العربية
المؤلف | أحمد بن عبد العزيز الشاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الزهد - الحياة الآخرة |
إن الذي يعيش بلا عقيدة في الآخرة يعيش في عذاب نفسي لا أمل له، ولا رجاء ولا عدل ولا جزاء ولا عوض عما يلقاه في الحياة.. ففي الحياة مواقف وابتلاءات لا يقوى الإنسان على مواجهتها إلا وفي نفسه رجاء الآخرة وثوابها للمحسن، وعقابها للمسيء، وابتغاء وجه الله، والتطلع إلى رضاه في ذلك العالم الآخر الذي لا تضيع فيه صغيرة ولا كبيرة.. وإن الإيمان بالآخرة يؤدي دوره الأساس في إفاضة الأمن على روح المؤمن وعالمه، ونفي القلق والسخط والقنوط ..
الحمد لله الغفور الشكور يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك يحيي الموتى، ويبعث من في القبور، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي الشكور الصبور، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه دعاة الهدى والنور وسلم تسليمًا.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله ربكم (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) [البقرة: 48].
يعيش المؤمن في دنياه في همّ وعناء يصارع الابتلاءات والأدواء، ويعاني من ظلم وكيد الأعداء ويتذوق الفقر واللؤم، ويموت ولم يذق من الحياة زينتها، ولم يتذوق من الشهوات طيبها.
يعيش المجرمون في رغد من العيش يستعبدون الناس يقتلون فريقًا، ويؤثرون فريقًا، قد حِيزت لهم الدنيا بحذافيرها، يحاربون دين الله ويؤذون أولياء الله، ثم يفارقون الحياة، ولم يجدوا على طغيانهم عقابًا، ولم يروا حسابًا ولا عذابًا.
يعيش الداعية والمحتسب يقاوم الفساد والانحلال، ويقابل بالظلم والإذلال، ويغادر الحياة دون أن يذهب غيظ قلبه، ويشفي صدره ممن ظلمه؛ فهل ربنا يخذل أوليائه؟! حاشاه ربي وهو الحكم العدل الذي قضى وحكم وسنته لا تتبدل (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر: 51].
وقضاءه لا يتحول (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) [إبراهيم: 42].
أجل، فالله هو الحكم العدل، وربك لا يخلف الميعاد، لكنه لم يجعل الدنيا دارًا للمكافأة والجزاء، ولا محلاً للثواب والعقاب، وإنما أخّر ذلك ليوم موعود (ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) [التغابن: 9] يوم يقوم الناس لرب العالمين، وما يرسله من عقوبات عاجلة، فإنما هي جنة في مقابل عذاب يوم عظيم.
إن الذي يعيش بلا عقيدة في الآخرة يعيش في عذاب نفسي لا أمل له، ولا رجاء ولا عدل ولا جزاء ولا عوض عما يلقاه في الحياة..
وفي الحياة مواقف وابتلاءات لا يقوى الإنسان على مواجهتها إلا وفي نفسه رجاء الآخرة وثوابها للمحسن وعقابها للمسيء وابتغاء وجه الله، والتطلع إلى رضاه في ذلك العالم الآخر الذي لا تضيع فيه صغيرة ولا كبيرة.
إن الإيمان بالآخرة يؤدي دوره الأساس في إفاضة الأمن على روح المؤمن وعالمه، ونفي القلق والسخط والقنوط.
إن الحساب الختامي والجزاء الأكبر ليس في هذه الأرض، والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة، إن الحساب الختامي هناك، والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب؛ فلا ندم على الخير والجهاد في سبيل الله إذا لم يتحقق في الأرض أو لم يلق جزاء..
ولا قلق على الأجر إذا لم يوفَّ في هذه العاجلة بمقاييس الناس فسوف يوفى بميزان الله (وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [إبراهيم: 47].
الإيمان بالآخرة حاجز دون الصراع المحموم الذي تداس فيه القيم وتداس فيه الحرمات بلا تحرج ولا حياء، فهناك الآخرة فيها عطاء وفيها غَنَاء، وفيها عوض عما يفوت..
الإيمان بالآخرة هو الضمان ليقظة القلب وتطلعه إلى ما عند الله واستعلائه على أوهاق الأرض وترفعه على متاع الدنيا، ومراقبة الله في السر والعلن، وفي الدقيق والجليل والوصول إلى درجة الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك..
