الواحد
كلمة (الواحد) في اللغة لها معنيان، أحدهما: أول العدد، والثاني:...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
عند تتابع الفتن، وفي أتون المحن؛ يكثر المتساقطون، ويقل الناجون، ويكون الثبات على الحق مطلبًا عزيزًا، لا يقدر عليه إلا من ثبته الله تعالى. وأما الصدع بالحق أمام الظلم وأهله فذاك اصطفاء يصطفي الله تعالى له الخُلّص من عباده ..
الحمد لله العليم القدير، الحكيم اللطيف؛ لا شيء يستعصي على قدرته، ولا يدرك العباد كل حكمته، ولا يحيطون بشيء من علمه، نحمده على آلائه ونعمه، ونشكره على جوده وفضله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [مريم:35] فيقع أمره على خلاف ما يظن الناس ويحتسبون.. احتمى بنو النضير في حصونهم، ووفروا ما يكفيهم من مئونتهم وطعامهم (فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) [الحشر:2].
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واشكروه ولا تكفروه؛ فإنكم في نعمه ترفلون، ومن رزقه تأكلون، (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) [النحل:53].. تعرفوا إليه في الرخاء يعرفكم في الشدة، واعبدوه وقت الأمن والسلامة تجدوه وقت المحنة والفتنة؛ فإن الزمن في تقارب، والأحداث في تسارع، وإن الفتن تلوح في الأفق، والأوضاع السياسية تتجه إلى ذروة الاحتقان والانفجار، ولا علم لأحد بما ستئول إليه أحوال الدول والشعوب إلا الله تعالى، ولا عاصم إلا من عصمه سبحانه، ولا حول ولا قوة إلا به (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطَّلاق:3].
أيها المسلمون: عند تتابع الفتن، وفي أتون المحن؛ يكثر المتساقطون، ويقل الناجون، ويكون الثبات على الحق مطلبًا عزيزًا، لا يقدر عليه إلا من ثبته الله تعالى. وأما الصدع بالحق أمام الظلم وأهله فذاك اصطفاء يصطفي الله تعالى له الخُلّص من عباده.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر لأصحابه رضي الله عنهم سير الثابتين وأخبارهم؛ للتأسي بهم، ولبيان أن الحق سلعة غالية تُبذل فيها الأموال والأنفس، ويُحتمل في سبيلها العذاب والنكال؛ لأن ثمنها أعلى الدرجات عند الله تعالى، ولذا كان أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر، فكيف إذا كانت أعلى كلمات الحق وهي لا إله إلا الله، أمام من ادعى الربوبية، وعبّد الناسَ لنفسه من دون الله تعالى؟!
وثمة حادثة عظيمة وقعت في نجران قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام بقرن تقريبًا، هذه الحادثة لغلام آمن بالمسيح عليه السلام فأجرى الله تعالى على يديه الكرامات، ورزقه الثبات على الحق إلى الممات، فصدع بالحق غير هيّاب، وكان صدعه بالحق سببًا في إيمان أمة كاملة، أحرق ملك طاغية رجالها وأطفالها ونسائها بسبب إيمانهم، أشار القرآن إليها بإيجاز في سورة البروج، وتناقلها الرواة اليونان والنصارى بأخبار وقصص عدة.
بل إن النصارى المعاصرين لها ترنموا فيها بمراثٍ صارت من النشيد الكنسي بعد ذلك، وألفوا كتبًا عن هؤلاء الشهداء الحميريين الذين قضوا حرقًا بسبب إيمانهم برسالة المسيح عليه السلام.
ولكن أوثق الأخبار المنقولة في ذلك قصة الغلام النجراني الحميري الذي أكرمه الله تعالى فأجرى على يديه هذا الخير العظيم، وجعله سببًا لهذا الحدث الكبير، وقصته حدّث بها صُهَيْبٌ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ، فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ، فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ، فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ.
وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ، فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقَالَ: مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ دَعَوْتُ اللهَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ بِالله فَشَفَاهُ اللهُ، فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ، فَجِيءَ بِالْغُلَامِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَدَعَا بِالْمِنشَارِ، فَوَضَعَ الْمِنشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِنشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ..
ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَقَالَ: اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَرَجَفَ بِهِمِ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ، فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ، فَقَالَ: اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمِ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ.
فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ..
فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قَدْ وَاللهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ،-وفي رواية الترمذي: "فقال الناس لقد عَلِمَ هذا الْغُلَامُ عِلْمًا ما عَلِمَهُ أَحَدٌ فَإِنَّا نُؤْمِنُ بِرَبِّ هذا الْغُلَامِ، قال فَقِيلَ لِلْمَلِكِ: أَجَزِعْتَ أَنْ خَالَفَكَ ثَلَاثَةٌ فَهَذَا الْعَالَمُ كلهم قد خَالَفُوكَ»، فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا، أَوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ: يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ» رواه مسلم في صحيحه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الفَوْزُ الكَبِيرُ) [البروج:5-11].
بارك الله لي ولكم في القرآن...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
أيها المسلمون: إن كان طاغية نجران الذي رفض الإيمان وعذّب الناس عليه قد وقف في وجهه غلام أشعل الله تعالى جذوة الإيمان في القلوب بسببه، فآمن الناس مخالفين ملكهم الذي أراد تعبيدهم له من دون الله تعالى، وثبت الناس على الحق بسبب ثبات الغلام حتى لقي الله تعالى، حتى إن الصبي ينطقه الله تعالى فيثبت به أمه قائلاً لها: «يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ».. فتصبر حتى تلقى هي ورضيعها في النار...
