الشكور
كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | صالح عبدالمحسن العويد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - الحياة الآخرة |
تعيش البيوت المسلمة أزمةً طاحنةً من جرَّاء الامتحانات التي تطرق الأبواب بين الفينة والأخرى ... وحالما يقترب موسم الاختبارات حتَّى ترى كثيراً من البيوت قد أعلنت عن حالة التأهب القصوى والاستعداد الكامل والاستنفار المتحفِّز، لدخول معمعة الامتحان التي يكرم المرء فيها أو يهان! وهذا جهدٌ مشكور، وعملٌ مأجور إذا صلُحت النيَّة، وخلُص المقصِد لله ربِّ البرية، ولكننا لو تأملنا هذا الاهتمام المبالَغ فيه من أجل هذا الامتحان الهيِّن الدُّون، ثمَّ قلَّبنا البصر إلى ....
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم واليه ترجعون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه، وحبيبه، أدى الأمانة وبلّغ الرسالة ونصح الأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتَّقوا الله فإنَّ تقواه عليها المعوَّل، وعليكم بما كان عليه سلَف الأمّة والصَّدر الأول، واشكرُوه على ما أولاكم من الإنعام وطوَّل، وقصِّروا الأمَل، واستعدّوا لبغتةِ الأجل، فما أطال عبدٌ الأمَلَ إلا أساءَ العمل، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
تعيش البيوت المسلمة أزمةً طاحنةً من جرَّاء الامتحانات التي تطرق الأبواب بين الفينة والأخرى ... وحالما يقترب موسم الاختبارات حتَّى ترى كثيراً من البيوت قد أعلنت عن حالة التأهب القصوى والاستعداد الكامل والاستنفار المتحفِّز، لدخول معمعة الامتحان التي يكرم المرء فيها أو يهان !
وهذا جهدٌ مشكور، وعملٌ مأجور إذا صلُحت النيَّة، وخلُص المقصِد لله ربِّ البرية، ولكننا لو تأملنا هذا الاهتمام المبالَغ فيه من أجل هذا الامتحان الهيِّن الدُّون، ثمَّ قلَّبنا البصر إلى ضعف الاستعداد وقلَّة الاهتمام وشدَّة الغفلة عن ذلك الامتحان الرهيب الذي خلقنا الله تعالى من أجله وأنشأنا له، لرأيت البصر ينقلب إليك خاسئاً وهو حسير. قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك: 2] والفرق واسع والبون شاسع بين امتحان الدنيا وامتحان الآخرة وإليك أوجهاً من ذلك التباين والاختلاف بين الامتحانين.
أولاً: المـوضـوع:
امتحان الدنيا في جزءٍ من كتاب، وفي ورقاتٍ معدوداتٍ من دفتر، في مجالٍ من مجالات الحياة، وضربٍ من ضروب العلم.
أمَّا امتحان الآخرة ففي كتابٍ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاَّ أحصاها، قد حوى الأقوال، وأحصى الأفعال، وأحاط بالحركات والسَّكنات، وألمَّ بالخطرات والهنَّات والزلاَّت !قال تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49]، فالصغائر مسجلة به، كما أنَّ الكبائر مدوَّنة فيه.
قال تعالى: (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) [القمر: 53]، فالعباد يقولون ويعملون، والكُتَّاب يكتبون، ويوم القيامة يخرجُون ما كانوا يحصون ويستنسخون، قال تعالى: (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية: 29]، فتنشر الفضائح، وتظهر القبائح، ويبدو ما كان مخبوءاً من ذنوبٍ وعصيان، تحت ركام الغفلة والنسيان! (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المجادلة: 6].
ثانيًا/الأسـئـلة:
امتحان الدنيا أسئلته محدودة في بعض مفردات الكتاب، فلا يمكن للمعلِّم أن يسأل الطالب عن كلِّ دقيق وجليل من محتويات المنهج، وربما تدركه الشفقة فيختار له من أسهل الأسئلة وأيسرها.
أما امتحان الآخرة فالأسئلة حاويةٌ لأطراف الحياة، شاملة لدقائق العمر .. أسئلة عن الأفعال .. وأسئلة عن الأقوال .. وأسئلة عن الأموال .. وأسئلة عن الأوقات .. وأسئلة عن الأمانات .. أسئلة خطيرة؛ جِدُّ خطيرة، عن كلِّ كبير وصغير وعظيم وحقير، قال تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر: 92- 93].
قال تعالى: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) [الصافات: 24]، وعن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تزُولُ قدَما ابن آدم مِن عندِ ربِّه حتَّى يُسألَ عن خمس: عن عُمرِهِ فيما أفناهُ، وعن شَبابِهِ فيما أبلاهُ، وعن مالِهِ مِن أينَ اكتسَبَهُ وفيما أنفَقَهُ، وماذا عمِلَ فيما عَلِمَ".
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال :" ألا كُلُّكُم راعٍ، وكُلُّكُم مسئولٌ عن رعيَّتهِ، فالإمامُ الذي على النَّاسِ راعٍ وهو مسئولٌ عن رعيَّته، والرَّجلُ راعٍ على أهلٍ بيتِهِ وهو مسئولٌ عن رعيَّتهِ، والمرأةُ راعيةٌ على أهلِ بيتِ زوجِها وولدهِ وهي مسئولةٌ عنهُم، وعبدُ الرَّجلِ راعٍ على مالِ سيِّدهِ وهو مسئولٌ عنهُ، ألا فكُلُّكُم مسئولٌ عن رعيَّتِهِ".
ولو أنَّا إذا مِتنا تركنا | لكان الموتُ غاية كلَّ حيٍّ |
ولكنَّا إذا متنا بُعثنا | ونُسأل بعده عن كلِّ شيءٍ |
ثالثًا/ المـكـان:
امتحان الدنيا في جوٍّ مهيأ، ومكانٍ معدٍّ، فالكراسي مريحة، والأنوار ساطعة، والمكيفات باردة، والأمن والأمان يبسطان رداءهما على المكان .
أما امتحان الآخرة ففي جوٍّ رهيب، وموقفٍ عصيب، ومكانِ عجيب .. قال تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [إبراهيم: 48] أهوالٌ عظيمة، وكرباتٌ جسيمة، وأحوالٌ مفجعةٌ، ومناظر مدهشةٌ، ترتعد منها الفرائص، وتقشعرُّ منها الجلود، وتنخلع لهولها القلوب، وتشيب منها مفارق الولدان !
قال تعالى: (يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) [المزمل: 17]، يوم يجمع الله الأولين والآخرين، فإذا هم بالساهرة، حفاةً بلا أحذية، عراةً بلا أردية، غرلاً بدون ختان.. قال تعالى: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) [الأنبياء: 104]، وعن عائشة رضي الله عنها، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تُحشَرُونَ حُفاةً عُراةً غُرلاً " قالت عائشةُ : فقلتُ : يا رسولَ الله الرِّجالُ والنِّساءُ ينظُرُ بعضُهُم إلى بعضٍ ؟ فقال :" الأمرُ أشدُّ مِن أن يُهِمَّهُم ذلك".
القبور تبعثرت، والأفلاك تفجَّرت، والنجوم تكدَّرت، والسماء تفطَّرت، والجبال سيِّرت، والبحار سجِّرت، والشمس كوِّرت، والجحيم برِّزت، والوحوش جمعت وعلى أرض المحشر حُشرت
قال تعالى: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج: 2]، القلوب واجفة، والأبصار خاشعة، والأعناق خاضعة، والأمم جاثية على الرُّكب تخشى العطوب، لِما ترى وتسمع من مهلكات وخطوب، فالميزان منصوب، والصراط مضروب، والشهود تشهد، والجوارح تفضح، والصحائف تنشر ! وإلى الله يومئذِ المستقر! فأين المفر؟!
قال تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران: 30].
رابعًا/ الزمـان:
امتحان الدنيا إن طال زمانه وامتدَّ أوانه فهو في ساعةٍ من نهار، وربما أكثر من ذلك بقليل. أما امتحان الآخرة فهو في: (يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج: 4] قال تعالى: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج: 47].
وعندما يعيش المجرمون ذلك اليوم الطويل بما فيه من خطبٍ جليل، يقسمون الأيمان المغلظة ما لبثوا إلاَّ قليلاً ولا عاشوا إلاَّ يسيراً. قال تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ) [الروم: 55]، فيفزعون نادمين، وعلى أعمارهم متحسِّرين : إنما هو زمنٌ يسير ! وعمرٌ قصير! ثُمَّ كان إلى الله المصير !
قال تعالى: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [المؤمنون: 112- 116].
والعاقل الحصيف يعلم علم اليقين أنَّما هي بضع سنين أو أقلُّ من ذلك أو أكثر، ثمَّ يقبر، ثمَّ ينشر، ثمَّ يحشر، فإذا به واقفٌ بين يدي ربّه في يوم العرض الأكبر! فيستعدَّ لما أمامه من أهوال يوم القيامة، فيغنم أيامه ولياليه فيما يقرِّبه من خالقه وباريه .. بالمبادرة إلى الطاعات، والأعمال الصالحات والمسابقة في الخيرات قبل أن تأتيه المنيَّة
خامسًا/ المـراقب:
المراقب في الدنيا مخلوقٌ مثلك، محدود القدرات، معدود الإمكانات، ينسى ويغفل، ويسهو ويتنازل، وليس بالإمكان أن يحيط بقاعة الامتحان!
أمَّا الرقيب على امتحان الآخرة ـ وله المثل الأعلى ـ فهو الذي لا يضلُّ ولا ينسى، قد أحاط بكلِّ شيءٍ علماً، لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرَّة، ولا يغيب عن بصره شيءٌ من الأشياءٍ في الأرض ولا في السَّماء .فأين تغيب عن سمعه وبصره ؟! وهو السَّميع البصير! وأين تهرب عن علمه ونظره ؟! وهو العليم الخبير !
سادسًا/ نسبـة النّجـاح:
امتحان الدنيا نسبة النجاح فيه عاليةٌ جداً! فربما بلغت ثمانين بالمائة، وربما وصلت إلى تسعين بالمائة، بل وربما بلغت النسبة إلى أعلاها والدرجة إلى منتهاها ! أما امتحان الآخرة فنسبة النجاح فيه قليلة جداً !
فلا أقول: واحدٌ في العشرة! ولا أقول: واحدٌ في المائة ! وإنما هي: واحدٌ في الألف!! فيا للهول! تسعمائة وتسعةُ وتسعون إلى النَّار بعدلٍ من الله وحكمة !و واحدٌ إلى الجنَّة بفضلٍ من الله ورحمة ! اللهُمَّ لطفك ! يا لطيف .
عن أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا آدَمُ فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ قَالَ يَقُولُ أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ. قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ قَالَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ قَالَ فَذَاكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ. قَالَ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ فَقَالَ أَبْشِرُوا فَإِنَّ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ تسعمائة وتسعة وتسعين وَمِنْكُمْ رَجُلٌ قَالَ ثُمَّ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَحَمِدْنَا اللَّهَ وَكَبَّرْنَا ثُمَّ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَحَمِدْنَا اللَّهَ وَكَبَّرْنَا ثُمَّ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنَّ مَثَلَكُمْ فِي الْأُمَمِ كَمَثَلِ الشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأسود"
الله أكبر الله أكبر.
يا جنَّة الرحمن ليس ينالها | في الألف إلاَّ واحدٌ لا اثنانِ |
فرحماك اللهُمَّ وفضلك ! وجودك اللهُمَّ وكرمك !
سابعًا: النجاح:
النجاح في امتحان الدنيا مؤدَّاه أن يرتقي العبد في مراتبها ويعتلي في درجاتها ..وأيُّ درجة هذه ؟! وأيُّ مرتبة تلك ؟! والدنيا بما فيها من نعيم ولذَّة منذ خلقها الله تعالى وإلى أن يرثها وهو خير الوارثين نعيمها لا يساوي في نعيم الآخرة إلاَّ كقطرة أخذت من بحرٍ لُجيٍّ
عن المستورد ـ أخا بني فهر ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله ما الدنيا في الآخرة إلاَّ مثلُ ما يجعَلُ أحدُكُم إصبَعهُ هذه ـ وأشار بالسَّبَّابة في اليَمِّ، فلينظر بم ترجعُ".
وقال صلى الله عليه وسلم :" .. ولقابُ قَوسِ أحدِكُم، أو موضِعُ قدَمٍ مِنَ الجنَّةِ خيرٌ مِن الدُّنيا وما فيها، ولو أنَّ امرأَةً مِن نساءِ أهلِ الجنَّةِ اطَّلعت إلى الأرضِ لأضاءَت ما بينهُما، ولملأَت ما بينهُما ريحاً، ولنَصيفُها ـ يعني الخمار ـ خيرٌ مِنَ الدُّنيا وما فيها ".
أمَّا نجاح الآخرة فهو الزحزحة عن النَّار، والدخول إلى الجنَّة، فضلاً من الله ومِنَّة !قال تعالى: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 118]، وتأمَّل فرحته العارمة، وسعادته الغامرة عندما يثقل بالصالحات ميزانه، وتثبت على الصراط أقدامه، فيأمن يوم الفزع الأكبر جنانه، ويُلقَّى حجَّته، فيرفع كتابه فوق رأسه، وينشره بين الخلائق، ويستعلي بصوته، وينادي على رؤوس الأشهاد في فرحٍ وسرور، وبهجة وحبور (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) [الحاقة: 19- 22].
وكما أنَّ النجاح يتفاوت في الدنيا ما بين مقبولٍ، وجيد، وجيد جداً، وممتاز كذلك يوم القيامة، فدخول الجنَّة لا يكون إلاَّ بفضل الله ورحمته، ثُمَّ يكون التفاوت في الدرجات والتمايز بين أهلها في النعيم والخيرات، على حسب أعمالهم الصالحات، فتزيد الدرجات كلما زادت الطاعات والحسنات عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "في الجنَّةِ مائةُ دَرجةٍ ما بينَ كلِّ درجتينِ كما بينَ السَّماء والأرض، والفردوسُ أعلاها دَرجةً، ومنها تُفجَّرُ أنهارُ الجنَّةِ الأربعةُ، ومِن فَوقِها يكونُ العرشُ، فإذا سألتُمُ الله فاسألوهُ الفِردوسَ".
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: " إنَّ أهلَ الجنَّةِ ليتراءونَ أهلَ الغُرفِ مِن فوقِهم، كما تتراءَونَ الكوكبَ الدُّرِّيَّ الغابِرَ مِن الأُفقِ مِن المشرِقِ أو المغربِ، لتفاضُلِ ما بينهم " قالوا : يا رسول الله ! تلك منازِلُ الأنبياءِ لا يبلُغُها غيرهم . قال :" بلى . والذي نفسي بيده رجالٌ آمنوا بالله وصدَّقوا المُرسلينَ"، فجدَّ، واجتهد، ولا يسبقنَّك إلى الجنَّة ـ مِمَّن عرفت ـ أحد !
ثامنًا/ الرسوب:
الإخفاق في امتحان الدنيا هيِّنٌ سهلٌ، فهو خسارةٌ لدرجة أو مرحلة أو مرتبة من دنيا لا تساوي عند الله الذي خلقها وسوَّاها جناح بعوضة .
أمَّا الرسوب في امتحان الآخرة، فخسارة الأبد، وحسرةُ السَّرمد، وألم لا ينفذ، وندم لا ينقطع، وعذاب لا ينتهي، وعقاب لا ينقضي .
يوم يُكبُّ المجرم على وجهه إلى نارٍ تلظَّى، لا يصلاها إلاَّ الأشقى، فيخسر نفسه وأهله وماله. قال تعالى: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الزمر: 15] ، وأيُّ خسارةٍ أكبر من أن يرى العبد غيره يساق ـ في سعادة ومسرَّة ـ إلى جنَّةٍ عرضها السموات والأرض، لينعم بما تلذُّ به الأعين، وما تشتهيه الأنفس، ويطرب له السمع، ويسعد به القلب، ثُمَّ يقاد هو ـ في ذِلَّةٍ وصغار ومهانةٍ وانكسار ـ إلى نارٍ وقودها النَّاس والحجارة، حيثُ العقاب والعذاب، والبلاء والشَّقاء مما لا يخطر على البال، ولا يوصف بحالٍ من الأحوال والخسران الأكبر، والحرمان الأعظم، أن يحرم العبد من لذَّة النظر إلى وجه الله الكريم في الجنَّة يوم المزيد والنظر إلى وجه العزيز الحميد .
قال تعالى: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ) [المطففين: 15- 16]، وكما يرجع الطالب الخائب باللوم لنفسه، والتقريع والتوبيخ لها، والندم على تفريطها، ينقلب الحال بأهل الرسوب في الآخرة إلى الأماني العقيمة، ويركنون إلى الأحلام السقيمة، ويتمنون أن يعودوا ليجدُّوا ويجتهدوا ...
قال الله تعالى عنهم: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) [الأحزاب: 66] ويدخلون النَّار، يُعذَّبون بها ويصلون سعيرها ويحرَّقون بحرارتها ينادون وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل غير الذي كنَّا نعمل فيأتيهم التقريع والتوبيخ الذي يزيد في حسراتهم، ويضاعف من لوعاتهم: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر: 37]، والجزاء في يوم الجزاء: (فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر: 37].
تاسعًا/ فرصة التعويض:
امتحان الدنيا أسوأ ما يمكن أن يحصل فيه أن يرسب الطالب، ويخفق في الامتحان .. وغالباً يكون لديه فرصةٌ أخرى وكرَّة ثانية، بدورٍ ثان أو بإعادة المحاولة سنةٌ أُخرى حتَّى يتمَّ له النجاح، أو بتغيير مجال الدراسة والبحث، ولعلَّ في ذلك خيراً كثيراً لا يدركه، وفضلاً عظيماً لا يعلمه ... فكم من بابٍ أغلق في وجه صاحبه، وكان الخير في غلقه، ولو أنَّه ولج فيه لوقع في البلايا والمحن، والرزايا والفتن.
أمَّا امتحان الآخرة فلا فيه فرصة ثانية ولا كرَّة آتية .. وإنما هي رحلة عمل تنتهي لحظاتها، وتنقضي أوقاتها، ثمَّ تحين ساعة الانتقال إلى العظيم المتعال ! قال تعالى: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) [الأنعام: 62] وعند ذلك ينادي المفرِّط المخلِّط في كمد ونكد (رَبِّ ارْجِعُونِ) [المؤمنون: 99] لِمَ أيُّها الغافل ؟! (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون: 100]، فهل يُجاب له سؤله ويحقق له أمله ؟! (كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 100].
عباد الله: رحلة العمر انتهت، وفرصة الزرع انقضت، وقد حان أوان الحصاد فوا بشرى للزارعين بما حصدوا ..! ووا أسفاه على الخاملين يوم جدَّ المشمِّرون وهم رقدوا ..! وفاز بالغنائم طُلاَّبها، وبالمعالي أربابها !
أمَّا أولئك البطَّالون فقد حيل بينهم وبين ما يشتهون، فإنَّ الله الذي يعلم ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، يعلم أنَّهم لو ردوا إلى الدنيا، وفسح لهم في الأجل، لعادوا لما نُهوا عنه من المعاصي والموبقات والخمول والكسل وإنَّهم لكاذبون.
فيا لهذا الإنسان ما أشدَّ ظلمه لنفسه وما أعظم جهله بعاقبة أمره (إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب: 72] بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولكل مسلم ومسلمة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صل، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين... وبعد:
أيها الأحبة أعتقد جازماً أنَّه لم يبق لنا بعد هذه النِّذارة إلاَّ أن نستشعر أننا في امتحانٍ رهيب، في كلِّ ما نأتي ونذر، وفيما نحبُّ ونكره، ونرى ونسمع، ونعطي ونمنع، ونأكل ونشرب، ونسكن ونركب، ونقول ونعمل، وذلك على مدى الدَّهر، وبطول مسيرة العمر.
اليوم عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل ! فلنُرِ اللهَ منَّا خيراً، نُسرُّ به يوم أن نُعرض عليه، ونقف بين يديه، حيث تُعطى الجوائز لكلِّ فائز، ويزخُّ بقفا كلِّ خاسر إلى نار السَّموم، (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود: 105- 108]، وفي هذا بلاغٌ لقوم عابدين ! اللهُمَّ اجعلنا ـ بفضلك ـ من السُّعداء الفائزين، ولا تجعلنا ـ برحمتك ـ من الأشقياء الخاسرين.
هذا وصلوا على أفضل المرسلين وخاتم النبيين كما أمركم بذلك رب العالمين فقال في كتابه المبين فَقَال : (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56] وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صَلّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلّى الله ُعَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"، اللّهم صَلّ وَسَلّم على عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحمّد، وعلى آلِه وَصَحْبهِ أَجْمَعِينَ، وارضَ اللّهُمَّ عن الخلفاء الراشدينَ وعن بقيةِ صحابة رسولِكَ أجْمَعينَ، وعَنِ التابعينَ وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين، وعنّا مَعَهُم بِرحمتكَ يا أرْحم الراحمين.