إنه ليس شيء يدفع للعمل والبذل والعطاء والإخلاص ولا شيء يردع عن العصيان والتقصير والطغيان مثل تذكر ذلك اليوم الذي يجعل الولدان شيبًا..
أو لم يكف ذلك اليوم شدة وهولاً أن الشمس فيه تكور والنجوم تنكدر والبحار تسعر والجبال تسير والعشار تعطل والوحوش تحشر.. و(تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج: 2].
أو ليس كافيا في شدته أنه يوم تنشغل فيه كل نفس بأمرها ولا تتلفت إلى سواه (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [النحل: 111].
والتبعة فردية والحساب شخصي، وكل نفس مسئولة عن نفسها ولا تغني نفس عن نفس شيئًا، التبعة فردية فلا تنال نفس إلا ما كسبت ولا تحمل إلا ما اكتسبت (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم: 93- 95].
هول ذلك اليوم يقطع أواصر الرحم والنسب، ويشغل الوالد عن الولد، ويحول بين المولود والوالد، وتقف كل نفس فيه وحيدة فريدة مجردة من كل عون، ومن كل سند، موحشة من كل قربة، ومن كل وشيجة.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا) [لقمان: 33]، إنها تبعة كل نفس لذاتها وعلى ذاتها، وللنفوس أن تختار طريقها ومصيرها وهي مأخوذة بما تكسبه باختيارها مرهونة بأعمارها وأوزارها (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ * كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدثر: 37- 38].
كل فرد يحمل هم نفسه وتبعتها ويضع نفسه حيث شاء أن يضعها يتقدم بها أو يتأخر يكرمها أو يهينها فهي رهينة بما تكسب مقيدة بما تفعل (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [النازعات: 37] .
أولم يكف من أهوال ذلك اليوم أنه يوم الفصل لا يوم الاعتذار (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات: 35- 36] في ذلك اليوم لا ترى إلا الصمت الرهيب والكبت الرعيب، والخشوع المهيب الذي لا يتخلله كلام، ولا يقطعه اعتذار، فاليوم يوم العقاب والجزاء لا يوم العتاب..
في ذلك اليوم الرهيب لا ترى إلا البكاء والعويل والأمنيات والتوسلات ما أكثر من يقول (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا) [المؤمنون: 99- 100] وما أكثر من يقول (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الزمر: 58] وما أكثر من يقول (لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون: 10].
إنه مشهد الخذي والاعتراف بالخطيئة والإقرار بالحق الذي طالما ناسوه أو جحدوه (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) [السجدة: 12].
ما أعظمه من يوم يتجلى فيه الرب جل جلاله، ويتولى الحكم والفصل والملائكة تقف صفًّا صفًّا ثم يجاء بجهنم فتقف هي الأخرى متأهبة..
(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ) يومئذ يتذكر الإنسان ويتعظ، يومئذ يتذكر الإنسان الحق ويتعظ بما يرى ولكن بعد فوات الأوان، (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) [الفجر: 23] وحين تتجلى الحقيقة يقول (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر: 24] هنا فهي الحياة الحقيقة..
إنها الآمال والأماني الضائعة (فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [الأعراف: 53] !! ولكن يا حسرة على العباد تتاح لهم فرص النجاة فيعرضون عنها، ويفتح الله لهم أبواب رحمته ولكنهم يتجافون أبواب الرحمة وهو يناديهم (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) [الشورى: 47].
ما أعظم ذلك اليوم (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلاً) [المزمل: 14] (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) [المزمل: 17- 18].
ما أعظم ذلك اليوم الذي ترى فيه الأنبياء على جلالة قدرهم وندائهم وشعارهم «ربِّ سَلِّمْ سَلِّمْ»
ما أعظم ذلك اليوم حين تقع الواقعة (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ) [الواقعة: 2- 3] تخفض أقدارًا كانت رفيعة في الأرض، وترفع أقدارًا كانت خفيضة في دار الفناء، حيث تختل الاعتبارات والقيم ثم تستقيم في ميزان الله.
ما أعظم ذلك اليوم (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا) [طه: 108] ويخيم الصمت الرهيب والسكون الغامر ويخيم الجلال على الموقف كله وتغمر الساحة التي لا يحدها البصر تغمرها رهبة وصمت وخشوع، والسؤال تخافت، والخشوع ضاف، والوجوه عانية، وجلال الحي القيوم يغمر الوجوه بالجلال والظالمون يحملون ظلمهم فيلقون الخيبة والضلال والعمى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه: 124].
