المقتدر
كلمة (المقتدر) في اللغة اسم فاعل من الفعل اقْتَدَر ومضارعه...
العربية
المؤلف | منصور محمد الصقعوب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
تلك أبوابٌ من الصدقات، ومنافذ للقربات، مُوفَّقٌ من تلمَّسَها، ومغبونٌ مَن حُرِمها، وفائزٌ مَن أحسن النية فيها، والناس لايتمايزون في القيام بها؛ بل في احتساب الأجر والصدقة فيها، وجماع الأمر أن كل معروف صدقة، ويوم أن يرحل المرء من دنياه وتكشفَ له صحائف أعماله في أخراه يتبين للمرء قدرُ الصدقات المهجورة، فهنيئاً لمن تصدق بماله وبفعاله، وبنواياه وبأقواله، فملأ صحائفه بالصدقات، والمرء في ظل صدقته يوم القيامة ..
إن الحمد لله نحمد ونستعينه...
أما بعد: فاتقوا الله -معاشر المسلمين-، وراقبوا المولى في السر والنجوى...
عباد الله: كثيراً مايطرق أسماعنا الندبُ إلى الصدقة، والحثُ على البذل، ونسمع في الأحاديث الترغيبَ في التصدق، وأن الصدقة برهان، وأنها دليل على صدق الإيمان، وأن في الجنة باباً لمن كان من أهل الصدقة، فنظن حينها أن الصدقة لا تكون إلا بالمال، فتنكسر قلوب الفقراء، لأنهم يظنون أن الصدقة حكرٌ على الأغنياء، ولَربما شح الغني، أو احتاج الواجد، أو أراد الراغب أن يزيد في الإنفاق، وهنا يأتي الباب الذي قد نغفل عنه كثيراً حينما قصرنا الصدقة على إنفاق المال، ولاشك أنها من أشرف الصدقات.
ولكن؛ ثمة أبواب أخرى من الصدقات يقدر عليها الغني والفقير، ولها من الفضيلة الأجرُ الكثير، ويُحرم المرء خيرا حين لايلج أبوابها، ولايتصدق عن طريقها، ولقد توافرت النصوص من أقوال الرسول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- مبينةً أمورا قد نعملها ونغفل عن احتساب الأجر فيها ونيةِ الصدقة.
في الصحيح؛ عن أبي ذر أن الفقراء من الصحابة جاؤوا إلى رسول الله يحدوهم الرغبة في المسابقة للطاعة والجنة؛ لكنهم يرون أصحاب الجِدة يتسابقون للبذل، وأمّا هم فلا يجدون، فجاؤوا إلى رسول الله قائلين له: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم.
فقال لهم رسول الله; جابرا لخواطرهم، وموسعا لدائرة الصدقة في نفوسهم: "أو ليس قد جعل الله لكم ما تتصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأَمْرٌ بالمعروف صدقة، ونهْيٌ عن منكر صدقة، وفي بُضْعِ أحدكم صدقة". قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال أرأيتُم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" رواه مسلم.
ودعونا اليوم نعرض صوراً من الصدقات التي نقدر عليها، وفي ذات الوقت قد نغفل عنها، ولاتكلفنا مالا، وفي ذات الوقت تكسبنا أجرا.
فمِن هذه الصدقات: يوم أن ترى من فاتته الصلاة ولم يجد من يصلي معه فمن الصدقة أن تقوم معه ليكسب أجر الجماعة، ولَعَمْري! فذلك له أجرٌ أعظمُ من كثير من الأموال، في الحديث؛ عن أبي سعيد، قَالَ -صلى الله عليه وسلم- بِأَصْحَابِهِ الظُّهْرَ، قَالَ: فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: مَا حَبَسَكَ يَا فُلَانُ عَنْ الصَّلَاةِ؟ قَالَ: فَذَكَرَ شَيْئًا اعْتَلَّ بِهِ، قَالَ: فَقَامَ يُصَلِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّيَ مَعَهُ قَالَ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَصَلَّى مَعَهُ" رواه أحمد وأبو داود.
ويوم أن يكون المرء في الضُّحَى في ذروة انشغال الناس بأعمالهم، فيقوم المرء حينها تاركاً شغله، مقبلا على ربه ليركع لله ركعتين في الضحى، فإن ذلك من جلائل الصدقات والقربات، وفي أقوال الرسول الكريم: "يُصبح على كُلِّ سُلَامي من أحدكم صدقة: فكُلُّ تسبيحةٍ صدَقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأَمْرٌ بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى" رواه مسلم.
