، وتخرج من معابدها مبتهجة، وكأن شيئاً لم يقع. لم هذا؟ أريد أن نخدم ديننا لا بالصياح الفارغ، ولا بالخطب الجوفاء، ولكن كما يخدم أهل الجد أهدافهم، وكما يبلغ أهل الجد أغراضهم.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].