إنه يوم زحام وخصام، يوم ذلك ومهانة، يوم عصيب، يوم عسير على الكافرين والظالمين غير يسير، حيث تنشر صحف الأعمال (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) [التكوير: 10] فلم تعد خافية ولا غامضة، وهذه العلنية أشد على النفوس وأنكى..
فكم من سوءة مستورة يخجل صاحبها ذاته من ذكرها. فإذا هي في ذلك اليوم منشورة مشهودة..
إنه يوم عسير يوم يقوم الناس لرب العالمين، حسبك هولاً وشدة أن في ذلك اليوم تدنو الشمس من الخلائق قدر ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فاستدفعوا يا عباد الله حر ذلك اليوم بعمل يظلكم بظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله..
يا معشر الدعاة والمحتسبين: إذا أوذيتم وعوديتم فتذكروا أن الله ليس بغافل عما يعمل الظالمون و(إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) [إبراهيم: 42].
وويل ثم ويل ثم ويل لمن قضى أو حكم ظلمًا ويلا لهم من (يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) [غافر: 18- 20].
يا معشر الأغيار: إذا رأيتم أهل التغريب والعلمنة وقد أظهروا في الأرض الفساد، فقاوموا فسادهم وواجهوا باطلهم، فإذا أوذيتم أو لم يتحقق مرادكم فلا تعجلوا عليهم إنما يعد لهم ربهم عدًّا، ويملي لهم ليزدادوا إثمًا، ويستدرجهم من حيث لا يعلمون..
ويوم القيامة تراهم خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي، وسيبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، وسيبدو لهم سيئات ما عملوا وسيحيق بهم ما كانوا به يستهزئون.
يا معشر الدعاة والمربين: إذا رأيتم المذنبين والمفرطين في جنب الله فلا تخوفوهم بالأمراض والأعراض والخسف والمسخ، فإنهم ربما رأوا ضدها وإنما أنذروهم يوم الحسرة وقولوا لهم: ألا تظنون أنكم مبعوثون (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين: 4- 5].
يا معشر المسلمين: حينما نضعف أمام الشهوات ونتراخى عن العبادات فليس من رادع ينفع وليس من وازع يدفع أعظم من تذكر يوم الدين يوم يقوم الناس لرب العالمين فحلقوا في سماء الآخرة وتذكروا يوما يفر فيه المرء من أخيه وأمه وأبيه..
يوما لا ترى فيه إلا وجوها مسفرة ضاحكة مستبشرة، أو وجوها عليها غبرة ترهقها قترة، فانظر لنفسك ماذا أنت تختار وإن سولت لك نفسك أمرا فقل (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الأنعام: 15].
ولو أننا جعلنا الآخرة أكبر همنا ومنتهى أماننا وقصار تفكيرنا لما وجدنا القلوب القاسية والنفوس المعرضة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي، ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم، وبارك على قدوتنا وإمامنا الرسول النبي المصطفى الأمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: فإن تذكر الآخرة والإيمان بها يستلزم الاستعداد لها بالعمل الصالح، إن التخويف بالآخرة لا يعني أن يعيش الناس فزعين قلقين يرتجفون من الشدائد والأهوال، فالفزع الدائم من المجهول والقلق الدائم من المستقبل قد تشل طاقة البشر وتبددها، وقد تنتهي بهم إلى اليأس من العمل والإنتاج وتنمية الحياة وعمارة الأرض.. إنما يريد الله منهم اليقظة والإحساس والتقوى ومراقبة النفس والعظة بتجارب البشر وإدامة الاتصال بالله وعدم الاغترار بطراوة العيش ورخاء الحياة.
إن تذكر الآخرة والاستعداد لها يعني التوبة والرجوع إلى الله والتسابق إلى الخيرات والمنافسة على الجنات إن الأبرار يطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، ودافعهم أنهم يخافون (يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) [الإنسان: 7] ويقولون (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) [الإنسان: 10].
وإن رجال المساجد لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والسبب لأنهم (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور: 37].
وإن القانتين آناء الليل سجدًا وقيامًا إنما يحدوهم الحذر من الآخرة ورجاء رحمة الله، (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر: 9].
