الحميد
(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - السيرة النبوية |
وما كان هَذا الحديث عن تبوك إلا لبيان حجم المَشَقَّة؛ حتى سُمِّيَتِ الغزوة غزوة العُسْرة، وفي ذلك دفع للمؤمنين إلى سُبُل الطَّاعة، ولو كان فيها بعض مشقة، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير الخلق، وصحابته خير الأصحاب عانوا مشقة عظمى في سبيل الله تعالى وابتغاء مرضاته، فهل ..
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلّ له، ومن يُضْلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله؛ بَلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله تعالى حتى أتاه اليقين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ هاجروا فرارًا بدينهم، وجاهدوا في سبيل ربهم، وبذلوا أرواحهم، وانخلعوا من جُلِّ أموالهم؛ رغبة في رضوان الله تعالى وجنته، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عزَّ وجلَّ-، فكم كانت التقوى سببًا في تفريج الضوائق، وبسط الأرزاق، وحلول الأمن: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطَّلاق: 2 – 3].
أيها الإخوة المؤمنون: سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- تزخر بالحكم والأحكام، والدروس والفوائد، ليست قصصًا من نسج الخيال، ولا هي إبداع من لسان مُتَحَدِّث، أو قلم كاتب، يقرؤها من يقرؤها لجمال في الإنشاء، أو بلاغة في التركيب، أو استفادة من الأسلوب؛ بل هي حق واقع، وأخبارٌ جامعة، فيها الحدث والعبرة، والموعظة الحسنة، تحوي أحكامًا فقهية، ودروسًا تربوية، وتنطوي على علوم متعددة؛ كالسياسة؛ والاقتصاد؛ وشؤون الحرب؛ والجهاد؛ وأحكام الهدنة والسلام؛ وغير ذلك مما يحتاجه المسلمون.
وكان مما وقع في شهر رجب من السنة التاسعة للهِجْرة من الأَحْداث الكبرى، والمغازي العظمى: غزوة تبوك، التي كانت آخر مَغَازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يتوفاه الله تعالى.
كانت غزوة مليئة بالأحداث، فيها أخبار الموسرين الذين أنفقوا، والفقراء الذين عجزوا، وفيها أنباء المنافقين الذين فُضِحوا، وحكاية الثلاثة الذين خلفوا، ناهيكم عن أخبار المسير والحصار، وفرض الجزية على أهل الكتاب، وما الحديث عنها تكفيه الساعات؛ ولكن هذه أجزاء ومقتطفات عن العسرة والمشقة التي كانت فيها، حتى سماها القرآن ساعة العسرة؛ لأنَّ العسرة لَفَّتْهَا من كل مكان، وأحاطت بها من كل جانب؛ فوَقْتُها عسرة؛ إذ كانت في حَمَارة القيظ، وشدة الحر، وما أشد المسير تحت وهج الشمس اللافحة، وفوق الأرض الساخنة!! وكانت شدة الحر تدعو إلى المُقام في المدينة، ذات الماء الطيب، وثمار الصيف اليانعة، فلا يخرج للغزو في هذا الوقت إلا مؤمن يدفعه إيمانه إلى تقديم رضوان الله تعالى على لذة الحياة، والاستمتاع بطيباتها.
ومن العسرة فيها: قِلَّة ما يجد كثير من المسلمين للتجهّز لها، فلقد جاء أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- يطلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحمل الأشعريين، فلم يجد سوى ستة أبعر دفعها إليه ليحمل عليها قومه.
لقد كان الأغنياء من الصحابة يتجهزون ويجهزون، والفقراء لا يجدون، اشتاقوا للجهاد في سبيل الله تعالى، لكن أعجزتهم الوسائل التي تبلغهم الميدان، فسحّت أعينهم بالدمع لهذا الحرمان. كان منهم علبة بن زيد قام من الليل يتهَجَّد، فصلى ما شاء الله ثم بكى، وقال: "اللهم إنك أمرت بالجهاد، ورغَّبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض"، وأصبح الرجل على عادته مع الناس، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أين المتصدق هذه الليلة؟!"، فلم يقم أحد، ثم قال: "أين المتصدق؟! فليقم". فقام إليه فأخبره، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أبشر، فوالذي نفسي بيده لقد كُتبت في الزكاة المتقبلة". ذكره ابن إسحاق ووصله الحافظ.
