العفو
كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...
العربية
المؤلف | عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
إنَّ الإيمان الحَقَّ إذا وقع في القلب أنارَ القلب، وانشرح الصدر، وقرَّت العين، واطمأنَّت النفس؛ دينُ الله إذا استقر في قلب المسلم أذهب عنه الأحزان والتّرّهات، وجعله على الطريق المستقيم: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل:97]، فحياة المؤمن طيبة في صحته ومرضه، في فرحه وحزنه ..
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونستهديه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا؛ ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلَّى اللهُ عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أما بعد:
فيا أيُّها الناس، اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى.
عباد الله: إن الواجب على المسلم أن يعرض كل تصرفاته على وفق ما دلت عليه سنة محمد -صلى الله عليه وسلم-، مما يعرض له من سرور وحزنٍ وحلمٍ أو غضبٍ من تعامله في حياته مما يعرض له في حياته، ومن تعامله مع الآخرين.
ومن ذلكم الحزن، فإن الحزن يُبتلى به الإنسان بسبب أو بأخر، وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الطريق الأمثل للتعامل مع الحزن في كل ما يعرض الإنسان فيه، وبيان العلاج الشافي الذي يخلص المسلم من هذا الداء العضال.
أيُّها المسلم: وعندما يتأمل الحال تجد أن الحزن له أسباب متعددة، عندما تتفكر في كتاب الله وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تجد أن للحزن أسبابا متعددةً.
فمن أسبابها: التناجي، لاسيما التناجي بين العدد القليل، وقد نهى الله المسلمين عن التناجي السيئ بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ) [المجادلة:9-10]، إرشاد من الله للمسلمين أن يكون تناجيهم بالخير لا بالشر، بالطاعة لا بالمعصية، بالبر والتقوى لا بالإثم والعدوان.
ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إِذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ؛ مِنْ أَجْلِ ذلك أَنْه يُحْزِنَهُ".
أيُّها المسلم: وممن يُحزن أيضا ويجلب الحزن على المسلم ما قد يراه في منامه من أحلام تقض مضجعه، وتقلق راحته، فيتوالى عليه الهم والغم والحزن والكآبة، يرى في منامه رؤيا تقلقه يظن وقوعها عليه، ويظن تأثره بها؛ ولكنها -بتوفيق من الله- بعيدة كل البعد عن ذلك، يرى في منامه ما يقض مضاجعه ويكدر صفو حياته، وقد جاء بالسنة علاجٌ لذلك الحزن ليخففه عن المسلم أو يرفعه.
أيُّها المسلم: فإن هدي الإسلام في ذلك واضح، قال أَبَو سَلَمَةَ -رحمه الله-: كُنْتُ أَرَى في المنام رُّؤْيَا أمْرِضُ منها حَتَّى سألت أَبَا قَتَادَةَ الأنصاري فقال: إني أَرَى رُّؤْيَا في منامي ما يمْرِضُنِي، حَتَّى سَألتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: "الرُّؤْيَا الْصالحةُ مِنَ اللَّهِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ فَليُخبر بِهِ مَنْ يُحِبُّ، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فلينفث عن يساره ثلاث مرات، ولْيَستَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا، وَلاَ يُخبر بِهَا أَحَدًا؛ فَإِنَّ ذلك لا يضره".
وقد أغلق النبي -صلى الله عليه وسلم- باب التجاوب مع الموسوسين في مرائيهم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحدث أحدكم بتلاعب الشيطان في منامه".
وأرشدنا أن نتعامل مع من لا يعجبنا من الرؤيا بالأمور التالية:
أولا: أن يتفل عن يساره ثلاث مرات.
ثانياً: وأن يتحول الإنسان في منامه من جنب إلى الجنب الآخر.
ثالثاً: أن نصلي ركعتين لله، لعل الله يرفع بنا هذه الأحزان.
رابعاً: أن لا نخبر بها أحدا.
