الخبير
كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن صالح العجلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - التاريخ وتقويم البلدان |
ثَقَافَةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ إذا راجت في المجتمعات وَعَزَّ سُوقُهَا؛ فَهَنِيئًا لتلك المجتمعات الْأَمَان والبركات، فَبِإِحْيَاءِ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ تَمُوتُ الْبِدَعُ، وَتُصَانُ الْأَعْرَاضُ، وَتُحْمَى الْحُرُمَاتُ، وَتُحَاصَرُ الْجَرِيمَةُ، فَيَكُونُ الْأَمْنُ، وَتَصْلُحُ الْأَحْوَالُ، وَيعِيشُ الْمجْتَمَعُِ حياةً طيبةً بِبَرَكَةِ إِحْيَاءِ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ الْمُبَارَكَةِ. أَمَّا حِينَمَا يَتَخَلَّى الْمُجْتَمَعُ عَنْ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ، فَيُطْوَى بِسَاطُهَا، وَيَقِلُّ أَنْصَارُهَا، فَيَنْدُرُ النَّاصِحُونَ، وَيَشِحُّ الْمُنْكِرُونَ، فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْأَخْيَارِ مِنَ الْفُجَّارِ، وَوَيْلٌ لِلصَّالِحِينَ مِنْ سَفَهِ الْجَاهِلِينَ. إِذَا تَعَطَّلَتْ هَذِهِ الْفَرِيضَةُ أَوْ عُطِّلَتْ كَثُرَ الْمُتَلَصِّصُونَ عَلَى الْأَعْرَاضِ، وَالْمُتَجَرِّئُونَ عَلَى الْحُرُمَاتِ، وَرَاجَتْ ثَقَافَةُ التَّنَكُّسِ الْأَخْلَاقِيِّ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ...
معاشر المؤمنين: مَعَ القَصَصِ تُصْغِي الأسماع، وَتْنَجَذِبُ النُّفُوسُ، وَتَسْتَرْسِلُ المشاعر.
وبالقِصَّةِ يَزْدَانُ الوَعْظُ، وَيَحْسُنُ التَّوجِيْهُ، وَيَكْمُلُ التَّذْكِيْرُ.
ولِذَا تَبَوَّأَت القَصَصُ مَكَانَةً وَاسِعَةً في آياتِ القرآنِ وَهِدَاياتِه وَإِرْشَادَاتِهِ.
جاءَ القُرآنُ الكريُم بِكَثِيرٍ مِنْ قَصَصِ مَنْ غَبَرَ تسليةً للنَّبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) [هود: 120]، ولأخذ العبر والادكار (لقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [يوسف: 111].
نَقِفُ مَعَ نَبَأٍ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ في القرآنِ يا أُمَّةَ القُرآنِ، خَبَرٌ يَحْمِلُ في طَيَّاتِهِ العِبَرَ وَالعِظَاتِ، والتَّخْويفَ مِنْ عِقَابِ ربِّ الأرضِ والسَّماواتِ.
أَجْمَلَ اللهُ خَبَرَ هذا النَّبَأِ في مَوْضِعَيْنِ، وَبَسَطَهُ في موضع، أَجْمَلَهُ في قَولِهِ: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) [البقرة: 65]، وفي قوله: (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ) [النساء: 47]، وبسطه في آية الأعراف: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف: 163].
وحاصلُ قِصَّةِ أَصحابِ السبتِ على المشهورِ مِنْ أقوالِ أهلِ التفسير: أن اليهود في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- زعموا أنَّ بَنِي إسرائيلَ لمْ يَكُنْ فِيْهم عِصْيانٌ وَلَا مُعَاندةٌ لما أُمِرُوا به، فَأَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْأَلَـهُمْ على جِهَةِ التَّوبِيْخِ لهمْ عن هذه القريةِ، عَنْ حالِ أَهْلِهِا مع أَوَامِرِ اللهِ -تعالى- لهم.
