المحسن
كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...
العربية
المؤلف | منصور محمد الصقعوب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
لا بد للمرء في مسكنه من جار يجاوره، يحتاج كلٌ منهما للآخر، وتجمعهما مصالح، وتحصل بينهما خلطة، ولربما كانت تلك الخلطة سبب إلفة أو داعي شقاق ونفرة، وهنا؛ فدين الإسلام -الشِرعة التي تحث أتباعها على التصافي والتآلف- رعت حق الجار، وأعظمت شأنه، وأكدت ثواب الإحسان إليه ووصله، وبالغت في التنفير من أذيته، ليبقى الصفاء، ويدوم الود والوفاء، ولتُنزع أسباب الشقاق والخلاف..
البيوت والمساكن قد تغلو وترخص، لا ببنائها ولا بموقعها؛ بل بجيرانها ومَن حولها.
شيّد رجل من المسلمين داراً كبيرة فسيحة، فجمّلها وحسَّنها، وبعد برهة من الزمن تعكرت حياته في تلك الدار، فعاف حسنها، وكره سكناها، وتمنى الخلاص منها، فلما عرضها للبيع بأرخص الأثمان، وأبخس الأسعار، وتمت البيعة بسعر زهيد، لامَهُ العُذَّال في بيعها، فأجابهم بقوله:
يلومونني أنْ بِعْتُ بالرّخْص منزلي | وما علِمُوا جاراً هناك يُنغِّصُ |
كُفُّـوا الملام فإنهـا | بجيرانها تغلو الديارُ وترخُصُ |
وبضد هذا الموقف موقفٌ يبين غلاء البيت بجيرانها، فقد عرض محمد بن الجهم داره للبيع بمائة ألف درهم، فلما حضر الراغبون في شراء داره قال لهم: قد اتفقنا على ثمن الدار، فبكم تشترون جوار سعيد بن العاص؟ فقيل له: وهل الجوار يباع؟ قال: وكيف لا يباع جوار مَن إذا قعدت سأل عنك، وإن رآك رحب بك، وإن غبت حفظك، وإن شهدت قرّبك، وإن سألته قضى حاجتك، وإن لم تسأله ابتدأك، وإن نابتك نائبة فرج عنك، فبلغ ذلك سعيد بن العاص فوجه إليه بمائة ألف درهم، وقال له: أمسك عليك دارك.
أيها الكرام: لا بد للمرء في مسكنه من جار يجاوره، يحتاج كلٌ منهما للآخر، وتجمعهما مصالح، وتحصل بينهما خلطة، ولربما كانت تلك الخلطة سبب إلفة أو داعي شقاق ونفرة، وهنا؛ فدين الإسلام -الشِرعة التي تحث أتباعها على التصافي والتآلف- رعت حق الجار، وأعظمت شأنه، وأكدت ثواب الإحسان إليه ووصله، وبالغت في التنفير من أذيته، ليبقى الصفاء، ويدوم الود والوفاء، ولتُنزع أسباب الشقاق والخلاف.
أخرج الإمام احمد في مسنده عن رجل من الأنصار قال: خَرَجْتُ مِنْ بَيْتِي أُرِيدُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَإِذَا بِهِ قَائِمٌ وَرَجُلٌ مَعَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقْبِلٌ عَلَى صَاحِبِهِ، فَظَنَنْتُ أَنَّ لَهُمَا حَاجَةً، فَوَاللهِ لَقَدْ قَامَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى جَعَلْتُ أَرْثِي لَهُ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، لَقَدْ قَامَ بِكَ الرَّجُلُ حَتَّى جَعَلْتُ أَرْثِي لَكَ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، قَالَ: "وَقَدْ رَأَيْتَهُ؟". قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "وَهَلْ تَدْرِي مَنْ هَذَا؟". قَالَ: لَا. قَالَ: "ذَاكَ جِبْرِيلُ –عليه السلام- مَا زَالَ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ".
وفي الصحيح عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ! وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ! وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ!" قِيلَ، وَمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائقَهُ".
وفي الصحيح أيضا: "مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره"، وفي السنن: "خير الجيران عند الله خيرهم لجاره". فلله! ما أشرفه من فضل! وما أجزله من جزاء!.
وقبل ذلك في القرآن قول الرحمن: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً) [النساء:36].
الجار -أيها المبارك- هو من قرُب مسكنه منك، وعُدّ في العرف جاراً، ربما كان مسلماً أو كافراً، براً أو فاجراً، نافعاً أو ضارّاً، قريباً أو أجنبياً، وفي كل الأحوال له حق، وبعض الجيران آكَد من غيره حقاً، وأعظم شأناً.