فبتلكم الأسباب الطيبة تزول عنا أحزان هذه المرائي الموحشة التي تخوفنا وتقلق مضاجعنا، وهي أمور من تلاعب الشيطان، وأخبرنا -صلى الله عليه وسلم- أن الأحلام على ثلاثة: فمنها بشرى من الله، ومنها أحزان من الشيطان، ومنها ما يتأثر الإنسان في حديثه في نهاره.
إذاً؛ فكون العبد يتفل ثلاث مرات، ويحول منامه من جنب إلى آخر، ويكتم تلك الرؤى، ويتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان، ولا يخبر بها أحدا، فهذه أسبابٌ تُذهب عنه ذلك الحزن الذي أصابه بتلك المرائي المخوِّفة المزعجة.
أيُّها المسلم: ومن أسباب الحزن أيضا ما يرمى به البريء من الأمور الخطيرة ظلماً وعدوانا، فما يرمى به الأبرياء ظلماً وعدوانا لا شك أنه يُحزِن مَن رُمِي بذلك، ويقلق بما رمي به، إذا كان بريئا فيما يعلم الله منه، فما يرمى به من قول أو فعل وهو عدوان وكذب عليه يؤلمه ويحزنه ولا يسره، هكذا طبيعة الإنسان.
ولكن؛ لهذا علاج واضح في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمحمد -صلى الله عليه وسلم- وزوجته عائشة وأبواها الصديق وزوجته وصفوان بن معطر -رضي الله عنهم-، ابتلوا بذلك حينما رميت عائشة بما رميت به من الإفك والعدوان والظلم والكذب والافتراء، وقد جاءت براءتها من فوق سبع سماوات بتبرئة الله لها مما نسب إليها المنافقون وضعفاء البصائر.
ولنا في هذه القصة أمور، منها أن المصاب ظلما وعدوانا لابد من وجود من يسليه في مصيبته، ويشارك أحزانه وألامه، تقول عائشة -رضي الله عنها-: بينما أنا أبكي عند أبوي إذ استأذنت امرأة من الأنصار فجعلت تبكي مع بكائي تسليني بذلك.
ومنها أيضاً تهوين أمر المصيبة على المصاب، وتذكيره بالصبر والاحتساب، فإن عائشة -رضي الله عنها- أخبرت أنها سألت رسول الله أن تبقى عند أبويها أثناء تلك المصيبة العظيمة، قالت -رضي الله عنها- إن أمها قالت: هوني على نفسك يا بنية، إنها ما من امرأة مطيعة لزوج يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها.
ومنها أن هذه البلية قد تكسب المظلوم خيرا في الدنيا والآخرة، قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور:11].
ومنها أن يعلم العبد أن هذا الظلم والعدوان لابد أن ينجلي وتظهر الحقائق، ولابد أن يعلم أن في هذا صبراً وتكفيراً للسيئات والأخطاء.
ومن أسباب ما يسبب الحزن للمسلم -أيضا- فوات مصالحه المادية أو حدوث أضرار في بدنه ونحو ذلك، وهذا الحزن أيضا يعالجه الشرع بالأمور التالية:
أولا أن يرضى المسلم بقضاء الله وقدره، ويعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن، كل شيء بقضاء الله وقدره، والله أرحم بعبده من رحمة أمه وأبيه به، فإذا أصابته المصيبة في ماله خسر تجارته وقلت موارده، وخسر صفقته، فليتفكر قول الله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ*لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [الحديد:22].
ومنها أن يعلم المسلم أنه في ضرائه وسرائه هو على خير، فإنه إن كان في الضراء صابرا فله أجر، وفي السراء شاكرا فله أجر، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "عَجَبًا للْمُؤْمِنِ! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ عجَب، إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، أو أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ".
أيُّها المسلم: ومما يسبب الحزن على المسلم أصابة قريب له، ومحب له، بما يصيبه من مرض أو نحو ذلك، فيسليه ويعوده، فإن في عيادة المريض تسليةً له، وتهويلا لآلامه وأحزانه.