وهذه القريةُ كانتْ على ساحلِ البحرِ، وَقَدْ تَعَدَّدتْ أقوالُ المفسرين في اسمِ القريةِ ومكانِها، أَمَّا القرآنُ فَلَمْ يَذْكُرْ اِسْمَهَا ولم يُحدِّدْ مكانَها لأنَّ المقْصِدَ أَخْذُ العِبْرَةِ منها.
وكانَ سُكَّانُ هذه القريةِ مِنْ اليهودِ، وَهُمْ خَلِيْطٌ مِنْ الصالحينَ والمصلحينَ، والفاسدينَ والمفسدين، وكانَ عملُهم ورِزْقُهم وَكَسْبُهُمْ مِنْ صَيْدِ السَّمَكِ، فَحَرَّمَ اللهُ عليهم صيدَ السَّمَكِ يومَ السَّبْتِ لحكمةِ إلهيةٍ (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء: 23].
(وَقُلْنَا لهمْ لَا تَعْدُوا في السَّبْتِ)، ومِنْ ابتلاءِ اللهِ لهمْ بسببِ فِسْقِ الفاسقينَ أنْ جَعَلَ السمكَ تجتمعُ بكثرةٍ في ساحلِهم يومَ السبتِ، حتى تَطْفُوَ على الماء، قال -تعالى- (إذْ تَأْتِيهم حِيْتَانُهمْ يومَ سَبْتِهِم شُرَّعَاً)، ثم معَ غروبِ شمسِ يومِ السبتِ تغيبُ وتختفي بقية أيام الأسبوع، (وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهم كذلك نَبْلُوهُمْ بِمَا كانُوا يَفْسُقُون) [الأعراف: 163].
فجلسوا بُرْهةً مِنْ الزَّمَنِ لَا يَصْطَادُونَ يومَ السبت، فاشتدَّ قَرَمُهُمْ إلى لحمِ السمك، فَتَحَيَّلَ نَفَرٌ مِنْ فُسَّاقِهِم على اصطيادِ السَّمَكِ، فكانُوا يَضَعُونَ الشُّصُوصَ والحبائِلَ قَبْلَ يومِ السبت، حتى إذا ما جاءتِ الأَسْماك مُسْرِبَةً يومَ السبت نَشَبَتْ بتلك الحبائل فَلَمْ تَفْلَتْ منها، فعندئذٍ يقومُ هؤلاء المحتالونَ بأخذ السمك بعد يوم السبت، زعماً منهم أنَّهم ما صادوه إلا بعدَ يوم السبت.
وشجَّعَ الفساقُ بحيلتهم تلك ضعافَ النفوسِ فصنعوا كصنيعهم، حتى انتشرت تلك الحيلة بين أهل القرية، وتجرَّأَ البعضُ فأعلنوا الصيدَ يوم السبت.
وأمامَ هذا التعاونِ على المحرَّمِ ومعصية الخالق جل جلاله علانية قامتْ فئة مصلحةٌ، فزجرت هؤلاءِ ونهتْهُم عن العصيان، وفئةٌ صالحةٌ أنكرت بقلبها، ولم تَنْهَ هؤلاء المعتدين، وقالوا للطائفةِ الناصحة المصلحة اتركُوهم لن تُصْلِحُوهم (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) [الأعراف: 164]، فانقسم أهل القرية إلى ثلاث طوائف : طائفة عاصية محتالة، وأخرى مصلحة محذرة من العقوبة الإلهية ، وثالثة صالحة في نفسها لم تعص الله ولم تنه عن المنكر.
واستمرت الطائفة المصلحة الناصحة في إنكارهم ووعظهم؛ إبراءً للذِّمَّة وإعذاراً عند الله، فلم يزد هؤلاء الفساق إلا عناداً وعتوَّاً، ولم تحرك فيهم المواعظ والزواجر ساكناً، واستمروا في غيِّهم وطَمَعِهِمْ واعتدائهم يوم السبت.
فَفَصَلَ اللهُ في أمرِ أهلِ هذه القرية، فأنْجى عباده المصلحين الغيورين على دينهم، وأنزل العقوبة على القوم الفاسقين المعتدين، عقوبة المسْخِ سمَّاها الله: (عذاباً بَئِيْسَاً)، مسخ الله أشكالهم من إنسان خلقه ربُّه في أحسن تقويم، إلى قرد مشين، هذا العقاب حصل بكلمة واحدة من الواحد القهار (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) [الأعراف: 166]، فما أصبح هؤلاء المعتدين من ليلتهم إلا ولهم أذناب يَتَعاوونَ كما تتعاوى القردة، فنعوذ بالله من سخط الله وعذابه.
وقد ذكر أهل التفسير: أن الواحد من هؤلاء الممسوخين كان يعرف قريبه من الآدميين ويتمسحون بهم، والآدمي لا يعرف هذا الممسوخ، فيقول لهم الآدميون: ألم ننهكم عن انتهاك حرمات الله؟ فيشيرون برؤوسهم أن نعم، وهم يبكون.
وما ذكره المفسرون هنا هو من أخبار بني إسرائيل التي يتحدث بها ولا حرج ولا تُصَدَّق ولا تُكَذَّب.
عباد الله: وفي هذه القصة العظيمة دروس ورسائل:
- أولها: رسالة العبرة والاتعاظ، لقد كان خبر أصحاب السبت عظة بليغة، وشاهداً حياً لأهل ذلك العصر، ولكل عصرٍ بعده، فقصص القرآن ليست حوادث ماضية، بل سنن باقية، ولذا قال الله -تعالى- بعد خبرهم: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة: 66].
وهذا ما فهمه الصحابة -رضي الله عنهم-، فقد روى الطبري في تفسيره بسنده إلى عكرمة قال: "دخلت على ابن عباس -رضي الله عنهما- والمصحف في حجره وهو يبكي، فقلت: ما يُبكيك يا ابن عباس؟ فقال: هؤلاء الورقات، وإذا هو في سورة الأعراف عند قصة أصحاب السبت، فقال ابن عباس: لا أسمع الفرقة الثالثة ذُكِرَتْ، نخاف أن نكون مثلهم، نرى فلا نُنكر".
- ومن إشارات القصة: أهمية الاعتناء والتدبر في قصص بني إسرائيل، وكيف حلَّت بها العقوبات من ربهم، لماذا؟ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أنَّ هذه الأمة ستتبع سَنن من كان قبلها حذو القذَّة بالقذَّة، حتى "لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه" قيل: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن".
فإذا علمنا أنَّ في الأمة من سيتبع سنن اليهود والنصارى، لزم أنْ نحذر من كلِّ منكر ذمَّه الله وعابه على بني إسرائيل.
- ومن دلائل القصة: أن عقوبة الله على بني آدم تأتي جزاءً وفاقاً، والعذاب يكون من جنس العمل، فاليهود حرَّم الله عليهم الصيد يوم السبت، فتحايلوا ووضعوا الشباك يوم السبت، واستخرجوا الصيد يوم الأحد، ففعلهم في الظاهر حلال، لكنَّه في الحقيقة حرام، فالعبرة في الوقت الذي حصل فيه الصيد، لذا جاءت العقوبة من جنس هذا التحايل، فعاقبهم الله أنهم في الظاهر أشبه الحيوانات بالإنسان، وفي الباطن ليسوا من جنس الإنسان.
- ومن مواعظ القصة: الحذر من التحايل على المحرمات، وهذه خصلة يهودية بامتياز، فكما تحايلوا في صيد السمك تحايلوا في شحوم الميتة، فإنَّ الله -عزَّ وجل- حرَّم عليهم شحوم الميتة، أذابوا الشحم حتى أصبح كالزيت، ثم باعوه فأكلوا ثمنه، يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- محذراً أمته من سبيل المغضوب عليهم: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل" (حسَّن إسناده ابن القيم وقوَّاه ابن عبد الهادي).
