البحث

عبارات مقترحة:

الحي

كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...

الحسيب

 (الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...

الجمال

العربية

المؤلف عبدالله بن عمر السحيباني
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - المنجيات
عناصر الخطبة
  1. حب الإنسان للجمال بفطرته .
  2. غرس الإسلام للجمال في النفس .
  3. بعض تشريعات الإسلام الحاثة على الجمال .
  4. الجمال المذموم والمحمود .

اقتباس

جاء الإسلام لينقذ شعوب الأرض من الوحشية الفاحشة إلى الحضارة الراقية، جاء الإسلام ليعلم الناس الطهارة والنظافة، وحسن اللباس، وجمال الستر، بالإيجاب تارة وبالاستحباب أخرى. تعليمات الإسلام نماذج رائعة للطهر والجمال، فالطهور...

الخطبة الأولى:

الحمد لله المتفرد بالعزة والجلال، والمتنزه عن الأنداد والأمثال، أحمده وأشكره فهو جميل يحب الجمال.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله جاء بالشريعة السمحة، ورفع عنا ربه ببعثته الآصار والأغلال، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل والتابعين ومن تبعهم بإحسان في الأقوال والأفعال.

أما بعد:

فأوصيكم -أيها الناس- بتقوى الله -عز وجل-، فالسعيد من تدبر أمره، وأخذ حذره، واستعد ليوم لا تنفع فيه عبرة.

أيها المسلمون: الإسلام دين الفطرة، موافق للطبائع الإنسانية والغرائز البشرية السوية، وإن من الفطرة حب الجمال والتزين، والحرص على النظافة والتطهر، فالإنسان جسمٌ وروحٌ؛ روحٌ تتذوَّق معاني الجمال.

والله -سبحانه- جميلٌ يحب الجمال، له الجمال المُطلق، جمال الذات، وجمال الصفات، وجمال الأفعال، وامتنَّ بكل جميلٍ، وحثَّ على النظر في كل جميل.

أيها المسلمون: غرس الإسلام حبَّ الجمال في النفس المؤمنة، وأمر القرآن الكريم بالنظر والاعتبار والاستمتاع بمباهِج الزِّينة المبثوثةً في هذا الكون الفسيح، في صُنع الله الذي أتقنَ كلَّ شيء، وفي خلقه الذي أحسنَ كلَّ شيءٍ خلقَه: (مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ) [الملك: 3].

تأملوا في جمال خلق الإنسان الذي خلقَكم فأحسنَ صُورَكم، وجعلَكم في أحسن تقويم.

تأملوا جمال السماء: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ) [الحجر: 16]، (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) [الملك: 5].

وتأملوا جمال الأرض: (حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ) [يونس: 24]، (وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ) [النمل: 60].

تأملوا وانظروا في جمال النبات والثمار: (انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) [الأنعام: 99]، وهو يشملُ النَّظَرين: نظرَ الاعتبار والاستِبصار، ونظرَ التمتُّع بالبهاء والجمال.

تأملوا جمال النخيل: (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ) [ق: 10].

بل تأملوا كيف جعلَ الله الزينةَ والجمالَ في الأنعام قرينةً للمنافع، فقال عزَّ شأنُه: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [النحل: 5 - 6].

لقد جاء القرآن العظيم بالجمال، وحكَى الجمال، ودعا إلى الجمال، وامتلأ بمعاني الجمال، كل ذلك لتمتلِئَ القلوبُ والنفوسُ والأعيُنُ والآذانُ بهجةً وسرورًا في جمال الطبيعة، في سُهولِها ووِهادِها، وبِحارِها وأنهارها، وجبالِها وصحرائِها، وحيواناتها وأطيارِها، وحدائقها وأزهارِها.

إبداع في الجمال يخلب الألباب، جمال يدعو للتفكر والتأمُّل، ويفتح أبوابَ التوحيد والإيمان واليقين.

أيها المسلمون: أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يكون على أجمل حال من الوضاءة والطهارة، فكان في أوائل ما تنزَّل عليه: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر: 4] فامتثلَ لأمر ربِّه، فكان على أكمل الصفات خَلقًا وخُلُقًا، واهتم بالجمال والزينة قولاً وفعلاً وتوجيهًا، يقول الحافظ ابن حجر: "فهو (أي المُصطفى -صلى الله عليه وسلم-) كلُّ الكمال، وجُلُّ الجلال، وجُنَّةُ الجمال -عليه أفضل الصلاة والسلام-".