يا معشر المسلمين: ما لنا نرى الناس يتصارعون في سبيل الدنيا، ومن أجلها يوالون ويعادون ومن أجل حطامها يكدحون ويتعبون، ما للناس اليوم (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم: 7].
هل رواد المساجد كرواد الأسواق؟ وهل المترددون على الحلقات كالساهرين بالاستراحات؟ وهل من يصطفون عند البنوك كعدد الذين يصلون الفجر؟ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [الحج: 1].
يا أيها الناس: استيقظوا من رقدتكم إن هناك إلهًا وإن هناك تقديرًا وإن هناك ابتلاءًا وإن هنالك تبعات، وإن هنالك حسابًا وجزاءً، وإن هنالك عذابًا شديدًا ونعيمًا كبيرًا..
كثيرون هم المسلمون اليوم، ولكن قليلين من يؤمن بالآخرة عين يقين، قليلون من يخشى ذلك اليوم ويعمل له، وإن الإيمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك.
قال الحسن البصري رحمه الله "هيهات هيهات! أهلك الناس الأماني، قول بلا عمل، ومعرفة بغير صبر، وإيمان بلا يقين، ما لي أرى رجالاً ولا أرى عقولاً ! وأسمع حسيسًا ولا أرى أنيسًا ! دخل القوم والله ثم خرجوا، وعرفوا ثم أنكروا، وحرموا ثم استحلوا، إنما دين أحدكم لعقة على لسانه، إذا سُئل أمؤمن أنت بيوم الحساب؟ قال: نعم ! كدب، ومالك يوم الدين.."
ويقول بلال بن سعد: "يَا أَهْلَ الْخُلُودِ، وَيَا أَهْلَ الْبَقَاءِ، إِنَّكُمْ لَمْ تُخْلَقُوا لِلْفَنَاءِ، وَإِنَّمَا خُلِقْتُمْ لِلْبَقَاءِ , وَإِنَّمَا تُنْقَلُونَ مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ، كَمَا نُقِلْتُمْ مِنَ الأَصْلابِ إِلَى الأَرْحَامِ، وَمِنَ الأَرْحَامِ إِلَى الدُّنْيَا، وَمِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْقُبُورِ، وَمِنَ الْقُبُورِ إِلَى الْمَوْقِفِ، وَمِنَ الْمَوْقِفِ إِلَى الْخُلُودِ فِي الْجَنَّةِ أَوْ فِي النَّارِ".
يا ابن آدم: خفف من ظهرك، إن ظهرك لا يطيق كل الذي تحمله عليه من ظلم هذا وأكل مال هذا أو شتم هذا..
يا أيها الإنسان: إن عبارات الندم والتحسر وكلمات التمني والرجاء عند الموت ويوم الحساب ليست لأجل دنيا أو شهوة نفس ولكنها ندم على طاعة قد فوتت ومعصية قد ارتكبت وأمنية بتأخير الأجل لإحسان العمل (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) [المؤمنون: 99] (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر: 23- 24].
أخي المسلم: فكر فيما كنت تكابد من ألم الطاعة، فإذا الألم يذهب وسيبقى الثواب، وانظر إلى ما استمتعت به لذة المعصية، فإذا هو سيذهب ويبقى الحساب، فستندم على كل لحظة لم تجعلها في طاعة.
إن المقاييس كلها تتبدل ساعة الموت وإذا كل ما كنت تحبه وتنازع عليه قد صار عدمًا وإذا لم تأخذ منه معك شيئًا..
بنيت دارًا فما حملت معك منها حجرًا، واقتنيت مالاً فما كان لك منه إلا ما ظننت من قبل أنك خسرته وهو ما أخرجته لله، وعرفت لذائذ الحياة كلها فما الذي بقي في يدك حين الموت من لذائذ الحياة كلها؟!
إن المسلم الحق لا تغره الحياة ولا تخدعه فيكون عمله لها واطمئنانه بها، وليس هو بالشارد عن الحياة الهارب إلى قمم الجبال والفلوات يتعبد لله في صومعة، وهو يدرك أن الدنيا معبر وطريق، وأنها فانية زائلة فيجعلها مزرعة للآخرة، ويستعمرها بأمر الله، ويسيرها كما يحب الله ويكون في الدنيا بجسده ويعمل هنا وقلبه وغايته، هناك يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا ويعمل لآخرته كأنه يموت غدًا.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا..