المنان
المنّان في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من المَنّ وهو على...
العربية
المؤلف | عمر القزابري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
من أعظم الأمور التي ينساها الطغاة مسألة الموت والبعث والحساب والجزاء، ولو تذكروا لحظة واحدة ما ينتظرهم بين يدي الله من حساب وجزاء ووقوف بين يديه سبحانه وتعالى لعلموا أنهم في غرور، ولبكوا بدل الدموع دمًا، ولو تفكر هؤلاء الطغاة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لاتضح لهم ما هم فيه من الويل والثبور ..
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم أنفثهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا وذكاه روحًا وجسمًا وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..
معاشر الصالحين: إذا عظمت الخطوب وترادفت الكروب تاهت الكلمات، وضاعت العبارات وأصبح كل تعبير لا يفي بحقيقة الواقع الذي تجسده صور الظلم وألوان المكر وصنوف الخداع، وهذا ما يؤكده واقعنا اليوم، ويؤكده حالنا فأي كلمات يمكن أن تعبّر عن الواقع، وأي أوصاف يمكن أن تقرب تلكم الفظائع، وأي كلمات تنفع مع النومى أو قل إن شئت الموتى..
قد أسمعت لو ناديت حيًا | ولكن لا حياة لمن تنادي |
فكرت أن أتكلم في موضوع آخر ولكن والله الذي لا إله إلا هو لم يسعفني التفكير ولم يطاوعني التعبير بل وأحسست أني سأقدم على خيانة وجناية إن أنا تحدثت عن غير ما يقع لإخواننا وأحبابنا من أهل السنة في سوريا الحبيبة.
وإني إلى جانب ذلك، فإني والله أشعر بالخوف من عذاب الله، أخاف أن يعمّ الله الأمة بعذاب من عنده إن هي سكتت وغضت الطرف عما يجري اليوم في سوريا العزيزة.. نعم قبل أن يكون الموضوع موضوع قتل وذبح وحرق وتشويه واغتصاب وتدمير، فإن الموضوع موضوع عقيدة، وقد اتضح ذلك جليًّا ولم يعد فيه أي لبس إلا على ما انطمس الله بصيرته.
ولو لم يكن في الأمر إلا القتل والذبح وانتهاك الأعراض لكان ذلك كافيًا في جعل الأمة تتحرك لترفع الظلم عن المسلمين، وربنا في القرآن الكريم حين توعد الظالمين بالنار لم يتوعدهم لوحدهم بل توعد معهم الذين ركنوا إليهم، قال تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) [هود: 113]، فالسكوت عن الظالم ركون إليه ومداهنته ركون إليه،وعدم الإنكار عليه ركون إليه..
أما ما نراه اليوم من تواطأ وخذلان وصمت وتسويف فهو الظلم بعينه ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد قال رجل لسفيان: "إني أخيط ثياب بعض الظلمة فهل أنا من أعوان الظلمة؟" فقال سفيان: "أنت من الظلمة أما أعوان الظلمة فهم الذين باعوا لك الإبرة والخيط".
(وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) [هود: 113]، قال صديق حسن خان رحمه الله في فتح البيان: "فتمسكم النار بحرها بسبب الركون إليهم، وفيه إشارة إلى أن الظلمة أهل النار أو كالنار، ومصاحبة النار توجب لا محالة مس النار، قيل هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم؟!" انتهى كلامه رحمه الله.
وقال أبو السعود: "وإذا كان حال الميل في الجملة إلى من وجد منه ظلم ما في الإفضاء إلى مساس النار هكذا، فما ظنك بمن يميل إلى الراسخين في الظلم والعدوان ميلاً عظيمًا، ويتهالك على مصاحبتهم ومنادمتهم، ويلقي شراشره على مؤانستهم ومعاشرتهم، ويبتهج بالتزيى بزيهم، ويمد عينيه إلى زهرتهم الفانية، ويغبطهم بما أوتوا من القطوف الدانية، وهي في الحقيقة من الحبة طفيف، ومن جناح البعوضة خفيف، بمعزل عن أن تميل إليه القلوب، ضعف الطالب والمطلوب" انتهى كلامه رحمه الله.
وهذه الآية الكريمة: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) [هود: 113]، جاءت في أواخر سورة هود في سياق قصة فرعون (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود: 96- 97].
وكذلك كل الفراعنة والطغاة ومنهم فرعون الشام ليس عندهم عقل ولا رشد ولا فهم، ولو كان لديهم ذرة واحدة من فهم لما تجرؤا على قتل عباد الله وانتهاك حرمات الله..
ولكن أعمى الله بصائرهم حتى غابت عنهم مسألة الرجوع إلى الله، فالطغاة يظنون أنهم لن يمتون وأنهم سيخلدون في الدنيا، وهذا مدخل عظيم من مداخل الطغيان والاستعلاء والاستنكار لذلكم يقول الله عن فرعون: (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ) [القصص: 39]، وهذا منهج أحفاد فرعون إلى اليوم الغفلة عن مسألة الموت والنهاية، ومن ثم الإغراق في الظلم والجناية..
لذلك فإنهم يبالغون في القتل والتنكيل بعباد الله ظنًّا منهم أن ذلك سيحفظ عروشهم ويطيل أمد سلطانهم وجبروتهم، قال الله حكاية عن فرعون: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ..) [القصص: 4].
أما فرعون الشام فلا يفرق بين رجال ولا نساء ولا أطفال ولا شيوخ، ولا حيوان ولا شجر ولا حجر ولا مساجد، فهو فاق فرعون في هذا الباب؛ لأن فرعون كان يقتل الذكور فقط، والطغاة يستعينون كذلك بتزوير الحقائق وتغيير الوقائع مستعينين بإعلام ممكن للظلم مرسخ للقهر..
قال الله عن فرعون (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) [الشعراء: 53-56]، وهذا ما نراه اليوم في فرعون الشام وفي إعلامه؛ حيث يصفون الشعب المظلوم بالعصابات الإرهابية وبالعلماء والخونة: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر: 26].
والطغاة لا يقبلون برأي ولا يستمعون لنصح، قال الله عن فرعون (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر: 29] الرأي رأي والأمر أمري والنهي نهي، وهذا فرعون الشام يسلك نفس المسلك عندما طلب الناس حقهم وأبدوا رأيهم بدأت الإبادة الجماعية والمذابح والمجازر.
والظلمة يستعينون دومًا ببطانة تصفق ولا تحقق، تؤيد ولا تندد، قال الله حكاية عن حاشية فرعون (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) [الأعراف: 127].
تأملوا صوّرا له الإصلاح الذي يقوده موسى إفسادًا (أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) [الأعراف: 127]. وكذلك فرعون الشام يستعين بحاشية من المفسدين يزينون له الباطل، ومع الأسف منهم بعض من ينتسبون إلى العلم يؤيدونه على ظلمه حتى قال له قائلهم: "يحبك من في الأرض ومن في السماء، فامض فيد الله معك!!" ولا حول ولا قوة إلا بالله..
وهذا النوع ولو كانوا من أهل العلم انتسابًا الذين يزينون الظلم والقتل ويغطونه بغطاء الشرع هم الذين قال الله فيهم: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) [الأعراف: 175- 176] وهو تشنيع قوي لمن سلك هذا المسلك والكلب دائمًا تابع لسيده يلهث خلقه ظالما كان أو مظلومًا.
والفراعنة دومًا يستعينون بالأموال في إغراء الناس لضمهم إلى صفوفهم وتأيدهم، قال الله حكاية عن سحرة فرعون: (فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [الشعراء: 41- 42].
ونحن نرى ونسمع اليوم فرعون الشام كيف يستعين بمرتزقة من أعداء السنة من الشيعة وغيرهم ويغدق عليهم الأموال ويعدهم المناصب من أجل قتل وذبح أهل السنة..
وفعلها من قبلها طاغية ليبيا فما أغنى عنه ماله ولا مرتزقته (مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)[هود: 101- 102].
وسبحان الله هذه الآية الكريمة (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) [الأعراف: 175] جاءت في سورة الأعراف مباشرة بعد الانتهاء من قصة الطاغية فرعون، وكأن في الأمر إشارة إلى أعوان الظلمة، وإلى هذا اللون من ألوان الإعانة على الظلم المتمثل في تزوير الحقائق عبر بوابة الدين والشرع.
ومن وسائل الطغاة والفراعنة في إرساء دعائم طغيانهم: الاستخفاف بعقول الناس والاستخفاف هذا له صور شتى؛ من نشر الشهوات، والتمكين للشبهات، والتخويف وفصل الناس عن دينهم بشغلهم بالدنيا وملذاتها بل وصل الأمر ببعضهم استخفافًا بالعقول إلى ادعاء الإلوهية.. قال الله عن فرعون (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) [النازعات: 24] وليست المشكلة فيه بل في من تابعه وسايره على هذا الضلال وليس بعد هذا الاستخفاف استخفاف..
قال الله عن فرعون (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) [الزخرف: 54]، وقد رأينا كيف أن جنود طاغية الشام يجبرون الناس على السجود لصورته ويدعون إلوهيته وليس بعد هذا الكفر كفر.. إنه مسلك الطغاة عبر التاريخ، الطغيان والاستخفاف والاستكبار، أما نهايتهم فواحدة لا تتغير..
جعلني الله وإياكم ممن ذُكِّروا فنفعتهم الذكرى، وأخلص عمله لله سرًّا وجهرًا.. آمين.. آمين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله المتفرد بالعظمة والكبرياء المتعالي عن الأشباه والنظراء من نزعه في عظمته قسمه، ومن تجبر في ملكه أهلكه والصلاة والسلام على نبي الرحمة المبعوث بشريعة الحكمة سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله العلماء الحكماء الأتقياء وعلى من ناصرهم وصار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
معاشر الصالحين: قال تعالى (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) [النمل: 55]، قال ابن كثير رحمه الله: "أي استخف عقولهم فدعاهم إلى الضلالة فأطاعوه"، ثم يقول ربنا (فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنبياء: 77] قال ابن عباس رضي الله عنهما (آَسَفُونَا) أي أسخطونا، وقال الضحاك عنه: أي أغضبونا ..
انظروا -رحمكم الله- كيف أن العذاب لما جاء جاءهم جميعًا؛ لأنهم أطاعوه واتبعوه ولم يغيروا ولم ينصحوا، ثم قال سبحانه بعدها (فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِلْآَخِرِينَ) [النمل: 56]، قال أبو مجلز: (سَلَفًا) لمثل من عمل بعملهم، وقال هو ومجاهد (وَمَثَلاً) أي عبرة لمن بعدهم.
يستفاد من هذا أن كل الطغاة والفراعنة اليوم سلفهم هو فرعون وقومه وبالتالي فإن العاقبة واحدة لا تتغير الانتقام والاستئصال (فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ) [النمل: 55].
قلنا: إن أواخر سورة هود جاء فيها ذكر فرعون ومنهجها، وجاء فيها كذلك منهج التعامل مع الفراعنة والطغاة في كل زمان بعد أن ذكر الله قصة فرعون واتباع قومه له، وانقيادهم لأمره، وأشار إلى سفاهته، ذكر بعدها مباشرة جزاءهم يوم القيامة فقال (يَقْدُمُ قَوْمَهُ) أي فرعون يتقدم قومه (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) [هود: 98- 99]، تتبعهم لعنات الله المتتالية الكل يلعنهم ويدعو عليهم حتى الشجر والحجر والدواب، وأي خزي أكبر من هذا ثم تمضي الآيات تبين استحقاقهم لهذا الجزاء وأن الله تعالى لم يظلمهم وحاشاه قال سبحانه: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) [هود: 101].
هذا فرعون الشام اليوم يحتمي بالشيوعيين والملاحدة والشيعة الزنادقة، ويعتقد أنهم ناصروه ومانعوه من أخذ الله وكما أسلفنا فإن الطغاة بُلداء بلهاء لا عقل لهم.. ولو فكر هذا مليًّا في أسلافه القريبين كيف خُذلوا يوم أن جاء أمر الله، وكيف تخلى عنهم الكل لعلم أنه إلى زوال ولكن الظلم يذهب الرشد ويعمي البصر والبصيرة..
ثم يقول ربنا (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102] إذا جاء أمر الله وتخلى الله عن العبد لم تقبله أرض ولا سماء، بل والله لا تقبله حتى نفسه وأعضائه ثم يقول ربنا (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) [هود: 103].
وسبق معنا أن من أعظم الأمور التي ينساها الطغاة مسألة الموت والبعث والحساب والجزاء، ولو تذكروا لحظة واحدة ما ينتظرهم بين يدي الله من حساب وجزاء ووقوف بين يديه سبحانه وتعالى لعلموا أنهم في غرور، ولبكوا بدل الدموع دمًا، ولو تفكر هؤلاء الطغاة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لاتضح لهم ما هم فيه من الويل والثبور..
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دمًا يقول يا رب قتلني هذا.. قتلني هذا حتى يدنيه من العرش» رواه الإمام أحمد .
فأي فضيحة أعظم من هذه عياذًا بالله، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجيء الرجل آخذًا بيد الرجل، فيقول: يا رب، هذا قتلني، فيقول الله له: لم قتله فيقول: قتلته لتكون العزة لك، فيقول: فإنها لي ويجيء الرجل آخذًا بيد الرجل فيقول: إن هذا قتلني فيقول الله له: لم قتلته؟ فيقول: لتكون العزة لفلان، فيقول: فإنها ليست لفلانً، فيبوء بإثمه» رواه النسائي.
يفسدون أخرتهم بدنيا غيرهم عياذا بالله، وهذا الحاصل في الشام، هؤلاء الذين يقتلون الناس من أجل كراسيهم وملكهم وأموالهم لو علموا الحقيقة لذابوا خجلا ولمزقوا أطرافهم جزعا ولكن الحقيقة محجوبة عن الظلمة المتكبرين، قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) [الأعراف: 146] فهم مصرفون عن الله، ومن صرف عن الله هنا حُجب عنه هناك وهذا أعظم الخزي..
يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيغمس في النار غمسة واحدة، ثم يقال له: هل رأيت نعيمًا قط؟ فيقول: لا والله ما رأيت نعيما قط"، يا الله غمسة واحدة في نار جهنم تنسيه نعيمه في الدنيا، تنسيه القصور والسيارات والطائرات، تنسيه السلطة، تنسيه المآكل والمشارب، غمسة واحدة فكيف يكون حاله وهو تحت أطباقها وبين سلاسلها ومقامعها يأكل من زقومها ويشرب من حميمها عياذا بالله.. يقول ربنا: (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) [الأنبياء: 46] نفحة واحدة تجعلهم يدعون بالويل والثبور فأين عقول الطغاة؟! وأين فكرهم؟!
ثم تمضي الآيات ويقول ربنا: (وَإِنَّ كُلاً لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [هود: 111] لا يظنن أولئك الطغاة أنهم سيفلتون من حساب الله، أو أنهم بعيدون عن علمه جل في علاه (إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وإذا جاء الموعد فسيحاسبون على الصغير والكبير والنقير والقطمير..
ثم بعد ذلك تأتي الآية التي قال عنها ابن عباس رضي الله عنهما: ما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية أشد ولا أشق من هذه الآية، قال تعالى (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود: 112]. رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الناس إمام المتقين يأمر بالاستقامة فماذا نقول نحن؟!
