الحكيم
اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...
العربية
المؤلف | مراد كرامة سعيد باخريصة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية |
وفي يوم من الأيام خلا اليهود بعضهم إلى بعض، وسول لهم الشيطان أعمالهم فتآمروا على قتل الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقالوا: أيكم يأخذ هذه الرحى فيصعد بها فيلقيها على رأس محمد فيشدخ بها رأسه؛ فقال أشقاهم، عمرو بن جحاش: أنا. فقال لهم سلام بن مشكم: لا تفعلوا! فواللهِ لَيُخْبَرَنَّ بما هممتم به! وإنه لَنَقْضُ العهدِ الذي بيننا وبينه. ولكنهم أصروا وعزموا على تنفيذ هذه الخطة الخبيثة ..
حديثنا اليوم عن غزوة بني النضير التي وقعت في مثل هذا الشهر، شهر ربيع الأول.
بعد الهزيمة التي وقعت للمسلمين في غزوة أحد تجرأ اليهود على المسلمين، وبدؤوا يكاشفونهم بالغدر والعداوة، ويتصلون بالمشركين والمنافقين ويعملون لصالحهم ضد المسلمين.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- صابراً متحملاً لأذاهم وجرأتهم، خاصة بعد وقعة الرجيع ومأساة بئر معونة التي قُتل فيها سبعون رجلاً من أفاضل الصحابة في كمين غادر للمشركين وحلفائهم اليهود، وقد تألم النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذه المأساة التي قتل فيها سبعون من أصحابه تألماً شديداً.
وفي يوم من الأيام خلا اليهود بعضهم إلى بعض، وسول لهم الشيطان أعمالهم فتآمروا على قتل الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقالوا: أيكم يأخذ هذه الرحى فيصعد بها فيلقيها على رأس محمد فيشدخ بها رأسه؛ فقال أشقاهم، عمرو بن جحاش: أنا. فقال لهم سلام بن مشكم: لا تفعلوا! فواللهِ لَيُخْبَرَنَّ بما هممتم به! وإنه لَنَقْضُ العهدِ الذي بيننا وبينه. ولكنهم أصروا وعزموا على تنفيذ هذه الخطة الخبيثة.
فلما جلس النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى جنب جدار بيت من بيوتهم، وجلس معه أبوبكر وعمر وعلي وطائفة من أصحابه، صعد المجرم على سطح المنزل لينفذ فعلته المشؤومة؛ ولكن الله -سبحانه وتعالى- أرسل جبريل الأمين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليعلمه بما هموا به، فأخبره جبريل، فنهض النبي -صلى الله عليه وسلم- مسرعاً، وتوجه إلى المدينة، فلحقه أصحابه، فقالوا: نهضت ولم نشعر بك! فأخبرهم بما همّ به اليهود.
وما لبث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن بعث محمد بن مسلمة إلى يهود بني النضير يقول لهم: أخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجَّلتُكُم عشراً، فمن وجدته بعد ذلك منكم ضربت عنقه.
فلم يجد اليهود مناصاً من الخروج، فأقاموا أياماً يتجهزون للرحيل والخروج من المدينة، غير أن رئيس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول بعث إليهم أن أثبتوا وتمنعوا ولا تخرجوا من دياركم؛ فإن معي ألفي رجلٍ يدخلون معكم حصونكم يدافعون عنكم ويموتون دونكم، فانزل الله -سبحانه وتعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [الحشر:11].
وهناك عادت لليهود ثقتهم، وطمع رئيسهم حُيَيّ بن أخطب فيما قاله رئيس المنافقين؛ فبعثوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولون له: إنّا لن نخرج من ديارنا؛ فاصنع ما بدا لك!.
كان هذا الموقف موقفاً محرجاً بالنسبة للمسلمين، فإن المسلمين لا يريدون أن يشتبكوا مع خصومهم في هذه الفترة المحرجة من تاريخهم؛ لأن جبهة القتال مشتعلة مع المشركين فلا يريدون أن يفتحوا جبهة أخرى مع اليهود؛ ولأن اليهود كانوا على درجة من القوة تجعل استسلامهم بعيد الاحتمال، والقتال معهم غير مأمون العواقب والنتائج.
ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين بلغه جواب حيي بن أخطب كبَّرَ وكبَّرَ المسلمون معه، ثم نهض -صلى الله عليه وسلم- لقتالهم ومناجزتهم، فاستعمل على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، وسار إليهم يحمل اللواء علي بن أبي طالب، فلما وصل إليهم فرض -صلى الله عليه وسلم- عليهم الحصار، فالتجأ اليهود إلى حصونهم، وكانت نخيلهم وبساتينهم عوناً لهم في ذلك، فأمر -صلى الله عليه وسلم- بقطعها وتحريقها، وفي ذلك أنزل الله: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) [الحشر:5].
فلما رأى المنافقون جدية الأمر خانوا حلفاءهم اليهود فلم يسوقوا لهم خيرا،ً ولم يدفعوا عنهم شراً، (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ) [الحشر:11-12].
ولهذا مثَّلهم اللهُ -سبحانه وتعالى- بالشيطان فقال: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) [الحشر:16].
ولم يطل الحصار طويلاً وإنما دام ست ليال فقط حتى قذف الله في قلوبهم الرعب فانهزموا وتهيأوا للاستسلام وإلقاء السلاح، فأرسلوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: نحن نخرج عن المدينة؛ فوافق -صلى الله عليه وسلم- على أن يخرجوا منها بنفوسهم وذراريهم، وأن لهم ما حملت الإبل، إلا السلاح، فوافقوا على ذلك.
