العزيز
كلمة (عزيز) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وهو من العزّة،...
العربية
المؤلف | منصور محمد الصقعوب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
هل رأيتم أجمل من أن يكون المسلم عفيفًا من كل شائبة, طاهرًا من كل رذيلة, وذاك خُلق الإسلام وسجية الكرام، بيد أننا في زمن باتت الحرب على الفضيلة والعفاف والطُهر ظاهرةً قد شبّ أوارها وارتفعت ألسنة نارها، وعظم دُخانها، فكم ترى من مكرٍ كبار, في الليل والنهار, سعيًا في وأد عفاف أهل الإسلام, عبر إشاعة الفواحش, وتيسير سبلها, وإغلاق منافذ الحلال أو تضييقه, وتلميع سير هاتكيها, والتهكم برموز العفاف ..
الخطبة الأولى:
خُلق من أخلاق الإسلام وخلة من خلال الكرام، وصفة يتميز بها المسلم على غيره من الأنام.
إنه خُلق يُكاد اليوم له أشدَ كيد، وخصلة تحارب اليوم أنكى حرب، وسجية تلقى اليوم العنت من لدن أعدائها.
العفاف العفة: النقاء من كل رذيلة والطهر من الفاحشة؛ هل رأيتم أجمل من أن يكون المسلم عفيفًا من كل شائبة طاهرًا من كل رذيلة، وذاك خُلق الإسلام وسجية الكرام، بيد أننا في زمن باتت الحرب على الفضيلة والعفاف والطُهر ظاهرةً قد شبّ أوارها وارتفعت ألسنة نارها، وعظم دُخانها.
فكم ترى من مكرٍ كبار في الليل والنهار؛ سعيًا في وأد عفاف أهل الإسلام عبر إشاعة الفواحش وتيسير سبلها وإغلاق منافذ الحلال أو تضييقه وتلميع سير هاتكيها، والتهكم برموز العفاف؟! كم ترى في مجتمعات الإسلام من سعي حثيث لإشاعة الفحشاء عبر صور عديدة وفي مجالاتٍ كثيرة حكى الله وكشف حقيقة أهلها فقال: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) [النساء: 27]؟!.
وأمام تيار المغريات الجارف فلربما تأثر المرء بما يسمع ويرى، ربما تكدر صفو عفافه فسعى لخرقه وبحث عما ينافيه، والمرء بشر فيه الرغبة، لكنه يحزمه ديانته لله -تعالى-.
وهنا فجميل أن نؤكد على أسوار العفاف التي متى ما هدمت استلب ذلكم الخلق، ومتى ما حُصِّنت بقي الخلق قويًا أمام تيار المغريات.
وقد ساق الله في القرآن آياتٍ كثيرة من شأنها أن تحصن العفاف، غير أن سورة النور أولت الأمر العناية، حتى لكأن السورة كلها في شأن تحصين العفاف، ولذا فلا عجب أن يسعى السلف لتعليمها لاسيما للنساء، حتى أخرج أبو عبيد أن عمر -رضي الله عنه- كتب للأمصار: "تعلموا سورة براءة، وعلموا نساءكم سورة النور"... فإلى بعض أسوار العفاف من سورة النور.
عباد الله: أول أسوار العفاف أن تعلم أن الوالغ في الفواحش لا يردعه إلا الحزم البالغ والردع الشديد، إن المرء حين يقع في الفاحشة فإنه ربما لا تردعه الموعظة، وربما لا يزعه عن الشر الرفق واللين، وربما لا يخوفه ذكر الأمراض البدنية، لكن الشرع قد جعل رادعًا يقف أمام انتشار الفواحش، هذا الرادع حين يغيب تطبيقه ويتلاشى وجوده تستفحل الشرور وتزداد الفواحش
إن ثاني آية في السورة تحكى حدّ الزنا بالجلد مائة لغير المحصن، وفي السنة بالرجم لمن أحصن، وبرغم أن الأصل في الرأفة المدح فإن الله قال عنها: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) [النور: 2] ومجردُ وجود "الشفقة" في تنفيذ الحد يزول معه كمال الإيمان، ومع هذا يشهر به ويشهد عذابه طائفة من المؤمنين؛ لكي يحسب المرء ألف حساب قبل أن يقدم على هذا الفعل، ذلكم هو الحدّ الذي جاء به الله، فقولوا لي -بربكم- أي قانون استطاع أن يحد من الزنا حين حاد عن شرع الله؟! لقد عجزت قوانين البشر عن قمع الفاحشة، وحين تتخلى بلاد الإسلام عن إقامة حدّ الله فلن تقدر على الوقوف أمام هذا المنكر.
ولئن كانت هذه عقوبة الواقع في الفاحشة المحرمة في الدنيا فإن عقوبة الآخرة غليظة؛ فالزناة في القبر ينالهم عذابٌ رهيب ذكره رسول الله بأنهم في مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يأتيهم اللهب من أسفل منهم فيصيحون ويصعدون فلا على الخروج يقدرون، والأمر أشد في الآخرة
إن هذا الأمر -يا أيها الكرام- لو وعته النفوس لكان رادعًا لها عن قربان الفاحشة وسورًا حصينًا للعفة؛ فعقوبة الدنيا فضيحة وتشهير وعذاب وتعيير، وعقوبة القبر ثم النار؛ فبؤسًا لمن أصر بعد ذلك على الفاحشة وأغضب الجبار.
عباد الله: وأمرٌ آخر بيّنه في السورة رب البرية -وهو أمر في غاية الآكدية- هو أن تصان الألسنة عن الاتهام بالفاحشة، وعلى من اتهم أحدًا حدّ القذف أو يبين.
وكذا صون الألسنة عن ذكر الفاحشة وأخبار وقوعها؛ ذلك لأن تردد ذكر أخبار الفواحش على الألسنة يخفف النفرة منها ويهون من أمرها، وربما جرأ على الوقوع فيها.
قال الله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النور: 19] والشيوع من صفات الأخبار أي يشيع ذكرها في الناس.
قال ابن عاشور: ولشيوع أخبار الفواحش بين المؤمنين بالصدق أو الكذب مفسدة أخلاقية؛ فإن مما يزع الناس عن المفاسد تهيبهم وقوعها وتجهمهم وكراهتهم سوء سمعتها، وذلك مما يصرف تفكيرهم عن تذكرها بله الإقدام عليها رويدًا رويدًا حتى تنسى وتنمحي صورها من النفوس، فإذا انتشر بين الأمة الحديث بوقوع شيء من الفواحش تذكرتها الخواطر وخف وقع خبرها على الأسماع، فدب بذلك إلى النفوس التهاون بوقوعها وخَفَتَ وقعها على الأسماع فلا تلبث النفوس الخبيثة أن تقدم على اقترافها، وبمقدار تكرر وقوعها وتكرر الحديث عنها تصير متداولة، هذا إلى ما في إشاعة الفاحشة من لحاق الأذى والضر بالناس ضرًّا متفاوت المقدار على تفاوت الأخبار في الصدق والكذب.
ولهذا دل هذا الأدب الجليل بقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النور: 19] أي يعلم ما في ذلك من المفاسد فيعظكم لتجتنبوا وأنتم لا تعلمون فتحسبون التحدث بذلك لا يترتب عليه ضر ا.هـ
ولهذا فأنت ترى أهل الشر ودهاقنة الإعلام يسعون لنشر أخبار الفواحش لتعتاد النفوس سماعها فيقل نكيرهم لها، وكثرة سماع المنكر يقلل استنكاره.
وهنا فَتَوَقَّ ذكر الفواحش وانْأَ عن نقل أخبارها عبر أحاديث المجالس أو وسائل التواصل؛ فإنها تؤذي الأسماع وربما تجرأ عليها، واذكر قول الله: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور: 15].
عباد الله: وسورٌ آخر من أسوار العفاف يتجلى في السورة: وهو أن حفظ الفروج لا يكون إلا بحفظ الجوارح؛ فلن يقع المرء في فاحشة إلا وقد وقع قبلها في جملة من الصغائر ففي البصر (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [النور: 30] وكم تجرع البعض الغصص من إطلاق بصره في ما حرم الله عليه.
ينظر نظرة فتحرك قلبه فيريد أن يطفئ ما في نفسه فيكرر النظر فيصير كشارب ماء البحر يزداد عطشًا كلما شرب، وكذا مطلق البصر في ما حرم الله يزداد سعاره كلما أطلق العنان لبصره، ولا يكفيه شيء. قال ابن الجوزي: "حتى إنه لو قدر على نساء بغداد كله فقدمت امرأة مستترة من غير البلد ظن أنه يجد عندها ما ليس عندهن".
ومن روعة البيان أن الله قال في القرآن: (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) [النور: 30]؛ لأن النظر رائد الزنا وهو الطريق له؛ فمن غضَّ حفظ ومن لم يغض فقد عرض نفسه للعطب وربما كان نظره هو من أورده الوقوع في الفحشاء.
وليس غضّ البصر للرجل فحسب، بل إن الذي قال في السورة (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النور:31] فنظر المرأة ربما أوقع في قلبها الميل. ولذا قال بعض مشيخة الأعراب: "لأن ينظر إلى وليتي مائة رجل خير من أن تنظر هي إلى رجل واحد".
عباد الله: وحفظ السمع عما يثيره مطلب لتحقيق العفاف، فصوت المرأة إذا كان رخيمًا ينبغي أن تتنبه له (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) [الأحزاب: 32] بل قال الله: (وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) [النور: 31] قال قتادة: "هُوَ الْخَلْخَالُ تَضْرِبُ الْمَرْأَةُ بِرِجْلِهَا لِيُسْمَعَ صَوْتُ خَلْخَالِه"؛ فيالله ما أعظم شأن العفاف! من أجل صوت خلخال من رِجْلِ امرأةٍ ينزل الله آيةً؛ فأين من يستهين بمخالطة المرأة للرجال بحجة الثقة وسلامة القلوب.
وتتتابع -أيها الكرام- الآيات آمرةً بحفظ الجوارح وحماية العفاف (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) [النور: 31] (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) [النور: 33] وحتى في حق القواعد الكبيرات والعجوز غير المشتهاة حين أباح لها وضع حجابها قال عنها: (وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ) [النور: 60].
كل هذا لتعلم أن الجوارح ربما تعين المرء على العفاف، أو تؤزه إلى الفاحشة والانحراف.. وفي مقول سيد الأنام -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ".
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده..
أما بعد:
معشر الكرام: ومن أسوار العفاف، تيسير أمر الزواج؛ ففي السورة (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) [النور: 32] ولأجل أن أكثر ما يمنع الناس من النكاح خوف الفقر والعَيلة إن تزوج أو زوّج وعدهم الله -الغني الواسع بالغنى منه سبحانه- (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [النور: 32]، وقد روي عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: "أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح؛ ينجز لكم ما وعدكم من الغنى (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)" [النور: 32].
وأما من ضاقت به اليد فلم يجد ما يتزوج به فليطلب العفة ويصابر عليها حتى يأتي الفرج (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النور: 33].
عباد الله: وحين تعسر مسالك الزواج أمام الشباب وتثقل تكاليفه فإنهم يكونون عرضة للزيغات، وحين نبغي العفاف للمجتمع فإن تيسير أمر المباح مطلب بات اليوم ملحًا، وكم هُتِك ستر الحشمة ونقب سور العفاف بسبب تعنت الآباء في أمر تزويج الأبناء.
وتعجب حين ترى أبًا ينفق على أولاده بسخاء، ويشتري المراكب بأغلى الأثمان فإذا جاء أمر الزواج قال: اعتمد على نفسك؛ فمتى سيقدر الشاب على تكاليف زواجه وهو في مقتبل عمره.
نعم -أيها الآباء- تقولون بأن الزواج مسئولية فليستعد لتحملها، وأقول لكم -أيضًا- بأن الأبناء أمانة وتزويجهم -إن عجزوا- واجب عليكم فلتقوموا بتحمل الأمانة.
معشر الكرام: ومن أحصن أسوار العفاف التذكير برقابة الله -سبحانه- فإن المرء قد يخفى عن الخلق لكنه لا يخفى عن نظر رب الخلق.. وفي سورة النور تأكيد على علم الله ورقابته (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [النور: 30] (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) [النور: 29] (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [النور: 28] (قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أتبعها مباشرة بقوله: (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [النور: 64] والتأكيد على رقابة الله أمر ينبغي أن تعتني به -أيها الولي- كثيرًا؛ فأنت في زمنٍ تفتحت فيه الأبواب، وتيسرت سبل الشرور؛ فإن زرعت في القلب شجرة المراقبة وسقيتها بين فينة وأخرى حصدت خيرًا بإذن الله.
تلكم -أيها الكرام- بعض من أسوار العفاف في سورة النور؛ كم نحن بحاجة لتعاهدها؛ فنحن في حقبةٍ الحرب على عفاف أبنائنا وبناتنا تشن بلا هوادة.. حفظ الله أبناء المسلمين وبناتهم وصان الحياء والعفاف فيهم.