لقد كان علبة بن زيد واحدًا من سبعة رجال من المؤمنين عُرِفُوا بالبكائين، أَتَوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطلبون منه ما يخرجون عليه معه في هذه الغزوة، فلم يجد ما يحملهم عليه، فبكوا لذلك، فأنزل الله تعالى فيهم: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى المَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) [التوبة: 91 - 92].
إنها صورة مُؤَثِّرَة للرَّغْبة الصحيحة في الجهاد على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما كان يحسه صادقو الإيمان من ألم إذا ما حالت ظروفهم المادية بينهم وبين القيام بواجباته. إنهم لم يبخلوا بمالهم، ولم يفرحوا بتخلفهم؛ حتى كان منهم من تصدق بعرضه على المسلمين، يبيح كل من تكلم في عرضه بسوء أو ناله بغيبة.
ومع أنهم عذروا ولم يخرجوا للغزو، فإن قلوبهم كانت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام -رضي الله عنهم-، ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في المسير خبرهم فقال: "إن بالمدينة أقوامًا ما سِرْتُم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا، إلا كانوا معكم"، قالوا: "يا رسول الله: وهم بالمدينة؟!"، قال: "وهم بالمدينة، حبسهم العذر". أخرجه البخاري.
ومن العسرة أيضًا: بُعْدُ المسافة بين المدينة وتَبُوك، ووعُورة الطريق، وقلة الظهر؛ فهي عسرة في كل شيء، فسّرها جابر بأنها عسرة الظهر، وعسرة الزاد، وعسرة الماء.
وسُئل عمر -رضي الله عنه- عن شأن العسرة فقال: "خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى نظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره، فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده"، فقال أبو بكر الصديق: "يا رسول الله: قد عوَّدك الله في الدعاء خيرًا، فادع لنا"، فقال: "أتحب ذلك؟!"، قال: نعم، فرفع يديه -صلى الله عليه وسلم- فلم يرجعهما حتى أظلت سحابة، فسكبت، فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر. رواه البزار، وصححه ابن حبان، والحاكم.
ويصف العسرة أبو سعيد أو أبو هريرة -رضي الله عنهما- فيقول: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، فأصاب الناس مَجَاعة وقالوا: "يا رسول الله: لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادَّهنا"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "افعلوا"، فجاء عمر، وقال: يا رسول الله: "إنْ فعلوا قلّ الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، فادع الله عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك البركة"، قال: "نعم"، ثم دعا بنطع فبُسط، ثم دعا بفضل الأزواد، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة؛ حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، قال أبو هريرة: "فحزرته فإذا هو قدر ربضة العنز، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبركة" ثم قال: "خذوا في أوعيتكم"، فأخذوا في أوعيتهم حتى والذي لا إله إلا هو ما بقي في العسكر وعاءٌ إلا ملؤوه، وأكل القوم حتى شبعوا، وفضلت فضلة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبدٌ غير شاكٍّ فيهما فيحجب عن الجنة". أخرجه مسلم.
وقال الحسن البصري -رحمه الله تعالى- يصف العسرة: "كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يتعقبونه بينهم، وكان زادهم التمر المتسوس، والشعير المتغير، والإهالة المنتنة، وكان النفر يخرجون ما معهم إلا التمرات بينهم، فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها، ثم يعطيها صاحبه حتى يشرب عليها جرعة من ماء كذلك، حتى تأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلا النواة، فمضوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- على صدقهم ويقينهم -رضي الله عنهم-".
فكان جزاؤهم أن تاب الله تعالى عليهم؛ حيث لم تردهم العسرة التي أحاطت بهم من كل جانب عن الخروج في سبيل الله تعالى؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 117].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أَحْمَده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجهم، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعدُ:
فلقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدرك حجم المشقَّة التي ستلحق به وأصحابه في غزوة العُسْرَة، فجلى للناس أمرهم، وأوضح وجهته. قال ابن إسحاق: "وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلّما يخرج في غزوة إلا كنّى عنها، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يعمد له، إلا ما كان من غزوة تبوك؛ فإنه بيَّنها للناس؛ لبعد الشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو".
سار -عليه الصلاة والسلام- إلى تبُوك في رجب، وعاد في رمضان، واستغرقت الغزوة خمسين يومًا من العُسْرة والمَشَقَّة، ثلاثون يومًا منها مسير وطريق، وعشرون يومًا أقامها في تبوك، وجبن الروم عن المُنَازَلة، فضرب الجزية على بعض قرى النصارى، ثم عاد وقد هابت الروم وحلفاؤها من قبائل العرب قوة المسلمين.
لقد وطدت هذه الغزوة سُلْطان الإسلام في شمالي شبه الجزيرة العربية، ومَهَّدَتْ لفتوح الشام التي استعد لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإعداد جيش أُسامة قبيل وفاته، فأنفذه أبو بكر -رضي الله عنه-، ثُمَّ أَتبعه بجيوش الفتح الأخرى التي ساحت في بلاد الشَّام والعِراق، وكانت بداية تحرير شُعوب تلك المناطق من عُبُودية القيصرية والكسروية.
وما كان هَذا الحديث عن تبوك إلا لبيان حجم المَشَقَّة؛ حتى سُمِّيَتِ الغزوة غزوة العُسْرة، وفي ذلك دفع للمؤمنين إلى سُبُل الطَّاعة، ولو كان فيها بعض مشقة، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير الخلق، وصحابته خير الأصحاب عانوا مشقة عظمى في سبيل الله تعالى وابتغاء مرضاته، فهل نعمل ما عملوا؟! ونستطيع ما استطاعوا؟!
إنَّ واقع الحال ينفي ذلك، وإذا كان كثير مِنَ المُسْلِمين يتخلَّفون عن صلاة الجماعة، أو لا يُؤَدُّون الصَّلاة في وقتها مع أنَّ ما فيها من المشقة لا يساوي عُشْر مِعْشار مَشَقَّة تبوك، فكيف سيطيق المسلمون مشقة جهاد الأعداء، ومقارعة الباطل؟! وما ذلوا ولا انهزموا إلا لما تَثَاقَلُوا عنِ الطَّاعات، وخلدوا إلى الدَّعَة والرَّاحة.
حضر العسرة من حَضَر، وتخلَّف عنها من تخلَّف، وتحمل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المشقة، وذهبت وذهبوا، وبقي الأجر موفورًا للغازين، والوزر مكتوبًا على المُخَلَّفِينَ، إلا من تاب منهم، وهكذا يفعل الطاعة من يفعلها، ويتخلف عن الصلاة من يتخلف عنها، وسينسى صاحب الطَّاعة المشقة التي لحقته؛ كما سينسى المُقَصِّر فيها الراحة التي خلد إليها، وسيمضون، وسيبقى الأجر للمسارعين، والوزر على المخلفين، وكل سيجد ما عمل يوم الدين، والجنة حفت بالمكاره، وحفت النار بالشهوات.
وقصة العُسْرة تثبت أن الإيمان بالله تعالى يفوق كل قوة؛ فرغم قلة الزاد، وقلة الظهر، وبُعْد المسافة، وشدة الحر، إلا أن الصحابة استطاعوا الوصول إلى تبوك، وحاصروا العدو، وجبن العدو المدجج بالأسلحة، والمُقيم على أرضه عن مُلاقاة أقوامٍ هم أقل منه عددًا، وأضعف عتادًا، وأشدّ جوعًا!! إنه إيمان المؤمنين، والرعب الذي قذفه الله في قلوب الكافرين، فما أحوج المسلمين إلى اليقين بأن الإيمان أقوى من كل قوة، ومن كان الله معه فلن يغلب من ضعف أو قلة: (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21].
وصلوا وسلموا على نبيكم؛ كما أمركم بذلك ربكم...