البحث

عبارات مقترحة:

الودود

كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...

الفتاح

كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...

المولى

كلمة (المولى) في اللغة اسم مكان على وزن (مَفْعَل) أي محل الولاية...

ذو القرنين ويأجوج ومأجوج

العربية

المؤلف محمد حسان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التاريخ وتقويم البلدان - أعلام الدعاة
عناصر الخطبة
  1. تأصيل لغوى وشرعي مختصر .
  2. بعث النار .
  3. ذو القرنين ويأجوج ومأجوج .
  4. نزول عيسى ابن مريم .

اقتباس

فالتمكين إن نقَّبت عنه في القرآن سترى أنه في كل مرة وردت لفظة التمكين تنسب إلى الله رب العالمين، وهذه القاعدة البلاغية تؤصِّل في القلوب قاعدة إيمانية، فالذي يُمَكِّن للدول والأمم والشعوب هو الله، فيجب علينا جميعًا أن نعلِّق قلوبنا بالملك الذي يفعل كل شيء، مع الأخذ بالأسباب، فهذا من حقيقة التوكل على الله. لا تسود أمة إلا بإذن الله، ولا تزول أمة إلا بإذن الله ..

أما بعد: فحياكم الله جميعًا -أيها الآباء الفضلاء وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء-، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعًا من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم -جل وعلا- الذي جمعنا وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أحبتي في الله: سلسلة علمية مهمة تجمع بين المنهجية والرقائق وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، الهدف منها: تذكير الناس بحقيقة الدنيا للإنابة والتوبة إلى الله -جل وعلا- قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون.

وهذا هو لقاؤنا السادس من لقاءات هذه السلسلة، وحديثنا اليوم -إن شاء الله تعالى- عن علامة من علامات الساعة الكبرى التي ذكرها المصطفى في حديثه الصحيح الذي رواه مسلم من حديث حذيفة بن أُسَيد الغفاري قال: اطلع علينا النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن نتذاكر، فقال المصطفى –صلى الله عليه وسلم-: "ما تذاكرون؟!"، فقالوا: نذكر الساعة، قال المصطفى: "إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات، فذكر: الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم".

تكلمنا عن الدجال ونزول عيسى -عليه السلام-، وحديثنا اليوم -إن شاء الله تعالى- عن يأجوج ومأجوج.

وكعادتنا حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعًا، فسوف أركّز الحديث مع حضراتكم اليوم عن يأجوج ومأجوج في العناصر التالية:

أولاً: تأصيل لغوى شرعي مختصر.
ثانيًا: بعث النار.
ثالثًا: ذو القرنين ويأجوج ومأجوج.
رابعًا: خروجهم بين يدي الساعة.
خامسًا: نزول عيسى ابن مريم.

فأعرني قلبك وسمعك -أيها الحبيب-، والله أسأل أن يجعلني وإياكم جميعًا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.

أيها الأحبة: لقد أورد كثير من المؤرخين والمفسرين أخبارًا عجيبة وروايات غريبة عن يأجوج ومأجوج، ذكروا في هذه الروايات والأخبار أصلهم، ونسبهم، وأشكالهم، وألوانهم، ومكانهم!! وهذه الأخبار والروايات لا تعدو أن تكون مجرد خرافات وأوهام وخيالات وأساطير؛ لأنها أُخِذَت من الإسرائيليات، أُخِذَت من غير المصادر اليقينية أي القرآن والسنة النبوية الصحيحة، فلا يجوز لأحدٍ بحال أن يتكلم في مثل هذه الأمور الغيبية إلا بالدليل الصريح من القرآن أو بالدليل الصحيح من سنة النبي -عليه الصلاة والسلام-.

فلسنا في حاجة على الإطلاق لأن نلهث وراء الإسرائيليات والأخبار العجيبة والموضوعة لنتكلم عن يأجوج ومأجوج أو عن ذي القرنين، وإنما يجب علينا جميعًا أن نقف عند النص اليقيني في كتاب ربنا وفي سنة الحبيب نبينا ففيه الغنى.