وصف الصحابة -رضوان الله عليهم- جمال النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان مما قالوه أنه: "كان يتلألأُ وجهُه تلألأَ القمر ليلة البدر".

وكان يُكثِرُ دهن رأسه وتسريح لحيته، وكان لا يفارقه السواك، وقال أنسٌ -رضي الله عنه- فيما رواه مسلم: "ما شممتُ عنبرًا قطُّ ولا مسكًا ولا شيئًا أطيبَ من رِيح رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا مسستُ شيئًا قطُّ ديباجًا ولا حريرًا أليَنَ مسًّا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

وكان يتأذَّى من إهمال حُسن المنظر والزِّينة؛ رأى رجلاً شعثًا قد تفرَّق شعرُه، فقال: "أما كان هذا يجِدُ ما يُسكِّنُ به شعرَه؟!"؛ ورأى أبا الأحوص الجُشميّ وعليه أطمارٌ (يعني: ثيابًا بالِية)، فقال: "هل لك مالٌ؟" قلت: نعم. قال: "من أي المال؟" قال: من كل ما آتى الله من الإبل والشاء، قال: "فلتُرَ نعمتُه وكرامتُه عليك" (رواه أحمد)، وفي الصحيح: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"، وفي صحيح مسلم ومسند أحمد واللفظ له عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخلُ النارَ من كان في قلبِه مثقالُ حبَّةٍ من إيمان، ولا يدخلُ الجنةَ من كان في قلبِه ذرَّةٌ من كِبْر" فقال رجلٌ: يا رسول الله! إنه يُعجِبُني أن يكون ثوبي غسيلاً، ورأسي دهينًا، وشِراكَ نعلي جديدًا" وذكرَ أشياء حتى ذكرَ عُلاقة السوط "فمِن الكِبْر هذا يا رسول الله؟! قال: "لا، ذاك الجمال، إن الله جميلٌ يحبُّ الجمال، ولكن الكِبر من سفِهَ الحقَّ وازدرَى الناس".

يقول ابن القيم: "إن الله جميلٌ يحبُّ الجمال، يتناولُ هذا جمالَ الثياب المسؤولَ عنه في الحديث، ويدخلُ فيه بطريق العُموم الجمالُ في كل شيء".

بعض الجهال والأجلاف يظنون قصد الجمال نقصاً في الرجال، ويحسبون فوضى اللباس وإهمال الهيئة والزينة من تمام التدين وكمال التعبّدِ، وهذا جهل وخروج عن الجادة، ونقص في الفطرة وجمال الأدب.

يروى عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-:

أجد الثياب إذا اكتسيت فإنها

زين الرجال بها تعز وتكرم

ودع التواضع في الثياب تحوبا

فالله يعلم ما تجن وتكتم

فرثاث ثوبك لا يزيدك زلفة

عند الإله وأنت عبد مجرم

وبهاء ثوبك لا يضرك بعد أن

تخشى الإله وتتقي ما يحرم

قال ابن رجب -رحمه الله-: "ولم يزل علماء السلف يلبسون الثياب الحسنة، ولا يعدون ذلك كبراً".

وقال ابن حجر -رحمه الله-: "وَاَلَّذِي يَجْتَمِع مِنْ الْأَدِلَّة أَنَّ مَنْ قَصَدَ بِالْمَلْبُوسِ الْحَسَن إِظْهَار نِعْمَة اللَّه عَلَيْهِ مُسْتَحْضِرًا لَهَا شَاكِرًا عَلَيْهَا غَيْر مُحْتَقِر لِمَنْ لَيْسَ لَهُ مِثْله لَا يَضُرّهُ مَا لَبِسَ مِنْ الْمُبَاحَات، وَلَوْ كَانَ فِي غَايَة النَّفَاسَة".

أيها المسلمون: جاء الإسلام لينقذ شعوب الأرض من الوحشية الفاحشة إلى الحضارة الراقية، جاء الإسلام ليعلم الناس الطهارة والنظافة، وحسن اللباس، وجمال الستر، بالإيجاب تارة وبالاستحباب أخرى.

تعليمات الإسلام نماذج رائعة للطهر والجمال، فالطهور شطر الإيمان، مشروع للصلوات الخمس لتنظف الباطن والظاهر: "مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار، غمر على باب أحدكم، يغتسل منه كل يوم خمس مرات".

وغسل الجمعة واجب على كل محتلم، وأمة محمد -صلى الله وعليه وسلم- تعرف يوم القيامة بين الأمم بغرتها وتحجيلها من آثار الوضوء.

والسواك مطهرة للفم مرضاة للرب، ومن الفطرة قص الشارب والأظافر، ونتف شعر الإبط، وحلق العانة، واجتناب الروائح الكريهة من الثوم والكراث والبصل، والتنظف من بقايا الطعام وفضلاته في الأيدي والأفواه والأسنان مندوب إليه، شرب النبي -صلى الله وعليه وسلم- لبناً ثم تمضمض وقال: "إن له دسماً".

أمر الإسلام بتطهير البيوت والمساجد، وتجميل الشوارع، ومجامع الناس: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الحـج: 26].

"وإماطة الأذى عن الطريق صدقة".

هدف الإسلام من الجمال والطهارة: عافية الناس، وحمايتهم من الأمراض والأوبئة.

والنظافة والطهارة سمة أهل الإسلام، و(اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: 222].

بل لقد أمِرَ بنو آدَم باتِّخاذ زينَتِهم أمرًا مباشرًا، ولا سيّما في مواطن العبادة: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [الأعراف: 31 - 32].

الخطبة الثانية:

أيها المسلمون: الجمال قيمة إنسانية رفيعة، أهملها العقلاءُ حيناً، فتسلط عليها السفهاء، فلم يعرفوا منها إلا تتبع الموضات والصرخاتِ والأشكال الغريبة المريبة، حتى بتنا نرى في مجتمعاتنا خوارم للمروءة باسم الجمال، أي جمال وذوق حين يكون اللباس مبديا لما أمر الله بستره، حين يتقحم الشاب أو الفتاة المحرم، يتتبعون القبيح بحثا عن المليح، بعد أن مرجت العقول وفسدت بعض الفطر.

الجمال المطلوب -يا من تحبون الجمال- لا يعني الركض إلى أسباب الزينة بغير عنان، وملأ اليد منها بغير ميزان، والتفلت من محكمات الشريعة بغير برهان، فليس الجمالُ كما قرر الإسلام في جرِّ الرِّجال للثياب كِبرًا ورياءً، ليس الجمال كما قرر الإسلام بالتختم بالذهب ولبس الحرير وحلق اللحى، وليس الجمال بتبرج النساء بزينتهن كاسيات عاريات فاتنات، الجمال المباح لا ينبغي أن يتجاوز في الإنفاق حد الاعتدال، من الناس من قل نصيبه من البذل في وجوه الخير، وأفرط في حب الزينة ولذائذ الجسم، وقد سأل رجل عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "ما ألبس من الثياب؟ قال: ما لا يزدريك فيه السفهاء، ولا يعيبك به الحكماء".

أيها المسلمون: الجمال في الإسلام لا يرتبِطُ بالمظاهر الحسِّيَّة وحدَها، بل الجمال الحقيقي أن يُجمِّلُ العبدُ قلبَه بالإخلاص لله ومحبَّته والتوكُّل عليه والإنابَة إليه.

الجمال لا توصَف به الصور والأجسادُ فحسب، بل توصَف به الأخلاق والمعاني، وفي القرآن الكريم الصبرِ الجميل، والصّفح الجميل، والهجرِ الجميل.

إن بين طهارة الظاهر وطهارة الباطن ارتباطاً وثيقاً وتلازماً بيّناً، فالتقوى لباس يستر عورات القلوب ويزيّنها والثياب تستر عورات الجسم وتزيّنها: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف: 26].

الجمال جمال الحديث والمنطق، فحديث المسلم طيب مبهج، ومنطقه عذب مؤنس، الجمال نعمةٌ من نعم الله، لكنه لا يرى الجمالَ إلا الجميل.

فكُن جميلاً ترى الوجود كلَّه جميلاً.

واعلم أنه لا معنى لجمال الصورة إذا لم يظهر ذلك على التصرفات والأخلاق، فما فائدة الصورة الجميلة إذا حملتها نفس بغيضة، ولسان سليط، وخلق ذميم؟

وبعد -أيها المسلمون-: فالجمال جمال الروح حين يملأ المسلم قلبه بالبهجة والسرور، وتعلو محياه وقسَماتُ وجهه ابتسامات الرضا والطهر والصفاء.

إنها انعِكاساتٌ لدواخِله، هدوء في نفسه، ونظام في عقله، وتفكير وإبداع، وعمل وإنتاج، والذي لا يُغيِّر ما بنفسِه لا يُغيِّرُ ما حولَه.