الشافي
كلمة (الشافي) في اللغة اسم فاعل من الشفاء، وهو البرء من السقم،...
العربية
المؤلف | عبدالله بن صالح القصير |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
إن أولاد الرجل من كسبه، وعملهم الصالح من عمله إن كان بسببه، ودعاؤهم من خير ما ينتفع به الأب بعد موته؛ وكم من أب كان مغموراً فصار مشهوراً، وبالخير مذكوراً، وحلّ في الجنة قصوراً، بسبب ابن اعتنى بتربيته، فأصلحه الله على يديه، فصار مباركاً على نفسه، وعلى والديه وذويه، وعلى الإسلام وأهله، ..
الحمد لله الذي خلقنا في أحسن تقويم، وربانا على موائد بره وخيره العميم وإحسانه العظيم، أحمده سبحانه إذ جعل لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها، وجعل بيننا مودة ورحمة، وجعل لنا من أزواجنا بنين وحفدة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل الأولاد فتنة يختبر بها العباد ليبين من يقوم بحقهم فيصونهم عن الفساد، ممن يضيعهم فيخسرهم ويشقى بهم في المعاش والمعاد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام الرسل، وخاتم الأنبياء، وخير الآباء، وأصلح الأبناء، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين هم خير صحب الأنبياء وهم بعدهم أئمة الأتقياء.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى في سائر أحوالكم، واشكروه على إنعامه عليكم، واذكروا قوله سبحانه: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) [النساء:11]. فاستوصوا بأولادكم خيراً، وأحسنوا إليهم يقابلوكم بذلك برًّا، وادخروا حسن تربيتهم ووقايتهم من النار عند الله تعالى ذخراً.
أيها المسلمون: إن أولاد الرجل من كسبه، وعملهم الصالح من عمله إن كان بسببه، ودعاؤهم من خير ما ينتفع به الأب بعد موته؛ وكم من أب كان مغموراً فصار مشهوراً، وبالخير مذكوراً، وحلّ في الجنة قصوراً، بسبب ابن اعتنى بتربيته، فأصلحه الله على يديه، فصار مباركاً على نفسه، وعلى والديه وذويه، وعلى الإسلام وأهله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، نسأل الله الكريم من فضله.
أيها المسلمون: إن صلاح الذرية كان محل اهتمام سادات النبيين والمرسلين وأتباعهم من عباد الله الصالحين، فهذا خليل الله إبراهيم يقول: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات:100]. كما ذكره الله في القرآن العظيم، ويلح على الله بسؤال الثبات له ولذريته على الإسلام، وأن يجنبهم عبادة الأصنام، فيقول: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [إبراهيم:40]. ويقول: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) [إبراهيم:35]. وذاك زكريا يضرع إلى الله يسأله صالح الأبناء فيقول: (قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) [آل عمران:38].
وذكر الله -عز وجل- عن عباد الرحمن الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً أنهم يقولون: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان:74].
وذكر -سبحانه- عن الذين وعدهم أن يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة التي كانوا يوعدون قول أحدهم: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الأحقاف:15].
فسؤال الله الذرية الصالحة من دعوات الأنبياء وخصال الأتقياء التي يتقربون بها إلى رب الأرض والسماء، ويدخرونها ذخراً في الدنيا والأخرى.
أيها المسلمون: ومما ذكره الله عن عباده من النبيين والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين اهتمامهم بتربية ذرياتهم بعد ثباتها على توحيد الله، والإخلاص له في الأقوال والأعمال وسائر الأحوال، وترك الشرك بذي الكرم والجلال، والبراءة مما عليه أهل الضلال، كما أثنى الله على خليله إبراهيم في القرآن العظيم (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة:130-132].
هكذا تثبيت على التوحيد، وتربية عليه، ووصية به، بل تتعدى إلى الامتحان للتأكد من سلامة الاعتقاد حذراً من الرديء في الدنيا ويوم القيامة (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة:133]. وكل ذلك خوفاً من الندامة، وطلباً لأنواع الكرامة في الدنيا ويوم القيامة.
فإن الصالحين من الوالدين والبنين يجمعهم الله في دار كرامته كما قال -سبحانه-: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور:21]. وقال عز من قائل: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد:23-24].
فاتقوا الله -أيها المسلمون-، ونفذوا وصية الله في أولادكم، لعلكم بهم تسعدون في الحال والمآل، فضلاً من ذي الكرم والجلال. واعلموا أن صلاح الذرية له أسباب يعقلها الوالدان؛ من أهمها: التربية الصالحة، والقدوة الحسنة، والدعاء بالصلاح، وتوفير وسائل الإصلاح.
كما أن فساد الذرية من أسبابه: الإهمال، والقدوة السيئة، والغفلة عن صالح الأعمال، والاستهانة بقرناء السوء وأعمال أهل الضلال.
فاتقوا الله في ذرياتكم، ومروهم بطاعة الله كما أمركم (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه:132].
وجنبوهم أسباب غضب الجبّار، والتعرض لعذاب النار مع الكفار (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6].
ولعل فيما ذكره الله تعالى من موعظة لقمان عليه السلام لابنه بأسس العقائد وأسباب الصلاح والفلاح في المعاد، وأخلاق أهل الرشاد، ما يبين لكم الصراط المستقيم في تربية الذرية على الدين القويم والخلق المستقيم (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان:13-19].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الهدى والبيان، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المؤمنين.