إن كان ذلك قد وقع قبل نحو خمسة عشر قرنًا؛ فإن تاريخ الطغاة الذين يعبدون الناس لأنفسهم من دون الله تعالى ممتد إلى يومنا هذا، وتاريخ الغلمان الذين يقفون أمام جبروتهم، ويكسرون كبريائهم، ويمرغون أنوفهم بإبائهم مستمر أيضا إلى زمننا هذا..
وفي أرض الشام المباركة تولى السلطة فيها نظام باطني بعثي، جمع بين أشد المذاهب الباطنية، وأشد المدارس الفكرية العلمانية كفرًا ودموية، حين مزج النصيرية بالبعثية.. وبنى أقوى أجهزة للمخابرات والأمن لتعذيب من لا يخضع لجبروتهم، وجعلوا من الناس جواسيس على بعضهم طيلة أربعة عقود، حتى أضحى الولد لا يأمن أباه، ولا الزوج يأمن زوجته، ولا الأخ يثق في أخيه، بل لا يستطيع الواحد أن يهمس لوحده؛ لعلمه بالعذاب الذي ينتظره في السجون، وكان ثلث المسجونين يموتون تحت التعذيب، ويعدم بقيتهم في سجن تدمر على دفعات كل أسبوع مرتين، ويسجن آباء المطلوبين للأمن ويعذبون، وتغتصب نساؤهم وبناتهم تشفيًّا وانتقامًا، حتى غدت سوريا سجنًا لا يُطاق، هاجر منها مئات الألوف من أبنائها في شتى أقطار الأرض..
فلما أراد الله تعالى أن يكسر جبروت الطغاة النصيريين، وأعوانهم من البعثيين؛ سلط عليهم أضعف خلقه.. إي وربنا إنه لأمر إلهي لا تفسير له غير ذلك..غلمان في مدارس درعا صاروا يهتفون في فناء المدارس بسقوط النظام، وحفروا ذلك على جدران مدارسهم، فأُخذوا وعُذِّبوا ونكل بهم ولم يتراجعوا، وغضب أهلوهم من ذلك فخرجوا يريدون أبناءهم، فقدحت شرارة الثورة، وأشعل فتيل الخلاص من الظلم والطغيان بأيدي الفتيان، وزاد التأزم والاحتقان، وحوصرت درعا، فهب لنجدتها وفك الحصار عنها فتيان دون البلوغ من القرى المجاورة؛ نصرةً لإخوانهم الأطفال الذين عُذبوا، وقبض على أحد هؤلاء الفتيان، وعُذب عذابًا شديدًا لا يطيقه أشد الرجال، ثم وضعت أمامه صورة الطاغية النصيري ليسجد لها اعترافًا بربوبيته له، فبصق الغلام عليها بعزة وإباء وثبات، وهو تحت السياط والعذاب والنكال، وصور هذا المشهد المؤثر الذي يغني في تثبيت القلوب عن آلاف الخطب، ومئات المقالات، وعشرات الكتب، فلا والله يشاهد ذلك المشهد المصور أحد من أهل الشام إلا ثبت على الحق مهما كان العذاب..
ذلكم هو ثبات حمزة فتى حوران الذي خُرقت يداه بالرصاص تعذيبًا، وقطعت مذاكيره، ومُثِّل بجسده وهو حي، وعُذِّب على توحيده لله تعالى وإهانته للطاغوت، وكسرت رقبته، ففاضت روحه الطاهرة، ولقد أحسن أهله بتسميته حمزة على عم النبي صلى الله عليه وسلم أسد الإسلام، فكان حمزة هذا أسد الشام.. كسر في لحظة واحدة ما بناه الطغاة من جبروت خلال أربعين عامًا، فسبحان من هيأه لذلك واختصه به!
ولئن كان غلام نجران قد سطَّر بثباته على الحق قبل قرون ملحمة من أروع ملاحم الثبات والإيمان، فإن حمزة فتى حوران قد أعاد مع إخوانه ذات الملحمة في زمننا هذا.
سبحان الذي أذل النظام الاستبدادي القمعي بأضعف البشر، وسبحان الذي أنزل الثبات على قلوب الفتيان حتى ثبت الرجال بثباتهم، وإن أمة أنجبت هؤلاء الفتيان لن تعقم عن إنجاب رجال (أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) [المائدة:54] ولئن قدر الله تعالى سقوط النظام النصيري -وهو وشيك السقوط بإذنه سبحانه- وانتهى بسقوطه حزب الشيطان في لبنان، وتقهقر المد الصفوي المجوسي؛ فإن التاريخ سيدون في صفحاته أن فتيانًا يناهزون الحلم قد صنعوا ما عجز عنه كافة العرب بقادتهم ودبلوماسيتهم وجيوشهم، وشعوبهم وأموالهم، وهم يرون الخطر الصفوي المجوسي يتمدد في أراضيهم ليطوقهم ويجهز عليهم ولا يفعلون شيئًا يذكر..
ولله تعالى تدابير يعجز البشر عن الإحاطة بحكمتها، ومعرفة أسرارها، وإذا أراد سبحانه شيئًا هيَّأ أسبابه على غير ظن الناس وحساباتهم (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ) [يوسف:100].
وصلوا وسلموا على نبيكم..