العربية
المؤلف | أبو عبد الله الأنصاري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
في بلادنا هذه نتسامع بوقوع بعض الخبثاء والمجرمين في عدد من المنكرات العظيمة والجرائم المفجعة التي تكاد السموات يتفطرن منها وتنشق الأرض وتخِرُّ الجبال هَدَّاً مِن سَبٍّ لله، وسَبٍّ لدينه، واستهتار بشرائعه، أو تضييع لحدوده، واستهانة بفرائضه، كقطع الصلاة، وانتهاك صيام شهر رمضان، أو الوقوع في أفحش الفواحش وأقبحها، وأنكر المنكرات وأخبثها، مِن زنا ولواط، ثم بعد ذلك كله لا نجد من...
معاشر المسلمين: يقول الله -عز وجل-: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [الحج:30]، قال جماعة من المفسرين: حرُماتُ الله هاهنا مَغَاضِبُهُ وما نهى عنه. وقال الليث: حرمات الله: ما لا يحل انتهاكها.
إنَّ الغضب لله -تعالى- ولحرماته إذا انتهكت من أظهر علامات محبة العبد لربه، فمَن أحب الله -تعالى- أحب ما يحبه ربه، وكره ما يكرهه، ورضي بما يرضيه، وغضب لما يغضبه، ولا يزال به حبه لله -تعالى- حتى يرى المنكر الذي يُغضب اللهَ -تعالى- أشَدَّ عليه من وقع السيف على رأسه.
ومن أَجَلِّ علاماتِ تعظيم الله وتعظيم حرماته وحدوده وحقوقه أن يغضب لله -عز وجل- إذا انتُهِكَت محارمُه، وأن يجد في قلبه حزنا وكَسْرَةً إذا عُصِيَ الله -تعالى- في أرضه، ولم يُضطَّلَع بإقامة حدوده وأوامره، ولم يستطع هو أن يغير ذلك.
في بلادنا هذه نتسامع بوقوع بعض الخبثاء والمجرمين في عدد من المنكرات العظيمة والجرائم المفجعة التي تكاد السموات يتفطرن منها وتنشق الأرض وتخِرُّ الجبال هَدَّاً مِن سَبٍّ لله، وسَبٍّ لدينه، واستهتار بشرائعه، أو تضييع لحدوده، واستهانة بفرائضه، كقطع الصلاة، وانتهاك صيام شهر رمضان، أو الوقوع في أفحش الفواحش وأقبحها، وأنكر المنكرات وأخبثها، مِن زنا ولواط، ثم بعد ذلك كله لا نجد من ينكر هذه المنكرات، ولا من يغضب لغضب رب الأرض والسموات، إلا مَن رحم الله، وقليلٌ مَّا هُم.
وأحسن الناس مَن قُصَارَى جهده أن يضرب كفاً بكف ثم يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! وكأننا لسنا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- التي قال الله -تعالى- فيها: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران:110].
المنكر اليوم يزداد في بلادنا بأنواعه والناس لا يحركون ساكناً إلا مَن رَحِمَ الله؛ بل نرى البعض يتعامل مع هذه القبائح والفضائح باستهانة واستهتار، وكأن شيئاً لم يحدث.
أما شأن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فقد أخبرت به عائشة -رضي الله عنها- كما في الصحيحين أن قريشا أهمَّهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: ومن يكلم فيها رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامةُ ابنُ زيد حِبُّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فكَلَّمَه أسامةُ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتشفع في حد من حدود الله؟".
ثم قام فاختطب ثم قال: "إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، هكذا كانت حال نبينا -صلى الله عليه وسلم-.
بل قالت عائشة -رضي الله عنها-: ما انتقم -صلى الله عليه وسلم- لنفسه قطُّ، ولا نِيْل منه شيء فانتقم لنفسه، إلا أن تُنتهك محارمُ الله، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله.
اعلموا -يا عقلاء هذه البلدة- أن السكوت عن الفواحش والمنكرات وتمشية الأمور فيها والتعامل معها بالطرق الهزلية من أكبر أسباب نزول لعنة الله علينا، فقد كان من أعظم ما استحقت به الأمة اليهودية المغضوب عليها لعنة الله سكوتها عن إنكار المنكرات، كما أخبر -جل وعلا- بذلك في قوله سبحانه: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) [المائدة:78].
يقول العلامة المفسر عبد الرحمن بن سعدي في ذلك: من معاصيهم التي أحلت بهم المــَثُلات، وأوقعت بهم العقوبات، أنهم كانوا لا يتناهَوْن عن مُنْكَرٍ فعلوه، كانوا يفعلون المنكر، ولا ينهى بعضهم بعضا، فيشترك بذلك المباشر وغيره، الذي سكت عن النهي عن المنكر، مع قدرته على ذلك.