ونظرة في هدي الرسول الكريم، والسلف الصالحين تبين لك كيف كان التعامل مع الجيران، فأما سيد البشر -صلى الله عليه وسلم- فقد زار جاره اليهودي حين مرض، وأجاب دعوة الفارسي حين دعاه، هذا مع الأغراب بلداً ومعتقداً، وهو مع الجيران من الصحابة أكثر اعتناءً، فلم ينس جيرانه وهو أكثر الناس انشغالاً، وأفضلهم نفساً.
وكان لأبي حنيفة -رحمه الله- جار يعمل نهاره ويقضي ليله في اللهو والغناء، وكثيرا ما كان يزعج الإمام بجلبته، ويتغنى بقول الشاعر:
أضاعوني وأيَّ فتىً أضاعوا | ليومِ كريهةٍ وسدادِ ثَغْرِ |
ففقد الإمام صوته ذات مرة، وعلم أنه محبوس، فصلى الصبح، وذهب إلى الأمير فقابله وطلب الإفراج عن جاره، وأجابه الأمير وأفرج عن جاره. ولما خرجا قال له الإمام: هل أضعناك يا فتى؟ فقال: لا، بل حفظت ورعيت، جزاك الله عني خيرا وعن حرمة الجوار، وتاب ولم يعد إلى ما كان عليه.
وشكا بعض السلف كثرة الفأر في داره، فقيل له: لو اقتنيت هرا؟ فقال: أخشى أن يسمع الفأر صوت الهر فيهرب إلى دور الجيران فأكون أنا أحببت لهم ما لا أحب لنفسي.
وكان الجار ترعى حرمته، ويؤدى حقه، ويغض الطرف عن نسائه، وتحفظ محارمه، بل كان ذلك من شيم الجاهلية ومفاخر أهلها، حتى قالوا:
وما جارتي إلّا كأمّي وإنّني | لَأَحْفَظُهَا سِرّا وأحفظها جَهْرَا |
وأُغْضِي إذا ما جارتي بَرَزَتْ | حتّى يواريَ جارتي الخدْرُ |
وقد مر الإمام مالك على امرأة وهي تنشد تقول:
أنتَ خِلِّي وأنت حرمةُ جاري | وحقيقٌ عليَّ حفظُ الجوارِ |
إن للجار إنْ تغيَّبَ عيــــناً | حافظا للمغيب والأســرار |
ما أبالي إنْ كان للبـاب ستــرٌ | مُسْبَلٌ أم بقِي بغير ستــــار |
ولئن كان للجار قدر عند الأوائل، ففي الناس اليوم خير كبير، ودونك موقف وقع قبل أشهر يبين لك خلقاً لا تجده إلا في الإسلام، حين يعتني الجار بجاره ويسد نقصه وعوزه.
جاران متجاوران فَقَد أحدهما جاره فسأل أولاده عنه فأخبر بأنه مسجون لأجل دين عليه، فاتجه الجار مباشرة وباع سيارته التي لا يملك غيرها، واتجه من حينه للسجن ليسد الدين عن جاره، وما بقي من قيمة السيارة قسمه بينه وبين جاره، ورجع وقد ضحى بسيارته، وفك قيد جاره.
عباد الله: وبرغم نماذج الخير المتكاثرة، إلا أن حق الجار اليوم قد قُصِّر فيه، وانتقص منه، فلربما رأيت جارين لا يسلم أحدهما على الآخر إذا لقيه، ربما رأيت جاراً يؤذي جيرانه، ويطلع على حرماتهم، ويطالهم منه الأذى بسائر صوره، أصواتٌ منكره، وروائح مؤذية، نفاياته وسياراته وأولاده يشكو الجيران منهم، وفي الحديث الذي صححه الألباني، قِيلَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلاَنَةً تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ، وَتَفْعَلُ، وَتَصَّدَّقُ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ خَيْرَ فِيهَا"، وقال: "لا يدخل الجنة مَن لا يأمن جاره بوائقه".
وصار كثيرٌ من الناس يعدون أفاضل الجيران من كف شره وخيره، وكف الشر خير، لكن المؤمل بذل الخير، والموفق من قام بحق جيرانه، قربة لله، وطلباً لرضاه، وهرباً من سخطه، وقد قال السلف: من سعادة المرء الجار الصالح.