ولحقدهم وحسدهم قاموا بتخريب بيوتهم بأيديهم ليحملوا معهم الأبواب والشبابيك والجذوع حتى لا يأخذها المسلمون، ثم حملوا النساء والصبيان على ستمائة بعير، وأسلم منهم رجلان فقط، وذهبت طائفة منهم إلى الشام.
فاستولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على سلاحهم وأرضهم وديارهم وأموالهم، فوجد معهم من السلاح خمسين درعاً، وثلاثمائة وأربعين سيفاً، فكانت أموالهم وديارهم خالصة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضعها حيث يشاء، ولم يُخمسها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أي: لم يقسمّها بالخمس كالغنائم؛ لأن المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل ولاركاب، وإنما أفاءها الله عليهم وساقها لهم بدون قتال، فقسمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين الأولين.
كانت هذه الغزوة -غزوة بني النضير- في شهر ربيع الأول في مثل هذا الشهر من السنة الرابعة للهجرة، وأنزل الله في هذه الغزوة سورة الحشر بأكملها، يقول الله -سبحانه وتعالى- بعد بسم الله الرحمن الرحيم: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ * وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ...) [الحشر:1-6].
الخطبة الثانية:
بعد أن ذكر الله -سبحانه وتعالى- في سورة الحشر الأحداث التي حدثت في هذه الغزوة، غزوة بني النضير، قال: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الْأَبْصَارِ)! فهو أمر منه -سبحانه وتعالى- بأخذ الدروس والعِبَرِ من هذه الغزوة.
ومن أعظم العبر فيها إثبات قدرة الله -سبحانه وتعالى- على تغيير الأحوال وتبديل الحال، وتصريف الأمور كيف يشاء -سبحانه وتعالى-، فلا يقف أمام قوته وقدرته شيء.
فهؤلاء اليهود كان الناس جميعاً -حتى المسلمين- يظنون أن قوتهم وحصونهم التي يتحصنون بداخلها لن يستطيع أحد أن يخترقها أو يخرجهم منها: (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا)، أي: أنتم أيها المسلمون مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا، وظنوا، أي اليهود، أن حُصُونُهُمْ مانعتهم مِنَ اللَّهِ ولكن الله -جل جلاله- أتاهم من حيث لم يحسبوا فسلط عليهم جندياً من جنوده وهو الرعب، فانهارت معنوياتهم، وضعفت نفسياتهم، فاستسلموا، وخرَّبوا بيوتهم بأيديهم.
فعلى الناس أن يعلموا أن الله الذي أجلى هؤلاء وأزالهم بعد أن ظن الناس أن حصونهم مانعتهم قادر على أن يزيل غيرهم من الكافرين والمتكبرين والظالمين؛ بشرط أن يصلح الناس أحوالهم، ويُقبلوا على منهج ربهم، وينصروا دينه، فإذا حققوا ذلك فإن الله سينصرهم وسيهلك عدوهم: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:40].
وفي السورة إشارة إلى أن النصر قريب إذا سلك الناس طريقه، أما إذا تنكب الناس الطريق وأخذوا يبحثون عن النصر والعز والتمكين في المناهج الأرضية كالديمقراطية والعلمانية والليبرالية والاشتراكية أو غيرها من المناهج الطاغوتية فإن النصر سيكون بعيداً؛ بل محالاً!.
كما أن في السورة إشارة واضحة إلى أن الهلاك متحقق في الوقوف في وجه الحق وتعذيب أهل الحق أومطاردتهم أوسجنهم، فهؤلاء اليهود لما عزموا على قتل الرسول -صلى الله عليه وسلم- بإلقاء الرحى عليه من سطح البيت مكر الله بهم فأذلهم وأخزاهم، وخرب بيوتهم ورحلهم من ديارهم بدون أن يتكلف المسلمون أية تكاليف في ذلك، وإنما دخلوا أرضهم بدون خيل ولا ركاب، أي بدون حرب ولا مشقة.
كما أن في الآية إشارة للمسلمين بتجنب الغدر والخيانة ونقض العهد، حتى لا يقع لهم ما وقع لليهود، فاعتبروا يا أولي الأبصار!.
كما أن من الدروس العظيمة في هذه الغزوة بيان حال المنافقين وكشف العلاقة الوطيدة بينهم وبين أهل الكتاب من اليهود والنصارى، حتى إن الله -سبحانه وتعالى- سماهم إخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب فقال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)، فعلاقة المنافقين باليهود علاقة حميمة، وصِلتهم بهم صلة قوية، يعقدون معهم المؤامرات، ويتآمرون معهم ضد المسلمين، ويوعدونهم بالدفاع عنهم ونصرتهم وحمايتهم من المسلمين: (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ)، هذا هو حال حكامنا اليوم، مع اليهود أوفياء وأصدقاء، ومع شعوبهم المسلمة خصوم ألداء!.
ومن الدروس والعبر في هذه الغزوة الإعلام بأن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، فمَن غدر ومكر ولف ودار فإن لفه ومكره سينقلب عليه في النهاية، فهؤلاء اليهود أرادوا قتل الرسول -صلى الله عليه وسلم- والقضاء عليه فقضوا على أنفسهم، واهلكوا أنفسهم.
كما أن في الغزوة دليلاً على جواز تخريب ممتلكات الكفار إذا كانت هناك ضرورة حربية، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، حيث قطع نخيلهم، وأحرق بساتينهم.