عباد الله: ونحن نواجه تيارا من المنكرات فثمة باب للصدقة يحتاج من كل مسلم أن يلجه ألا وهو باب الأمر بالمعروف والإنكار على من وقع في المنكرات، ندب إلى ذلك رسول البشرية; فقال: "وأمْرٌ بالمعروف صدَقة، ونهْيٌ عن المنكر صدقة"، ولئن كان الفقراء يحتاجون للصدقة بالمال؛ فإن الصدقة بالأمر بالمعروف يحتاجها كل مسلم، فما هو نصيبنا من هذا الباب الذي ميدانه أسواقنا وطرقاتنا وبيوتنا وسائر محالّنا؟ إنها صدقة يتصدق بها المرء على نفسه، وينقذ بها أخاه ومجتمعَه من الغرق في بحر الغفلة، فهنيئاً لمن حملوا على عواتقهم واجب الأمر بالمعروف، فلهم من الصدقة نصيب وافر إنْ خلصت النيات.
عبد الله: وحجر تجده على الطريق فتزيله، ضعيف تحمل معه، كبير تساعده، وامرؤٌ مسلم تعينه على عمله، فتلك أبواب من الصدقات لمن رغب في الزيادة، روت عائشة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمَن كبر الله وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفر الله، وعزل حجرا أو شوكة أو عظما من طريق الناس، وأمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة السلامى؛ فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار".
ويوم أن تلهج بالتسبيح والتحميد والتهليل وتصدع بالذكر والدعاء فذاك لعمري صدقة من عظيم الصدقات، تتصدق بها على نفسك، ترفع لك ذكرك في الدنيا وعند رب الأرباب، وتسعد بها يوم المآب، فأكثر من الصدقات في أوقات فراغك وأشغالك، وحين ينتقي المرء من الكلام أطيبه ليخاطب إخوانه، فإذا تحدث لم يجرح بحديثه، وإذا تكلم أحسن الحديث، فذاك باب من أبواب الصدقة قال عنه المصطفى: "الكلمة الطيبة صدقة".
وإذا أمسك عن الشر فلم يؤذ أحدا بيده وفعله، وكف عن الناس شَرِّه، فتلك صدقه يُحرمها الذين لايسلم الناس من أذاهم بالقول أو الفعل، وفي الحديث: "فلْيُمْسِكْ عن الشر؛ فإنه له صدقة".
أيها المبارك: وشجرة تغرسها، أو نخلة تتعاهدها، وثمرة تسقيها، وغصن تواليه فيأكل منه انسان أو طير أو حيوان؛ فإن ذلك من الصدقات، فاحتسب ياصاحب الأشجار والبستان، وافرح، فكم من طير كان قوته من شجرك، وفي الحديث؛ أن رسول الله قال: "ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة".
وعند مسلم أن رسول الله دخل على أم معبد حائطا فقال: "يا أم معبد، مَن غرَس هذا النخل؟ أمسلم أم كافر؟" فقالت: بل مسلم. قال: "فلا يغرس المسلم غرسا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة".
ويوم أن تُضَيِّف مسلما ضيافةً مستحبة، وتدعوه إلى بيتك فتكرمه حين دعوته وتحسن إليه إذا أتاك، فتلك صدقة من الصدقات إن كانت المقاصد طيبةً ولم يُرد بالضيافة طلبُ محمدة وفخر، وفي الحديث: "الضيافة ثلاثة أيام، فما سوى ذلك فهو صدقة".
والكنز الذي لايكلف درهماً، والطريق إلى القلوب بلا استئذان الابتسامة، في وجه من تقابل من المسلمين صدقة من الصدقات، وفي مقول الرسول: "وتبسمك في وجه أخيك صدقة"، وإلى الذين عبست وجوههم، واكفهرت ملامحهم، ولم تعرف الابتسامة لوجوههم طريقاً فحرموا ذلك الخُلق وذلك الأجر، أما إن رسولكم عليه السلام لم يكن هكذا، بل كانت الابتسامة تعلو وجهه إذا ما قابل أصحابه، حتى قال جرير: "ما رآني رسول الله إلا تبسم في وجهي"، بل قال عبد الله بن الحارث: ما رأيت أحدا أكثر تبسُّمَاً من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رواه الترمذي وحسنه.
عبد الله: ويوم أن ترى أخاك محتاجاً لمالٍ لنائبة من نوائب الدنيا فتمد يدك لتقرضه بلا منّ ولا أذى فذلك باب من أبواب الصدقة، وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن أقرض رجلا مسلما دراهم مرتين، كان له أجر صدقتها مرة واحدة"، أي: كأنه تصدق بها. رواه البيهقي وصححه ابن حبان؛ ولذا قال ابن مسعود: لأن أقرض مرتين أحب إلي من أن أتصدق به مرة.
ولقد كان ذلك هدي الإخوان حين كانت الأخوة صافية، والنفوس من أطماع الدنيا خاليه، قال الغزالي: والمواساة بالمال مع الأخوة على ثلاث مراتب: أدناها أن تنزله منزلة عبدك أو خادمك فتقوم بحاجته من فضلة مالك، فإذا سنحت له حاجة وكانت عندك فضلة عن حاجتك أعطيته ابتداء ولم تحوجه إلى السؤال، فإن أحوجته إلى السؤال فهو غاية التقصير في حق الأخوّة.