وبعد هذا؛ فكيف نؤدي حق الجار أيها الكرام؟ أمَا إن حق الجار يؤدى بأمور ثلاثة، من قام بها فهو خير الجيران.
فأولها: كف الأذى عنهم، فالجار الموفق لا يؤذي جاراً، ولا يضيق طريقاً، ولا يزعج أحداً بصوت ولا فعال، ولا أذى بطول البناء ولا الأبناء، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره".
وثاني الخصال احتمال الأذى، والتغاضي عن الزلات، والتغافل عن الهفوات، فمَن لم يتغافل عن القصور من جاره تعب وأتعب، فالقصور من طبع البشر، فربما طال بيتك أو أولادك أو سيارتك أذى منهم، والجار الموفق مَن تغافل وغض الطرف.
تعدى يوماً أولاد جار على ابن جارهم وأدموه، فلقيهم الجار بعدها ولم يتغير عليهم بِشْره، وعفى عنهم. فأين هذا ممن يصل إلى مراكز الشُرَط لأجل اعتداء ربما لم يكن مقصوداً؟ أو لربما هجر جاره لأجل أذى صدر من أحد أبنائه؟ بل وتعجب أن ترى بعض قطيعة الجيران بسبب ممارسة الأطفال!.
وثالث الأمور أن يطال جيرانك الإحسان منك والإكرام، فالجار الموفق طلق المحيا، محب مبتسم، يعود جاره إن مرض، يواسيه في أتراحه، ويهنئه في أفراحه، لا يغفل عن داره في غيبته، ويسد نقصه عن حاجته، ويفرج كربته، يسر لسروره، ويستر عليه عند قصوره، فإن وصل الأمر إلى زيارتهم، والاجتماع بهم فذاك خير إلى خير.
وبهذه الأمور يؤدى حق الجار، فاللهم وفقنا لأداء حق الجار، واغفر لنا القصور والزلل.
الخطبة الثانية:
عن أبي ذرّ -رضي الله عنه- قال: إنّ خليلي -صلى الله عليه وسلم- أوصاني: "إذا طبختَ مرقا فأكثر ماءه، ثمّ انظر أهل بيت من جيرانك، فأصبهم منها بمعروف" رواه مسلم.
إن القضية زيادة ماء فحسب، ولكن مثل هذا التهادي له أثر في إحداث الود والتصافي، وفي وصايا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- للنساء: "يا نساء المؤمنات، لا تحقر أحداكن لجارتها ولو فرسن شاة".
عباد الله: و"ليس المؤمن من بات شبعان وجاره طاوٍ"، قاله -صلى الله عليه وسلم-، فهل نتعاهد جيراننا من حيث الحالة المادية؟ فكم من جارٍ ربما كان ملاصقاً عنده من الحاجة والمسغبة ما لا يجد له مسدّاً، ومِن أولى الناس بمعروفك جيرانك.
عباد الله: ويبقى حق الجار الديني أمراً من آكَد الحقوق، بنصحه إن قصر، وتوجيهه إن عصى؛ فحق الجار إن كان عاصياً أن توجهه برفق، وتديم النصح بلطف، علّ قلباً أن ينفتح، ومُعرضاً أن يقبل.
وبعد: أيها الكرام، فما العناية من الإسلام بحق الجار إلا لأن ديننا يسعى لكل ما من شأنه تآخينا، ولئن كان البعض يرى أنه في غنى عن جيرانه ولا يحتاج لهم فإن القضية ليست مادية؛ بل الأمر أكبر من ذلك، فتصافي الجيران يترتب عليه تصافي المجتمع، ومن ثم الأمة، والعكس بالعكس، فهل نعتني بهذا الأمر؟ ونتقرب إلى الله بأداء حق الجيران؟ هذا هو المؤمل والمرتجى.
عباد الله: ولئن كان كل ما مضى هو في جار الدار فجار البلاد له حق بذل المعروف، وسدّ حاجه الملهوف، وإخواننا وجيراننا في بلاد الشام، وقد طال عليهم الكرب، واشتد عليهم الخطب، وتسلط عليهم الظالم، لهم حق الإسلام والجوار.
وقد أفتى مفتي المملكة بأن بذل المال لهم في الطعام والسلاح هو من الجهاد في سبيل الله، والجهاد من مصارف الزكاة، والفقر والمسكنه من مصارفها، فلا تبخل بصدقاتك، ولا تؤخر زكاتك، وابذل لهم ماتجده يوم تلقى ربك، وذاك جهاد بالمال، فتح اليوم له المجال، وهو طريق خير يوفق الله له كرام الرجال.