ومن أسرار الإتيان بهذه الآية عقب ذكر فرعون وظلمه أن مواجهة الظالمين تكون بالاستقامة على شرع الله والامتثال لأمره لا تكون المواجهة بالمعاصي والغناء والصراخ والانفراط.. لذلكم قال ربنا لموسى وأخيه وهما في مواجهة طغيان فرعون (قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [يونس: 89].
ومن الاستقامة عدم الركون إلى الظلمة لذلكم يقول الله بعد الآية مباشرة (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) [هود: 113].
وفي قوله تعالى مخاطبا نبيه (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا) هذه الآية على شدتها فإن فيها إجلالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، نبه على ذلك الإمام أبو حيان في قوله "ومن إجلال النبي صلى الله عليه وسلم إفراده بالخطاب في الأمر بأفعال الخير (فَاسْتَقِمْ) أفرده، والإتيان بضمير الجمع في النهي عن أفعال الشر "
(وَلَا تَطْغَوْا) جاء بضمير الجمع، ثم بعد ذلك أمر ربنا بالاستقامة ذكر بعض صورها التي هي من الاستقامة والتي تعين على الاستمرار عليها، قال تعالى (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود: 114].
هذه الصلاة هي عنوان الاستقامة تصلك بالله وتمنحك الأمان وتمدك بالأمان الذي تواجه به ظلم الظالمين واستكبار المستكبرين وحتى إن بدرت منك ذنوب فإن الصلاة تطهرك من تلك الذنوب لتبقى على قوتك ونقاءك وصفائك.
ثم أمر ربنا بعد ذلك بالصبر (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [هود: 114- 115].
الصبر سلاح من أسلحة المؤمنين عند البلاء يقوي العزائم ويدفع الوهن وهذا الصبر لا يتحقق إلا بمعرفة مصدر القدر وما يترتب على الصبر من عظيم الأجر وجميل الأثر، وهذا لا يتحقق إلا من خلال صلة بالله تمثل الصلاة أرقى صورها.. لذلكم يقول ربنا في آية أخرى (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) [البقرة: 45].
ثم بعد ذلك يبين الله سبحانه أنه من استقام وصلى وصبر وجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومواجهة المفسدين لأن ذلك من أسباب النجاة من الهلاك في الدنيا والآخرة، قال الله (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ) [هود: 116]، يقول الإمام البقاعي في نظم الدرر "والظاهر أن [من] هنا بيانية" أي هم الذين أنجيناه فإنهم نهو عن الفساد، يعني أنجيناهم لما نهوا عن الفساد.
يقول ربنا في سورة الأعراف: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف: 165].
والغريب أن الآيتين معًا في الأعراف وهو جاء بعد ذكر قصة فرعون في سورة الأعراف وفي سورة هود.. وفي هذا إشارة إلى أن الأمة المؤمنة الموصولة بالله يجب عليها أن تواجه الظالم وألا تسايره في ظلمه وبغيه إذ هي أرادت النجاة في الدنيا والآخرة.. يقول صلى الله عليه وسلم "إذا هابت أمتي – يعني خافت- أن تقول للظالم يا ظالم فقد تُوُدِّع منهم" يعني انتهوا ولا خير فيهم.
ثم بين سبحانه بعدها بأن كل ما ينزل بالأمة من بلاء إنما هو بسبب ذنوبهم ومعاصيهم وأن ربهم حاشى أن ينزل بهم البلاء ظلما لهم، فقال سبحانه (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 117] وفي الآية لطيفة لم يقل سبحانه [ وأهلها صالحون ]، ولكن قال (مُصْلِحُونَ) وفرق بين الصالح والمصلح، قد يكون الرجل صالحًا ولا يكون مصلحًا، فالمصلح هو الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر الواقف في وجه الفساد والظلم..
ثم تختتم السورة بالوعيد للظالمين وبمن صار على نهجهم (وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [هود: 121- 123]
اللهم إنا نسألك بحق لا إله إلا الله أن تنتقم من طاغية الشام..اللهم أنزل عليه رجسك وعذابك إله الحق...