الجبار
الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...
العربية
المؤلف | صالح بن فوزان الفوزان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
هل اعتبرنا بما شاهدنا؟ هل حاسبنا أنفسنا، هل تبنا من ذنوبنا؟ إن حال الكثير منا لم يتغير من الفساد إلى الصلاح ولم ينتقل من المعصية إلى التوبة، وأقرب مثال على ذلك أن كثيراً من جيران المساجد لا يدركون أين أبوابها، ولا يفكرون في دخولها، كأنها بنيت لغيرهم.
الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وسبحانه عما يشركون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أعلم الناس بربه وأخشاهم له- صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله واخشوا غضبه ونقمته، وتأملوا أحوالكم، وتفكروا في آيات الله في الآفاق وفي أنفسكم لعلكم تذكرون، (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ). تمر بكم الأحداث الواحد تلو الآخر، وتحل النقمات في أنفسكم وأموالكم، وتسمعون بحلول الكوارث فيما حولكم من البلاد القريبة والبعيدة –ولكن المستفيد منا قليل، والمتذكر يسير، تحصل إصابات كثيرة بواسطة الأمطار التي تذهب بكثير من الأنفس والأموال، وبواسطة الرياح التي تثير التراب، وتظلم الجو، وتعطل السير، وتسفي الأتربة العظيمة على بيوتكم ومزارعكم، ولا تستطيعون ردها ولا تحويلها، بل لا يستطيع الخلق كلهم بما أعطاهم الله من قوة ومخترعات، لا يستطيعون صد هذه الرياح ومدافعتها، ثم يشاء الله بقدرته الباهرة أن تسكن هذه الرياح ويعقبها بالمطر الذي يزيل آثارها ويدفع أضرارها، تعلمون يا عباد الله أن الله لم يخلق شيئاً عبثاً- فلم يرسل هذه الرياح إلا لينبهكم ويذكركم بذنوبكم وبقدرته على عقوبتكم (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ).
عباد الله: إن في تصريف الرياح عبرة عظيمة، وقد وجه الله سبحانه إليها الأنظار بالاعتبار في آيات كثيرة من كتابه الكريم – فالرياح تارة تأتي بالرحمة، وتارة تأتي بالعذاب، وتارة تأتي مبشرة بين يدي السحاب، وتارة تسوق السحاب، وتارة تجمعه، وتارة تفرقه، وتارة تصرفه، ثم تارة تأتي من الجنوب، وتارة من الشمال، وتارة من الشرق، وتارة من الغرب.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وتأمل منفعة الريح وما يجري له في البر والبحر، وما هيئت له من الرحمة والعذاب، وتأمل كم سخر للسحاب من ريح حتى أمطر، فسخرت له المثيرة أولا فتثيره بين السماء والأرض، ثم سخرت له الحاملة التي تحمله على متنها كالجمل الذي يحمل الراوية، ثم سخرت له المؤلفة فتؤلف بين قطعه، ثم يجتمع بعضها إلى بعض فتصير طبقاً واحداً، ثم سخرت له اللاقحة فتلقحه بالماء، ولولاها لكان جهاماً لا ماء فيه، ثم سخر له المُزْجِية التي تزجيه وتسوقه إلى حيث أُمر، فيفرغ ماءه هنالك، ثم سخرت بعد إعصاره المفرقة التي تبثه وتفرقه في الجو فلا ينزل مجتمعاً، ولو نزل جملة لأهلك المساكن والحيوان والنبات..
بل تفرقه فتجعله قطراً، وكذلك الرياح التي تلقح الشجر والنبات ولولاها لكانت عقيماً، وبالجملة فحياة ما على الأرض من نبات وحيوان بالرياح، فإنه لولا تسخير الله لها لعباده لذوى النبات ومات الحيوان وفسدت المطاعم وأنتن العالم وفسد. وتسمى رياح الرحمة: المبشرات والنشر والذاريات والمرسلات والرخاء واللواقح، وتسمى رياح العذاب: العاصف وهما في البحر، والعقيم والصرصر وهما في البر، وإن شاء حركه بحركة العذاب فعجله عقيماً، وأودعه عذاباً أليماً، وجعله نقمة على من يشاء من عباده فيجلعه صرصراً ونحساً وعاتياً ومفسداً لما يمر عليه، وفي منفعتها وتأثيرها أعظم اختلاف، فريح لينة رطبة تغذي النبات وأبان الحيوان، وأخرى تجففه وأخرى تهلكه وتعطبه، وأخرى تشده وتصلبه، ولهذا يخبر سبحانه عن رياح الرحمة بصيغة الجمع لاختلاف منافعها، ولما كانت الرياح مختلفة في مهابها وطبائعها جعل لكل ريح ريحاً مقابلتها تكسر سورتها وحدتها، ويبقى لينها ورحمتها، فرياح الرحمة متعددة، وأما ريح العذاب فإنه ريح واحدة ترسل من وجه واحد لإهلاك ما ترسل بإهلاكه، فلا تقوم لها ريح أخرى تقابلها وتكسر سورتها وتدفع حدتها، بل تكون كالجيش العظيم الذي لا يقاومه شيء يدمر كل ما أتى عليه.
عباد الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الريحُ مِن روح الله تعالى تأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها، واسألوا الله من خيرها واستعيذوا بالله من شرها" رواه أبو داود. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: "اللهم إني أسألُك خيرَها وخيرَ ما فيها وخيرَ ما أُرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به" فيستحب للمسلم أن يقول هذا الدعاء عند هيجان الرياح، كما يدل الحديثان على تحريم سب الريح وذمها، لأنها جند من جند الله مدبرة مأمورة، وآية من آياته الدالة على قدرته وعظيم سلطانه، وإنما يكون موقف المسلم عند هيجان الريح الخوف من الله تعالى والتوبة إليه من الذنوب وسؤال الله من خيرها، والاستعاذة به من شرها- فإنه لا يقدر على تصريفها ودفع شرها وبذل خيرها إلا الله سبحانه.
عباد الله: هل اعتبرنا بما شاهدنا؟ هل حاسبنا أنفسنا، هل تبنا من ذنوبنا؟ إن حال الكثير منا لم يتغير من الفساد إلى الصلاح ولم ينتقل من المعصية إلى التوبة، وأقرب مثال على ذلك أن كثيراً من جيران المساجد لا يدركون أين أبوابها، ولا يفكرون في دخولها، كأنها بنيت لغيرهم، يسمعون الأذان فلا يجيبون، ويعصون الله ولا يتوبون ويشاهدون آياته فلا يعتبرون، تقام عليهم الحجج وهم في غفلة معرضون، فعما قريب سيندمون، (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.