مرض سعد بن أبي عبادة -رضي الله عنه- فخرج النبي يعوده ومعه عبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبدالله بن مسعود، فلما أتى سعداً وجده في غَشية، فقال" "أقضى؟"، قالوا: لا، فبكى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبكى الحضور ببكائه، ثم قال: "أَلاَ تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُعَذِّبُ بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلاَ بِدَمْعِة الْعَيْنِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا -يعني: اللسان- أَوْ يَرْحَمُ".
فزيارة المريض وتسليته وإظهار التألم بألامه وتضميد جراحه كل ذلك مما يخفف أحزانه وألامه.
ومما يُحزن العبد -أيضا- ذهاب بعض أولاده أو من زوجه أو من بعض أحبابه من زوجة أو أولاد ونحو ذلك، ولاشك أن هذا يحزن المسلم، ولاشك أن هذا يؤلمه ويَحْزُنُه؛ ولكن إذا تدرع بالصبر والثبات، وذكر الله، واطمأن إلى لقائه، هانت مصيبته.
فأولا: عالجه الشرع بأنه لم يحارب الحزن الكلي؛ فحُزن الإنسان أمر طبيعي لا يمكن أن ينهى عنه الشرع، بل شرع له أن يفرج همه ببكاء ونحو ذلك مما لا يخرج عن حدود المعقول، ويروض نفسه بالصبر والاحتساب وتحمل المصائب.
ونبينا -صلى الله عليه وسلم- أكمل الخلق إيماناً بالله ورضاً بقضاء الله وقدره، ومع هذا حزن من المصيبة حزن الكرام، فلما دخل على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه بكى، فقيل له، فقال: "الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَخشع، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يَرْضَى الرب، وَإِنَّا لفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ". وقال: "هذه رحمةٌ بقلبِ مَن شاء مِن عِبَادِهِ".
ولما توفيت أحدى بناته وحضر عند قبرها قال: "ما منكم مَن يقارب الليلة"، فقال طلحة بن عبيد: أنا، قال: "أنزلها في لحدها"، قال: فأنزلتها، فرأيت عينييه تذرفان من الدموع رحمةً لهذا الميت، وحزناً عليه -صلى الله عليه وسلم-.
فإن التأثر بالبكاء، ودمع العين، وحزن القلب إنما يُنهَى فيه عن النياحةِ وشق الجيب وضرب الخد، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ".
قال أبو هريرة: دعوت أمي للإسلام فأبت، فأسمعتني في رسول الله ما أكره، فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- أبكي، فقال: يا رسول الله، دعوتُ أمي للإسلام فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهديها، فقال: "اللهم اهدِ أم أبي هريرة".
فقال: فذهبت لها ووجدت الباب مجفيا فدخلت، فسمعَتْ خشخشة نعلي رجلي، وسمعت خرير الماء فقالت: انتظر أبا هريرة، فإذا بها تغتسل، ثم قالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ففرحتُ بذلك.
ورجعتُ لرسول الله أبكي، فقلت: يا رسول الله، إن أمي أسلمَتْ، وأجاب الله دعوتك فيها، فيا رسول الله، ادع الله أن يحببني وأمي للمؤمنين، وأن يحبب المؤمنين لي ولأمي، فقال: "اللهم حبب عُبَيْدَكَ أبا هريرة وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحببهم لعبادك المؤمنين" صلوات الله وسلامه عليه.
هكذا -أيها الإخوة- يعالج الإسلام داء الحزن، لا ما يعالجه ضعفاء البصائر الذين إذا أحاطت بهم الكربات وحلت بهم المشاكل اضطروا إلى الانتحار، والتخلص من الدنيا لأنهم لا يرجون حسابا، ولا يُمنون ثوابا، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
أما المسلم فأمام المصائب وإن عظمت وتكاثرت فالصبر والاحتساب، والأخذ بأسباب الخير والنجاة من الكربات هو المطلوب من المسلم دائما وأبدا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقولُ قولي هذا وأستغفرٌ الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنَّه هو الغفورٌ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وصحبه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ.
