اللطيف
كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...
العربية
المؤلف | محمد الصادق مغلس |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
وهنالك نساء كن محجبات تركن الحشمة والحجاب، ولم يكتفين بذلك، بل أخذن في ذم الحجاب، وأنه ليس من الإسلام، بزعم التأصيل لانحرافهن، ومارسن الجلوس مع الرجال ومصافحتهم والتطاول للولاية العامة، ودخول القنوات بحيث يعرضن صورهن كي يراها الملايين، فهل ذلك...
الخطبة الأولى:
عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا استوى على بعيره خارجًا إلى سفر كبر ثلاثًا ثم قال: "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل". وإذا رجع قالهن. وزاد فيهن: "آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون". رواه مسلم.
ثم قال: حدثني زهير بن حرب حدثنا إسماعيل ابن علية عن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر وكآبة المنقلب، والحور بعد الكور، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال".
وحدثنا يحيى بن يحيى وزهير بن حرب جميعًا عن أبى معاوية (ح) وحدثني حامد بن عمر حدثنا عبد الواحد كلاهما عن عاصم بهذا الإسناد. مثله، غير أن في حديث عبد الواحد: "في المال والأهل".
وفى رواية محمد بن خازم قال: "يبدأ بالأهل إذا رجع".
وفى روايتهما جميعًا: "اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر". هذا كله في مسلم.
وعند غير مسلم: عن عبد الله بن سرجس قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا سافر قال: "اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب، ومن الحور بعد الكون، ومن دعوة المظلومين ومن سوء المنظر في الأهل والمال". رواه أحمد والنسائي في "الكبرى" والترمذي وعبد الرزاق وغيرهم.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ويروى "الحور بعد الكون" أيضًا، ومعنى قوله: "الحور بعد الكون أو الكور"، وكلاهما له وجه، يقال: إنما هو الرجوع من الإيمان إلى الكفر، أو من الطاعة إلى المعصية، إنما يعني من الرجوع من شيء إلى شيء من الشر.
وعند أحمد: سئل عاصم عن الحور بعد الكور، قال: حار بعد ما كان.
وفي شرح حديث مسلم عند النووي: "كان إذا استوى على بعيره خارجًا إلى سفر كبر ثلاثًا ثم قال: "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين...". إلخ.
ومعنى مقرنين: مطيقين، أي:" ما كنا نطيق قهره واستعماله لولا تسخير الله تعالى إياه لنا، وفي هذا الحديث استحباب هذا الذكر عند ابتداء الأسفار كلها، وقد جاءت فيه أذكار كثيرة جمعتها في كتاب الأذكار".
"والحور بعد الكون" هكذا هو في معظم النسخ من صحيح مسلم بالنون، بل لا يكاد يوجد في نسخ بلادنا إلا بالنون، وكذا ضبطه الحفاظ المتقنون في صحيح مسلم؛ قال القاضي: وهكذا رواه الفارسي وغيره من رواة صحيح مسلم، قال: ورواه العذري: "بعد الكور" بالراء، قال: والمعروف في رواية عاصم الذي رواه مسلم عنه بالنون.
قال القاضي: قال إبراهيم الحربي: يقال: إن عاصمًا وهم فيه، وأن صوابه الكور بالراء، قلت: وليس كما قال الحربي، بل كلاهما روايتان، وممن ذكر الروايتين جميعًا الترمذي في جامعه وخلائق من المحدثين، وذكرهما أبو عبيد وخلائق من أهل اللغة وغريب الحديث.
قال الترمذي بعد أن رواه بالنون: ويروى بالراء أيضًا، ثم قال: وكلاهما له وجه، قال: ويقال هو الرجوع من الإيمان إلى الكفر، أو من الطاعة إلى المعصية، ومعناه الرجوع من شيء إلى شيء من الشر.. هذا كلام الترمذي، وكذا قال غيره من العلماء، معناه بالراء والنون جميعًا: الرجوع من الاستقامة أو الزيادة إلى النقص.
قالوا: ورواية الراء مأخوذة من تكوير العمامة وهو لفها وجمعها، ورواية النون مأخوذة من الكون مصدر كان يكون كونًا إذا وجد واستقر، قال المازري في رواية الراء: قيل أيضًا: إن معناه أعوذ بك من الرجوع عن الجماعة بعد أن كنا فيها، يقال: كار عمامته إذا لفها، وحارها إذا نقضها، وقيل: نعوذ بك من أن تفسد أمورنا بعد صلاحها كفساد العمامة بعد استقامتها على الرأس.
وعلى رواية النون قال أبو عبيد: سئل عاصم عن معناه فقال: ألم تسمع قولهم: حار بعد ما كان، أي: أنه كان على حالة جميلة فرجع عنها. والله أعلم. قال تعالى: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا) [النحل:92]". انتهى كلام النووي بتصرف.
ومن شرح الحديث كما في "المفهم": "الصاحب؛ أي: أنت الصاحب الذي تحفظنا بحفظك ورعايتك.
والخليفة؛ أي: الذي تخلفنا في أهلينا بإصلاح أحوالهم بعد مغيبنا، أو انقطاع نظرنا عنهم.
ولا يسمى الله تعالى بالصاحب، ولا بالخليفة؛ لعدم الإذن، وعدم تكرارهما في الشريعة". اهـ.
ومن شرح الحديث كما في "تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم": "وعثاء السفر: شدته ومشقته، وأصله من الوعث، وهو الرمل الرقيق الذي تغوص الرجل فيه، ويشتد المشي عليه، ثم جعل ذلك لما يشق ويؤلم.
الكآبة: تغير النفس والانكسار من الحزن والهم، يقال: رجل كئيب أي: حزين، ويقال: كأبة وكابة بتخفيف الهمزة وإسكان الألف مثل رأفة ورافة". اهـ.
وفي أيامنا هذه فوجئنا على سبيل المثال بمنشد إسلامي معروف كان يمتنع من حضور أماكن الموسيقى والإيقاع، ومرت الأيام وإذا به يتحول إلى الغناء والموسيقى، ويزعم أنه تحول من الحسن إلى الأحسن -أي: أنه يزعم التأصيل لانحرافه- ومن قبله تحول عديدون كانوا قراء قرآن وحفظة ومؤذنين إلى مغنين ولا قوة إلا بالله.
وهنالك نساء كن محجبات تركن الحشمة والحجاب، ولم يكتفين بذلك، بل أخذن في ذم الحجاب، وأنه ليس من الإسلام، بزعم التأصيل لانحرافهن، ومارسن الجلوس مع الرجال ومصافحتهم والتطاول للولاية العامة، ودخول القنوات بحيث يعرضن صورهن كي يراها الملايين، فهل ذلك العرض منهن لكي يغض الناس عنهن أبصارهم المأمور به قطعًا في الكتاب والسنة؟!
وهنالك علماء تراجعوا عن تمسكهم بالانضباط الدقيق بالشرع، وعن اجتناب المناهج المريبة وعن اتقاء الشبهات والتنازلات، بزعم الحكمة وعدم التشدد حتى لا يقع العزل للخطاب الإسلامي، ونسي هؤلاء أنه في زمان الغربة لا يقع العزل فحسب، وإنما قد يقع الإيذاء والسجن وربما القتل، فهل نتنازل عن الإسلام من أجل مزعوم عدم عزل الإسلام؟! منطق غريب!!
ولأن العلماء في مقام القدوة، فقد كان هؤلاء سببًا في انحراف كثير من الناس بأفعالهم وفتاواهم، فهنالك مثلاً من يقابل النساء في القنوات، ومن يزعم مساواتهن بالرجال ويزعم أن لهن حقًّا في الولاية على الرجال!!
وهنالك من يتورط في الفتاوى الخطيرة التي قد تتناول الأموال والدماء والأعراض، إرضاءً للحكام أو للجماهير، وهنالك من يروج للمناهج المستوردة كليًا أو جزئيًا.
وهنالك من يختطف الأضواء كما فعل من زاروا الدنمرك عقيب الإساءة هناك إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فعلوا ذلك شذوذًا رغم اتفاق العلماء على المقاطعة، وكذلك من زار القدس هذه الأيام إبان صلف الاحتلال والإصرار على عمران مساكن لليهود في القدس على حساب تخريب مساكن المسلمين، والإصرار على تهويد الأقصى نفسه!! وهذه الزيارة يحرص عليه اليهود والذين في فلكهم، ذرًّا للرماد على العيون، وكأنه لا يوجد ما يسبب مقاطعة إجراءات السفر.
وهنالك من يلفت الأنظار بالفتاوى الغريبة، والمسارعة في التقارب مع أهل الكتاب في مثل السماح بالموسيقى والغناء وأنه يسمع شخصيًا المغنية فلانة أو فلانة، وتجويز عطلة السبت، ونصرة الظلمة، وتعطيل الجهاد، وعدم تسمية الكافرين كافرين، وإنكار حد الرجم، وإنكار حد الردة.
وهنالك من يزعم أن الديمقراطية هي أفضل ما وصل إليه العقل البشري، وأن فيها ما يتفق مع الإسلام!! وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا نكتفي بالإسلام؟! والله يقول: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) [العنكبوت:51]، ويقول سبحانه: (صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً) [البقرة:138]، وهل كان المسلمون قبل الديمقراطية ناقصين طوال أربعة عشر قرنًا.
وسيرًا مع الديمقراطية هنالك من يزعم أن الاجتهاد لكل الناس وليس للعلماء المجتهدين، وأن الإجماع إجماع الناس وليس إجماع المجتهدين، وأن للناس أن يختاروا أن يحكمهم الإسلام أو غيره، وأن يحكمهم مسلم أو غير مسلم، وأنها سقطت شرعية الفتح وحلت محلها شرعية المواطنة، يعني: التي يتساوى فيها المسلم والكافر.
الخطبة الثانية:
وهنالك من العلماء من قد يرتد عن الدين -والعياذ بالله- كما فعل القصيمي؛ قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) [الأعراف:175].
والحال قريبة من حال أمية بن أبي الصلت وأبي عامر الراهب.
وقال سبحانه: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63].
وأخطر الحور حور العلماء، فما تحرفت الأديان إلا بهم، قال تعالى: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ) [التوبة:31]، وعندما سمعها عدي بن حاتم، وكان نصرانيًا، جاء ليسلم، فقال: يا رسول الله: ما عبدوهم، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بلى، إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال؛ فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم". أخرجه الترمذي وذكر الألباني أنه حسن.
قال ابن المبارك:
وهل أفسد الدين إلا الملوك | وأحبار سوء ورهبانها |
وبعض العلماء يتبعون سنن من كان قبلهم كما في الحديث المتفق عليه، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ من الحور بعد الكور ويقول: "يا مقلب القلوب"، والله يقول: (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) [الأنفال:24].
قال البخاري: باب مقلب القلوب، وقول الله تعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ) [الأنعام:110] عن ابن المبارك عن موسى بن عقبة عن سالم عن عبد الله قال: أكثر ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحلف: "لا ومقلب القلوب".
وأخرج الترمذي عن أنس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب: ثبت قلبي على دينك، فقلت: يا رسول الله: آمنا وبك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟! قال: "نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبهما كما يشاء".
قال أبو عيسى: وفي الباب عن النواس بن سمعان وأم سلمة وعبيد الله بن عمرو وعائشة، وروى بعضه عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحديث أبي سفيان عن أنس أصح. قال الألباني: صحيح. ورواه كذلك أحمد، وقال الأرناؤوط أيضًا: صحيح.
وعند أحمد ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء". ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك".
عن وابصة قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أريد أن لا أدع شيئًا من البر والإثم إلا سألته عنه، وحوله عصابة من المسلمين يستفتونه، فجعلت أتخطاهم قالوا: إليك يا وابصة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قلت: دعوني فأدنو منه فإنه أحب الناس إليّ أن أدنو منه، قال: "دعوا وابصة! ادن يا وابصة!". مرتين أو ثلاثًا، قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه فقال: يا وابصة: أخبرك أو تسألني، قلت: لا، بل أخبرني، فقال: جئت تسألني عن البر والإثم، فقلت: نعم، فجمع أنامله فجعل ينكت بهن في صدري ويقول: "يا وابصة: استفت قلبك، واستفت نفسك". ثلاث مرات، "البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك". رواه أحمد بإسناد حسن، كما قال الألباني. فالحذر الحذر، لاسيما ونحن في زمن فتنة الدهيماء التي يتمايز فيها الناس إلى فسطاطين.
وليس كل العلماء منهزمين!! فهنالك علماء ربانيون يقيم الله بهم الحجة في كل زمان، ومن ذلك زمان الغربة الذي نعيشه، قال تعالى: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف:181].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين". رواه البيهقي وغيره وذكر الألباني أنه صحيح.
وفي الختام يقول سبحانه: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) [هود: 112].