وإنظار المعسر حين يحلّ أوان سداد دينه صدقة، وبها تفريج كربة، قال عنها رسول الله; كما في حديث بريدة الأسلمي: "مَن أنظره بعد حله كان له مثله في كل يومٍ صدقة" رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
وبعد هذا يقال: إنَّ كُلَّ معروف تُسديه لمخلوق صغُر أو كبر بقول أو فعل فهي صدقة من الصدقات تودع في صحيفة الحسنات، وفي الحديث: "كُلُّ معروفٍ صدَقَةٌ، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك".
شفاعتك لإخوانك، صلة أرحامك نصحك المستنصح، والقيام بحق جيرانك، وسقيك العطشان، وإطعام الجوعان، وإحسان أخلاقك، وسلامك على المسلمين ومساعدة كل محتاج من إنسان أو طير أو حيوان فتلك صدقات بين أيدينا، قد أشرعت أبوابها لمن رامها، فمَن منَّا يعجز عنها، مَن مِنا مَن يعجز عن كلمةٍ طيبة، أو تسبيحةٍ، وتهليله، أو حتى نيَّةٍ حسَنَةٍ، وربما كانت نية المؤمن أبلغ من عمله، جعلَنا الله من أهل الصدقة، ورزقنا المسارعة للطاعة".
وأقول ماسمعتم...
الخطبة الثانية:
في زمن غلاء المعيشة، وتنوُّع متطلبات الحياة؛ فإن من أبواب الصدقة العظيمة الإنفاق على الأهل والقيام على حوائجهم، فهو باب من أبواب الصدقة؛ بل من كريم الصدقات وخيرها، قال عنه رسول الله;كما في حديث ثوبان: "أفضلُ دينارٍ يُنفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله" رواه مسلم.
قال أبو قلابة: وبدأ بالعيال، ثم قال أبو قلابة، وأي رجل أعظم أجراً مِن رجل ينفق على عيال صغار يُعِفُّهم، أو ينفعهم الله به ويغنيهم.
فإطعام الأهل وكسوتهم وسكناهم وخدمتهم صدقة من القربات الباقية وليست من النفقات الضائعة، يتقرب بها إلى الذي توعد على التفريط في رعايتهم؛ بل قال رسول الله: "دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجرا للذي أنفقته على أهلك" رواه مسلم.
وهو درس نبوي يعلمنا كيف نرتب النفقات والصدقات، ونقدم المهم فالمهم، وفي الحديث عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:" مَا أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ وَلَدَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ زَوْجَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ خَادِمَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ" رواه أحمد.
إنها كلمات تهدى لمن تبرَّم من الإنفاق، ولمن ضيع مَن يعول وضيق عليهم في رزقهم وأحوجهم مع جِدته إلى تكفف الناس.
ومع هذا: فليس المراد أن يكون إنفاقاً بسرَفٍ وبذَخٍ، فذاك أمر ذمه الله ورسوله، وإنما أن يكون الإنفاق بالمعروف، ولكل بيت وشخص وزمان حاجته، ولا يُقِرُّ الشرع مَن يبالغ في الإنفاق والتباهي والسرف، ثم هو يحتج بمثل هذه الأحاديث؛ فالله لايحب المسرفين.
ومن القصور أن نرى الإنفاق على الأهل هو في طعامهم وشرابهم على أهمية ذلك؛ بل مثل ذلك في الأهمية النفقة على تربيتهم واستصلاحهم وتغذية عقولهم، وذاك أمر أغفله كثير من الآباء، والإحسان إلى الزوجة، والقيام بحقها، والتلطف معها صدقة يحسن الزوج بها لمن جعلها الله تحت يده؛ ولأن الرجال أغلب، والطغيان من الغالب قد يقع؛ ولأن المرأة تحتاج للرفق واللطف رغب الشرع في الإحسان إليها، حتى عدّ اللقمة يضعها الزوج في فم زوجته صدقة، وقال: "في بُضْعِ أحدكم صدقة"، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك.
وبعد معاشر الكرام: تلك أبوابٌ من الصدقات، ومنافذ للقربات، مُوفَّقٌ من تلمَّسَها، ومغبونٌ مَن حُرِمها، وفائزٌ مَن أحسن النية فيها، والناس لايتمايزون في القيام بها؛ بل في احتساب الأجر والصدقة فيها، وجماع الأمر أن كل معروف صدقة، ويوم أن يرحل المرء من دنياه وتكشفَ له صحائف أعماله في أخراه يتبين للمرء قدرُ الصدقات المهجورة، فهنيئاً لمن تصدق بماله وبفعاله، وبنواياه وبأقواله، فملأ صحائفه بالصدقات، والمرء في ظل صدقته يوم القيامة.