أما بعدُ: فيا أيُّها الناس، اتَّقوا اللهَ -تعالى- حقَّ التقوى.
عباد الله: المسلم يكون واقعيا في تعامله مع الأحداث والمصائب، والدنيا لا تخلو من مصائب وبلايا في النفس والمال والولد، لا تخلو من ذلك، ولله في ذلك حكمة عظيمة: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التغابن:11].
الأخذ بالأسباب النافعة مطلوب، وتوقِّي الشرور والحذر مطلوب؛ ولكن الصبر والاحتساب عند وقوع المكروه مطلوب، والرضا عن الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة من علامة الإيمان.
إن المسلم قد تتبعه في حياته نكبات وبلايا؛ لكن عليه أن يصبر ولا يستسلم لهذه الأحزان والغموم والهموم؛ بل يكافح ويعمل، ويجد ويجتهد، إن خسرت تجارته في هذه العام لا ييأس، فربما ربح بالمستقبل، فإن أصابته مصيبة أو حوادث صبر واحتسب، ورضي عن الله، فإما أن يشفى من مرضه، أو يكتب له الدرجات العليا، فإن العبد لا يدري فعل تلك المصيبة، فقد ترفعه درجات في دار كرامة الله، إذ لا يزال البلاء في المؤمن حتى يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
أيُّها الإخوة: ومما يؤثر على المجتمع المسلم ما يتعامل به بعض معبرِي الرؤى الذين نصبوا أنفسهم معبرِي الرؤى ومفسري الأحلام، تأتيهم الأسئلة من هنا وهناك وينصبون معبرين بالأحلام كاشفين لأسرارها.
لكن؛ وللأسف الشديد! إن كثيراً من هؤلاء لا علم عندهم بالتأويل، لاشك أن الرؤيا حق، وأن تأويل الرؤيا حق، وعِلْم، كما قال عن يوسف: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) [يوسف:101]، لاشك أن علم التعبير علم؛ ولكن كثير من هؤلاء يعبرون عن جهل فتحوا للناس باب الوساوس والأوهام، كل يسأل: رأيت ورأيت ورأيت، وإذا هذا المجيب يقول: كذا وكذا.
إنه يُجيب عن أمور قد تكون غير واقعية، وإنما هي أحاديث النهار يراها بالليل، يجيبه بأجوبة قد تدخل الحزن عليه وعلى بيته، وقد يقول له أنت مسحور، أنت مصاب بالعين، سحرك فلان وفلانة، أصابك فلان بعينه، سحرتك قريبتك، جارك، أخوك، أختك، فلان، فلان، إلى آخر ذلك، فيدخل عليه من الحزن والكآبة، وتسود الدنيا في وجههم من آثار هؤلاء المعبرين الدجالين الذين لا يتقون الله فيما يقولون، وإنما ينصبون أنفسهم فيما ليسوا له.
التعبير حق، والتأويل حق؛ لكن بأسلوب حكيم، بأسلوب شرعي، لا فتح الباب على مصراعيه لهذه الرؤى المتعددة المتنوعة التي يتعبر بها هؤلاء عن أهوائهم وآرائهم.
ومما يؤسف له أيضا ما يسلكه بعض من يتولوا رقية المريض، هؤلاء يرقون المريض ويزعمون أنهم يرقون المرضى بكتاب الله وسنة رسوله، يُدخلون على المريض الأوهام، ويأتيهم المريض مرضا يسيرا فما يخرج من عندهم حتى يزداد مرضه مرضا، وهمّه هما، لماذا؟ لأن هذا الراقي -هدانا الله وإياه- يقول له: أنت مصاب بمس، أنت مصاب بالسحر، أنت مصاب بالعين، أنت وأنت، أنت علاجك يحتاج إلى أشهر عديدة لابد أن تواصل معنا المسيرة ستة أشهر، سبعة أشهر.
لماذا؟ لأنه يبتز منه مالاً كثيرا، ويظلمه، ويحزنه، ويجعله متعلقاً به، يظن أن الشفاء عند هذا الراقي الذي يجذب الأكاذيب والأباطيل، جاءني فلان وجاءتني فلانة، شفي على يدي عدد كبير، خلصتُه من السحر، قضيت على العين، ويخلق من الأكاذيب والأباطيل ما يخدع به الجاهل، ويغوي به الإنسان.
وحتى إنهم يسلكون في تعابير رؤيتهم أمورا تخالف الشرع، فعند التدقيق عليها والنظر فيها ترى كثيراً من هؤلاء سلكوا طرقاً غير مشروعة، وأساءوا الرقي الشرعية، القرآن حق ودواء وشفاء، (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ) [الإسراء:82]، فاتحته شفاء، المعوذتان، و(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، والكرسي شفاء.
المسلم ينبغي أن يرقي نفسه دون أن يلجأ إلى هؤلاء، يرقي نفسه بفاتحة الكتاب وبآية الكرسي وبالمعوذتين و(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) دون أن يلجأ إلى أولئك الذين يحزنونه ويمرضونه ويبتزون ماله، يبيعونه المال المطلوب فيه بأضعاف أضعاف قيمته، بل بعشرات أضعافها، ويجلبون له من الأوهام والكذب والأراجيف ما يحزنه ويؤلمه.
فلتكن ثقتنا بربنا، وتعلقنا بربنا، وأخذنا بالأسباب المشروعة، وبعدنا عن هؤلاء، ولْنكُنْ على حذر من وساوس وخرافات وأباطيل هؤلاء المعبرين والرقاة المرجفين، وفق الله الجميع بما يحبه ويرضى، وحفظنا وإياكم بالإيمان.
أيُّها الإخوة: إنَّ الإيمان الحَقَّ إذا وقع في القلب أنارَ القلب، وانشرح الصدر، وقرَّت العين، واطمأنَّت النفس؛ دينُ الله إذا استقر في قلب المسلم أذهب عنه الأحزان والتّرّهات، وجعله على الطريق المستقيم: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل:97]، فحياة المؤمن طيبة في صحته ومرضه، في فرحه وحزنه.
إن الإيمان الحق هو الذي يسلي المسلم ويؤنسه ويفرحه ويسليه في كل مصائبه، أما هؤلاء فدجالون كذابون، أخذوا أموال الناس بغير حق، ردنا الله وإياهم إلى الصواب، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا -رحمكم اللهُ- أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصَلُّوا -رحمكم الله- على محمد -صلى الله عليه وسلم- امتثالاً لأمركم بذلك ربكمن قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائه الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التَّابِعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك وإحسانك يا أرحمَ الراحمين.
اللَّهمَّ أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمَّر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، واجعل اللَّهمَّ هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين يا رب العلمين.
اللَّهمَّ آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا، اللَّهمَّ وفقهم لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين، اللَّهمّ وفِّقْ إمامَنا إمامَ المسلمينَ عبد الله بنَ عبدِ العزيزِ لما تحبه وترضه، سدده في أقواله وأعماله، وألبسه ثوب الصحة والسلامة والعافية، اللَّهمَّ وفق ولي عهده نايف بنَ عبدِ العزيزِ لكل خير، وأعنه على مسؤوليته، ووفقه للصواب فيما يقول ويعمل.
اللَّهمَّ وفق ولاة أمور المسلمين عموما، وأصلح ولاتهم عموما، ودلهم على كل خير، وأعذهم من مضلات الفتن، إنك على كل شيء قدير، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10]، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف:23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة:201].
عبادَ الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90]، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُرْكم، واشكُروه على عُمومِ نعمِه يزِدْكم، ولَذِكْرُ اللهِ أكبرَ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.