والتحايل على المحرم يكون بأمور: إما بتسميته بغير اسمه كتسمية الربا بالفوائد المالية، وكتسمية القمار بالمسابقات، وقد يأتي التحايل على الحرام بادِّعاء حلِّه، وفي الحديث عند البخاري: "لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ"، ويدخل في هذا: البحث عن الأقوال الشاذة لأجل تحليل الحرام الذي تهواه النفس.
- ومن إشارات القصَّة: أنَّ التحايل على تحليل الحرام لادِّعاء حلِّه بعد ذلك أشد حرمة من مجرد فعل الحرام، وقد ذكر الله –سبحانه- عن بني إسرائيل أنهم أخذوا الربا، وأكلوا أموال الناس بالباطل، وأنهم صدُّوا عن سبيل الله كثيراً، ومع ذلك لم يذكر أنَّه مسخهم بعد هذه الكبائر.
- ومن فوائد قصة أصحاب السبت: أنَّ في كل منكر يظهر، ويوجد من ينكر، تظهر طائفة ثالثة مثبِّطة، تهوِّن من شأن الإصلاح وإنكار المنكر، ولسان حالهم: لن تصلح الكون، دع الناس وشأنهم، لن ينفع النصح.
فَلَيْتَ شِعْرِيْ مَنْ لمْ يَكُنْ بالحقِّ مُقْتَنِعَاً | يُخْلِيْ الطَّرِيْقَ وَلَا يُوْهِنُ مَنْ اِقْتَنَعَاً |
فهذه الفئة صالحة في نفسها لكنها سلبية في الإصلاح والاحتساب، والذي يرفع العقوبات عن المجتمعات ليس كثرة الصلاة والصيام والصدقة، مع أنها أعمال صالحات مبرورات، وإنما يستدفع عقاب الله بالنهيِّ عن المنكرِ والسُّوء، "أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟" قَالَ: "نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ"، بينما قال –سبحانه- في المصلحين الذين ينهون عن السُّوء: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 117].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
الخطبة الثانية:
أما بعد فيا إخوة الإيمان، ومن الوقفات مع قصة أصحاب السبت:
إنَّ وجود طائفة تأمر بالخير وتنهى عن السوء هو مكسب في كل مجتمع، فبهم تُستدفع العقوبات، وبهم تدرك الأمة الخيرية (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110].
ثَقَافَةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ إذا راجت في المجتمعات وَعَزَّ سُوقُهَا؛ فَهَنِيئًا لتلك المجتمعات الْأَمَان والبركات، فَبِإِحْيَاءِ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ تَمُوتُ الْبِدَعُ، وَتُصَانُ الْأَعْرَاضُ، وَتُحْمَى الْحُرُمَاتُ، وَتُحَاصَرُ الْجَرِيمَةُ، فَيَكُونُ الْأَمْنُ، وَتَصْلُحُ الْأَحْوَالُ، وَيعِيشُ الْمجْتَمَعُِ حياةً طيبةً بِبَرَكَةِ إِحْيَاءِ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ الْمُبَارَكَةِ.
أَمَّا حِينَمَا يَتَخَلَّى الْمُجْتَمَعُ عَنْ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ، فَيُطْوَى بِسَاطُهَا، وَيَقِلُّ أَنْصَارُهَا، فَيَنْدُرُ النَّاصِحُونَ، وَيَشِحُّ الْمُنْكِرُونَ، فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْأَخْيَارِ مِنَ الْفُجَّارِ، وَوَيْلٌ لِلصَّالِحِينَ مِنْ سَفَهِ الْجَاهِلِينَ.