يأجوج ومأجوج أُمَّتَانِِ من البشر من ذرية آدم -عليه السلام- يتميزان عن بقية البشر بالاجتياح المروع والكثرة الكاثرة في العدد والتخريب والإفساد في الأرض بصورة لم يسبق لها مثيل.

وقال المحققون من أهل اللغة نقلاً عن ابن منظور في لسان العرب وغيره قالوا: يأجوج ومأجوج اسمان أعجميان مشتقان من أجيج النار أي من التهابها، ومن الماء الأجاج وهو الشديد الملوحة والحرارة.

فشبَّهوهم بالنار المضطرمة المتأججة، وبالمياه الحارة المحرقة المتموجة لكثرة تقلبهم، واضطرابهم، وتخريبهم، وإفسادهم في الأرض.

هذا هو التأصيل اللغوي الذي لابد منه بدايةً حتى لا نطلق لخيالنا العنان لنلهث وراء الخرافات والأساطير والأوهام.

لذا أخبرنا المصطفى أن يأجوج ومأجوج هم بعث النار يوم القيامة، وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء؛ ففي الصحيحين من حديث أبى سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي قال: "يقول الله يوم القيامة: يا آدم: فيقول آدم: لبيك وسعديك، والخير في يديك، فيقول الله -جل وعلا-: أَخْرِج بعث النار، فيقول آدم -عليه السلام-: وما بعث النار يا رب؟! فيقول الملك: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى جهنم، وواحد إلى الجنة". فشق ذلك على أصحاب النبي المختار، وفي رواية: "فيئس القوم حتى ما أبدوا بضاحكة"، وفي رواية: فبكى أصحاب الرسول وقالوا: يا رسول الله: وأينا ذلك الواحد؟! فقال المصطفى: "أبشروا! أبشروا! فمن يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد". ثم قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة". فكبَّرنا. قال: "والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة". فكبرنا. فقال المصطفى في الثالثة: "والله لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة".

أمة النبي أمة مرحومة، أمة النبي أمة ميمونة:

ومما زادنـي فخـرا وتيـهًا

وكدت بأخمصي أطأ الثُّريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسـلت أحمد لي نبيًّا

اسجد له شكرًا أنك من أمة الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم-، فأمة المصطفى أمة مرحومة أثنى عليها ربها وأثنى عليها نبيها -صلى الله عليه وسلم-.

قال الله لها: (كُنتُم خَيرَ أُمَّةِ أُخرِجتْ لِلنَّاسِ)، قال الله لها: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة: 143].

وفى الحديث الذي رواه الترمذي وأحمد وابن ماجه بسند حسن قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "أنتم موفون سبعون أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله -جل وعلا-".

أنتم خير الأمم، أنتم أكرم الأمم على الله -جل وعلا-.

بل وفي صحيح البخاري من حديث أبى سعيد الخدري أن الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: يا نوح: هل بلغت قومك؟! فيقول: نعم يا رب، فيدعى قومه ويقال لهم: هل بلغكم نوح؟! فيقول قوم نوح: لا، ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيقول الحق -جل وعلا- وهو أعلم: من يشهد لك يا نوح؟! فيقول نوح: يشهد لي محمد وأمته، يقول المصطفى: فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أدعى فأشهد عليكم".

وذلك قول الله -جل وعلا-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا). بل ومن الأحاديث الممتعة التي تبيّن فضل السابقين واللاحقين من أمة سيد النبيين ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبى هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى المقبرة يومًا فقال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون". ثم قال الحبيب: "وددت أنَّا قد رأينا إخواننا"، فقال الصحابة: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال -صلى الله عليه وسلم-: "أنتم أصحابي، وإخواننا قوم لم يأتوا بعد"، فقال الصحابة: فكيف تعرف من لم يأتِ بعد من أمتك يا رسول الله؟! فقال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "أرأيت لو أن رجلاً له خيلُُ غُرُّ مُحَجَّلَة بين ظَهْرَي خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ -أي سود- ألا يعرف خيله؟!"، قالوا: بلى يا رسول الله، فقال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "فإنهم يأتون غُرًّا محجلين من الوضوء".

أحبتي في الله: أقف الآن وحضراتكم مع هذا الحوار الجميل بين ذي القرنين وقوم تعرضوا للفساد والإيذاء على أيدي يأجوج ومأجوج، وهذا هو عنصرنا الثالث بإيجاز.

لقد حكى الله قصة ذي القرنين في سورة واحدة من سور القرآن، ألا وهي سورة الكهف؛ قال الله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً * قَالَ مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً * فَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً) [الكهف:83-98].

هذه هي قصة ذي القرنين مع يأجوج ومأجوج، وأقول لك: إن قصة ذي القرنين هي الأخرى قد نُسِجَ حولها من الأساطير والخرافات والخيالات والأوهام ما يندى له جبين التحقيق خجلاً وحياءً.

لا يجوز لأحد يحترم علمه وعقله أن يتجاوز النص القرآني في قصة ذي القرنين، فما ذكره الله في القرآن عن ذي القرنين فيه الغنى وفيه الكفاية، ولسنا في حاجة لأن نلهث وراء الإسرائيليات لننسج حول شخصية ذي القرنين الأساطير والخرافات والأوهام.

والآن أدعوك لنتجول معًا لنتعرف على قصة ذي القرنين مع يأجوج ومأجوج بالنص القرآني والتفسير اليسير.

ذو القرنين عبد صالح؛ اختلف أهل التفسير في نبوته، لكن لا يستطيع أحد أن يجزم بذلك.

والقصة تبدأ بسؤال المشركين للنبي المصطفى، ويأتي الجواب من الله -جل وعلا-: (قُلْ) يا محمد، وكلمة (قُلْ) يسميها علماء التفسير وعلماء اللغة قل التلقينية، أي القصة ليست من عند رسول الله، بل هي وحي من عند الله -جل وعلا-: (قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا).

كلمة (مِنْهُ) التبعيضية: أي سأتلو عليكم بعض الشيء من قصة ذي القرنين، ولو علم الله في الزيادة عن النص القرآني خيرًا لذكرها لنا، فلنقف عند ما ورد في القرآن وما ثبت في حديث النبي -عليه الصلاة والسلام-: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرضِ)، تدبر، فمن الذي مَكَّنَ لذي القرنين؟!

فالتمكين إن نقَّبت عنه في القرآن سترى أنه في كل مرة وردت لفظة التمكين تنسب إلى الله رب العالمين، وهذه القاعدة البلاغية تؤصِّل في القلوب قاعدة إيمانية، فالذي يُمَكِّن للدول والأمم والشعوب هو الله، فيجب علينا جميعًا أن نعلِّق قلوبنا بالملك الذي يفعل كل شيء، مع الأخذ بالأسباب، فهذا من حقيقة التوكل على الله.

لا تسود أمة إلا بإذن الله، ولا تزول أمة إلا بإذن الله.

قال تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 26].

(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرض وَءَاتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا). أخذ بهذه الأسباب والوسائل للتمكين والنصر والفتح والظهور، (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرض أَقَامُوا الصَّلاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ) [الحج:41].

فهناك من الأمم من يمكّن الله لها فتأخذ بأسباب التمكين، فيزيدها الله ثباتًا وتمكينًا، فإن فرّطت أذهب الله عنها التمكين. وهناك من الناس من إذا مكّن الله له أخذ بوسائل التمكين فزاده الله رفعة ونصرًا، فإن فرّط في هذه الأسباب والوسائل أمر الله -عز وجل- بزواله وهلاكه.

(وَءَاتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا): أعطاه من الأسباب ما يستطيع أن يفتح وأن ينتصر وأن يجوب البلاد شرقًا وغربًا.

يبدأ ذو القرنين الرحلة الجهادية الأولى في سبيل الله نحو المغرب، (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا).

ومن المعلوم أنه ليس للشمس مشرق واحد ولا مغرب واحد، بل لها عدة مشارق ومغارب: قال الله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ) [المعارج: 40].

فالشمس لها مشارق ومغارب بحسب فصول السنة وأيامها وشهورها، لها مشارق ومغارب بحسب المكان، لها مشارق ومغارب بحسب رؤية الرائي إلى قرص الشمس أثناء الشروق أو الغروب.

(قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا).

فبيّن ذو القرنين منهجه العادل ودستوره الحكيم، فقال كما ذكر في كتاب ربنا: (قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا).

وأما من ظلم نفسه بالشرك وعدم اتباعي فسوف أعذِّبه وله عند الله العذاب العظيم، أما من اتبعني وآمن بما جئت به ووحّد الله واستقام على منهج الله فله الحسنى وهى الجنة، أما من ناحيتي فسنقول له يسرًا.

ثم انطلق نحو المشرق في رحلة ثانية: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا). لا يحمى هؤلاء الناس والقوم شيء على الإطلاق، لا يحول بينهم وبين الشمس شيء.

(كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا): أي علم الله -عز وجل- كل ما يدور في قلبه وفي نفسه.

وتبدأ الرحلة الثالثة التي هي محل الشاهد في موضوعنا: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ)، والسدان: الجبلان العظيمان. (وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً). لا يعرفون لغة ذي القرنين، أو لا يستطيعون أن ينفتحوا على غيرهم من الأمم، فهم قوم منعزلون على أنفسهم، تعرضوا إلى أشد الهجمات وأعنف الضربات على أيدي يأجوج ومأجوج، فلما رأوا ذا القرنين الملك الفاتح العادل توسلوا إليه وانطلقوا وقوفًا بين يديه وقالوا: (يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا).

هؤلاء القوم يقولون لذي القرنين: هل نبذل لك من أموالنا ما تشاء وما تريد على أن تبني لنا سدًّا منيعًا يحمينا من يأجوج ومأجوج؟!

فرد عليهم بزهد وورع وقال: (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ). لقد أعطاني الله -عز وجل- من وسائل التمكين ما أغناني به عن مالكم ولكنه لمح فيهم الكسل، فأراد أن يشركهم في هذا المشروع العظيم وفي هذا العمل الضخم، فقال لهم: ولكن (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا). أي قال بلغة العصر: التخطيط الهندسي والمعماري والإنفاق المادي لبناء هذا السد ولإقامة هذا المشروع، سنتكفل نحن بذلك، ولكننا في حاجة إلى العمال، في حاجة إلى عمالة يحملون ويبنون ويقيمون هذا العمل: (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا).

وبدأ ذو القرنين المهندس البارع الذي سبق علماء الهندسة المعاصرين بعدة قرون، أمر بالبدء في المرحلة الأولى من مراحل هذا المشروع، (ءَاتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ): أي اجمعوا لي قطع الحديد الضخمة، وأمرهم بوضع هذه القطع في مكان ضيق بين هذين السدين، فلمّا وضعت قطع الحديد حتى ساوت قمة الجبلين قال: انفخوا النار المشتعلة التي تصهر هذا الحديد، ولك أن تتصور حجم هذه النيران التي اشتعلت لتصهر أطنانًا من الحديد لا يعلم وزنها إلا العزيز الحميد، اشتعلت النيران تحت هذا الحديد بين السدين في مكان ضيق، يريد أن يسد على يأجوج ومأجوج الطريق الذي ينفذون منه إلى هذه الأمم المسكينة المغلوبة على أمرها.

فأشعل النيران حتى انصهر الحديد وذاب بين السدين أي بين الجبلين، فأمر ذو القرنين أن يدخلوا في المرحلة الثانية من مراحل البناء، ألا وهي أن يذيبوا النحاس حتى ينصهر، فلمَّا انصهر النحاس أمرهم بصب النحاس على الحديد فتخلل النحاس الحديد فأصبح النحاس والحديد معدنًا واحدًا ليزداد صلابة وقوة فلا تستطع أيدي يأجوج ومأجوج أن تتسلقه أو أن تنقبه، وبذلك يكون ذو القرنين قد سبق العلم المعاصر في تقوية الحديد بالنحاس، فلما ساوى بين الصَّدَفين بهذا الحديد وبهذا النحاس ليبين لنا سمات القيادة الفذة الناجحة التي تستطيع أن تجمع بين الخيوط والخطوط، التي تستطيع أن تجمع بين المواهب والطاقات والقدرات والإمكانيات؛ لتستغل الموارد والطاقات أعظم استغلال.

ذو القرنين يبيّن لنا سمات القيادة الناجحة، وما أحوج الأمة إلى هذه القيادة الفذة، فلمّا نظر إلى هذا السد العظيم لم تسكره نشوة القوة والعلم، لم يقل: فن الإدارة!! لم يقل: إنما أوتيته على علم عندي!! وإنما نسب الفضل لصاحب الفضل -جل وعلا- فقال: (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا).

درس عظيم، (هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي)، ثم بيَّن للحضور معتقده الصافي في الإيمان بالبعث والإيمان بيوم القيامة، فقال لهم: إن الذي أمر ببناء هذا السد هو الله، وإن الذي أمر بحجز يأجوج ومأجوج هو الله، وإن الذي سيأذن لهم بالخروج هو الله، وحتمًا سيأتي يوم على هذا السد المنيع ليجعله الله -عز وجل- دكاء، أي ليسويه بالأرض، وذلك لا يكون إلا بين يدي الساعة كما سيسوي جبال الأرض كلها بالأرض: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا).

هكذا يبين ذو القرنين العقيدة الصافية في الإيمان بالبعث، في الإيمان بيوم القيامة وعلامته الكبرى، حين يأذن الحق -تبارك وتعالى- ليأجوج ومأجوج في الخروج، حينئذ يستطيعون أن ينفذوا هذا السد ويخرجوا، وهذا هو عنصرنا الرابع من عناصر هذا اللقاء.

في صحيح البخاري من حديث زينب بنت جحش -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها يومًا فزعًا وهو يقول: "لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه". وحلّق بأصبعيه السبابة والإبهام، فقالت زينب بنت جحش: يا رسول الله: أَنهلِكُ وفينا الصالحون؟! فقال المصطفى: "نعم إذا كَثُرَ الخبث".

يهلك الصالح والطالح، ويبعث الله الصالحين والطالحين على نياتهم.

وتدبَّر معي هذا الحديث الذي رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم في المستدرك وصحح الحاكم الحديث على شرط الشيخين وأقر الحاكمَ الذهبيُ والألبانيُ في السلسلة الصحيحة من حديث أبي هريرة، أن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى قال: "إن يأجوج ومأجوج يحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قالوا: ارجعوا فستحفرونه غدًا، فيرجعون فيعيد الله السد أشد مما كان، حتى إذا أراد الله أن يبعثهم خرجوا يحفرون السد، فقال الذي عليهم إذا ما رأوا شعاع الشمس: ارجعوا وستحفرونه غدًا إن شاء الله تعالى، فيعودون فيرون السد كهيئته التي تركوه عليها فيحفرونه ويخرجون".

وفي رواية مسلم في حديث النواس بن سمعان: "فيمرون على بحيرة طبرية، فإذا مَرَّ أوائل يأجوج ومأجوج شربوا ماء البحيرة كله، فإذا مرّ آخرهم قال: لقد كان في هذه البحيرة ماء".

فيخرجون فيخاف الناس ويتحصنون منهم في الحصون، يتركون لهم الشوارع والطرقات، لا قدرة لأحد بقتالهم كما سأذكر في رواية النواس بن سمعان قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "أوحى الله إلى عيسى: يا عيسى: إني قد بعثت قومًا -أي يأجوج ومأجوج- لا يدان لأحد بقتالهم، -أي لا طاقة لأحد بقتالهم-، فحرز عبادي إلى الطور". أي اجمع عبادي من المؤمنين إلى جبل الطور في سيناء. ويتحصن الناس منهم في حصونهم فيقول يأجوج ومأجوج: لقد قتلنا أهل الأرض، تعالوا لنقتل أهل السماء.

انظر إلى الفجور!! وبهذه العبارة فقط تستطيع أن تتصور حجم الفساد في الأرض؛ إذ تجرأ هؤلاء وفكروا في أن يقاتلوا أهل السماء، وبالفعل يوجهون النشاب -أي السهام- إلى السماء، فيريد الملك أن يبتليهم، فيرد الله عليهم نشابهم ملطخة دمًا فتنةً من الله تعالى، فيقولون: قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء. في الوقت الذي تبتلى فيه الأرض بهذه الفتنة تكون فتنة أخرى عصفت بأهل الأرض عصفًا ألا وهى فتنة الدجال، فينزل عيسى -عليه السلام-، وهذا ما سنتعرف عليه بعد جلسة الاستراحة.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستنّ بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.

يُنزل الله تعالى عيسى -عليه السلام- كما في حديث النَّواس بن سمعان الذي رواه مسلم؛ قال المصطفى: "فبينما هو كذلك -أي الدجال- إذ أنزل الله -عز وجل- عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين -أى ثوبين مصبوغين-، واضعًا كَفَّيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدَّر منه جمان كاللؤلؤ". إذا رفع نبي الله عيسى رأسه تقطر منها الماء كحبات اللؤلؤ الأبيض.

يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "فيطلب عيسى ابن مريم الدجال حتى يدركه بباب لُدّ". وهي مدينة بفلسطين. فيقتل عيسى ابن مريم الدجال -عليه لعنة الله-: "ثم يأتي عيسى ابنَ مريم قومٌ قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم ويبشرهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى: إني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور". أي لا طاقة ولا قدرة لأحد بقتالهم. يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون". ينتشرون، يغطون وجه الأرض من فوق المرتفعات والجبال.

فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية، فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مَّرةً ماءُُ، ويحصر نبي الله عيسى -عليه السلام- وأصحابه، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه أن يتضرعوا إلى الله -عز وجل- أن يهلك يأجوج ومأجوج، فيستجيب الله دعاء عيسى وأصحابه من أمة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-.

اسمع ماذا قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "فيرسل الله على يأجوج ومأجوج النغف". والنغف: هو الدود الصغير. تدبر قدرة الملك وعظمة الملك، والله ما أحوج الأمة إلى أن تمتلئ قلوبها يقينا بقدرة الملك -جل جلاله-!! ما أحوجنا إلى أن نتعرف على عظمة الله وعلى جلال الله، وعلى قوة الله، وعلى قدرة الله، فإن أمر الله بين الكاف والنون.

"فيرسل الله عليهم النغف" أي الدود الصغير في رقابهم، فيهلكهم الحق -جل وعلا-، فيقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "فيصبحون فرسى -أي قتلى- كموت نفس واحدة". وفي رواية: "يطلب نبي الله عيسى واحدًا من هؤلاء المتحصنين الخائفين أن يخرج وأن يبذل نفسه ليرى ماذا فعل يأجوج ومأجوج في الأرض، فيخرج وهو مستعد للقتل والهلاك، فيرى هذه الكرامة والمعجزة والآية، فيرجع لنبي الله عيسى وينادي عليه وعلى أصحابه: أبشروا لقد أهلك الله يأجوج ومأجوج". يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "ثم يهبط نبيُّ الله عيسى مع أصحابه فلا يجدون موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم". والزهم: الدهن والشحم. لا يقوى الناس على هذه الرائحة الكريهة النتنة، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله أن يطهر الأرض من هذه النتن، فيرسل الله -عز وجل- طيرًا كأعناق البخت -أي كرقاب الإبل- فتحملهم فتطرحهم حيثما شاء الله، ثم يرسل الله مطرًا لا يكُنُّ منه بيت مدر ولا وبر، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزَّلَقَة -أي تصبح الأرض كالمرآة في صفائها ونقائها-، وحينئذ يقال للأرض: "أنبتي ثمرتك وردِّي بركتك". يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحًا طيبة تأخذ الناس تحت آباطهم، فتقبض هذه الريح روح كل مؤمن ومسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون في الأرض تهارج الحمر -أي الحمير- وعليهم تقوم الساعة".

وبذلك أكون قد أنهيت الحديث عن يأجوج ومأجوج من المصادر اليقينية من كتاب الله والسنة الصحيحة، وأنصح أحبابي أن لا يقفوا بعد ذلك وراء الأساطير والأوهام والإسرائيليات التي وردت في ذلك.

وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك على محمد -صلى الله عليه وسلم-.