إِذَا تَعَطَّلَتْ هَذِهِ الْفَرِيضَةُ أَوْ عُطِّلَتْ كَثُرَ الْمُتَلَصِّصُونَ عَلَى الْأَعْرَاضِ، وَالْمُتَجَرِّئُونَ عَلَى الْحُرُمَاتِ، وَرَاجَتْ ثَقَافَةُ التَّنَكُّسِ الْأَخْلَاقِيِّ، وَانْتَظِرْ حِينَهَا وَبَعْدَهَا العُقُوبَةَ أيَّاً كان نوعها: أزمات اقتصادية، أو شيوع للظلم، أو حصول للفرقة والاختلاف والتنافر والتباغض (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) [الأنعام: 165].
فأهل الحسبة والهيئة هم –والله- نعمة وبركة في هذا البلد، فوجودهم خير للمجتمع وللدولة وللأمن وللأخلاق وللدين، لا يقال هذا مبالغة ولا دفاعاً، فَأَفْعَالُهُمْ تُحَامِي عَنْهُمْ، وَبَصَمَاتُهُمْ تَحْكِي جُهُودَهُمْ، وَآثَارُهُمْ تَذُبُّ دُونَهُمْ.
إذا تَكَلَّمَ الْعَقْلُ، وَنَطَقَتْ الْحُجَجُ، وَتَحَدَّثَتْ لُغَةُ الْأَرْقَامِ، فَلَا تَسْمَعُ عَنِ الْهَيْئَاتِ إِلَّا كل ثناءٍ مُسْتَرْسَلٍ متنوعٍ في إبطالِ السِحْرِ ومطاردة السحرة، وإراقة الخمور، وضبط المروِّجين، وحفظ الأعراض، وتأديب المتلصصين المستهترين على المحارم.
لا يتعامى عن هذه الجهود والبصمات المشاهدة إلا من لديهم أصلاً مشكلة مع الهيئة، وهما ولله الحمد فئتين أقليتين أصواتهما نشاز، تحارب هذا الجهاز، وتفرح بأخطائه وتفتري عليه:
الأولى: فئة مسعورة خلف شهواتها، وقفت الْهَيْئَةُ حَاجِزًا دُونَ أَهْوَائِهِمُ الْمُنْحَطَّةِ وَشَهَوَاتِهِمُ الْهَائِجَةِ، وَأَمَانِيِّهِمُ الْمُحَرَّمَةِ.
والثانية: فئة موتورة فكرياً ، لَدَيْهِمْ أَصْلًا مُشْكِلَةٌ، وَعَدَمُ قَنَاعَةٍ مَعَ شَعِيرَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ فَعَمَلُ الْهَيْئَةِ فِي مَنْطِقِهِمْ مُصَادِمٌ لِلْحُرِّيَّاتِ الشَّخْصِيَّةِ، وَالْهَيْئَةُ فِي تَخَيُّلِهِمْ تَقِفُ فِي وَجْهِ التَّقَدُّمِ، وَحَقوقِ الْمَرْأَةِ زعموا.
جهاز الحسبة وهذه الفئة الطيبة المصلحة في المجتمع ستظلُّ مَعْلَمًا مِنْ مَعَالِمِ تَمَيُّزِنَا، وَسيظلُّ حبُّهم دَمًا يَجْرِي فِي عُرُوقِنَا، وَمَحَلُّهُمْ سُوَيْدَاءَ قُلُوبِنَا، وَسَنَظَلُّ نُدَافِعُ عَنْهُمْ، وَنُصَحِّحُ أَخْطَاءَهُمْ، وَنُخْلِصُ النُّصْحَ لَهُمْ، وَنَدْعُو اللَّهَ بِبَقَائِهِمْ وَإِعَانَتِهِمْ.
سَنَظَلُّ نَذْكُرُكُمْ وَنَذْكُرُ بَذْلَكُمْ | فَلَقَدْ بَنَيْتُمْ فِي الْقُلُوبِ قَوَاعِدَا |
اللهم وفِّق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، اللهم أعنهم وسددهم، وأرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه، وأرهم الباطل باطلاً وأعنهم على اجتنابه.
اللهم صلِّ على محمد |