وذلك يدل على تهاونهم بأمر الله، وأن معصيته خفيفة عليهم، فلو كان لديهم تعظيم لربهم، لغاروا لمحارمه، ولغضبوا لغضبه؛ وإنما كان السكوت عن المنكر مع القدرة موجبا للعقوبة، لما فيه من المفاسد العظيمة.
منها: أن مجرد السكوت، فعْلُ معصية، وإن لم يباشرها الساكت، فإنه كما يجب اجتناب المعصية فإنه يجب الإنكار على من فعل المعصية.
ومنها: أن ذلك يُجرِّئ العصاة والفسَقَة، على الإكثار من المعاصي، إذا لم يُردعوا عنها، فيزداد الشر، وتعظم المصيبة الدينية والدنيوية، ويكون لهم الشوكة والظهور، ثم بعد ذلك، يضعف أهل الخير، عن مقاومة أهل الشر، حتى لا يقدرون على ما كانوا يقدرون عليه أولا.
ومنها: أنه بترك الإنكار للمنكر يندرس العلم، أي: يختفي الحق والمعروف، ويكثر الجهل؛ فإن المعصية مع تكررها وصدورها من كثير من الأشخاص، وعدم إنكار أهل الدين والعلم لها يُظن أنها ليست بمعصية.
ومنها: أن بالسكوت على معصية العاصين، ربما تزينت المعصية في صدور الناس، واقتدى بعضهم ببعض، فالإنسان، مُولَعٌ بالاقتداء بأحزابه، وبني جنسه.
ومنها: فلما كان السكوت على الإنكار بهذه المثابة، نص الله -تعالى-، أن بني إسرائيل -الكفار منهم- لَعَنَهم بمعاصيهم، واعتدائهم، وخص من ذلك هذا المنكر العظيم.
إن عدم الغضب لله والغيرة على حقوق الله إذا ضيعت، ومحارمه إذا انتهكت، مِن أشَدِّ العلامات دلالةً على عَمَى البصيرة، وفساد وانتكاس الفطرة، واسوداد القلب وإظلامه بالمنكَر، وذلك أن عدم الغضب لله إذا انتُهكت محارمُه أمارةٌ على إِلْفِ القلب للمُنْكَر، واعتياده عليه حتى أصبح عنده بمنزلة المعروف، وفي الغالب لا يكون ذلك إلا ممن مردوا على الفجور، فالفاجر لا يرى المنكر منكَراً؛ لأنه من أهله المعتادين عليه.
وقد بين لنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- ذلك في حديث حذيفة -رضي الله عنه- في مسلم قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تُعرَضُ الفِتَن على القلوب كعرض الحصير عُوداً عُوداً، فأي قلب أُشْرِبَهَا نُكِتَتْ فيه نُكْتَةٌ سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيضَ مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مِرْبَادَّاً، كالكُوز مُجَخِّيَاً، لا يعرِفُ معروفاً، ولا يُنْكِرُ مُنْكَرَاً، إلا ما أُشْرِبَ مِن هواه"، أي: يُصْبِحُ قلبُهُ الفاجِرُ مُظْلِمَاً مسودَّاً مِن المنكرات، وكالكأس منكوساً.
فلا يزال الفاجر يقع في المنكر ويتردد عليه حتى يألفه قلبه وتأنس به روحه فلا يعود يراه منكراً، ولا تعود نفسه يستقبحه، وقد تبين بذلك أن من لم يغضب للمنكر فهو في الغالب من أهله، إذ الناس قسمان: أهل معروف وأهل منكر، فأهل المعروف يفرحون بالمعروف ويغضبون للمنكر، والقسم الثاني أهل منكر يفرحون للمنكر ويغضبون للمعروف.
وعدَمُ الغضب لله وتمشية الأمور عند انتهاك حرماته وحدوده من أكبر علامات جهل العبد بربه ودينه، وأنه ما قدر الله حَقّ قدره، وأنه ما رجا لله وقارا.
يقول الإمام ابن القيم وهو يتحدث عن نتائج شجرة الجهل: وأما شجرة الجهل فتُثْمِر كُلَّ ثمرةٍ قبيحة من الكفر والفساد والشرك والظلم، والبغي والعدوان، والجزع والهلع والكنود -وهو الجحود-، والعجَلة والطيش والحِدَّة والفُحش والبِذاء، والشُّحّ والبخل، والغش للخَلق، والكِبْر عليهم والفخر والخيلاء والعجب، والرياء والسمعة، والنفاق والكذب وإخلاف الوعد، والغلظة على الناس، والانتقام، ومقابلة الحسنة بالسيئة، والأمر بالــمُنْكَر والنهي عن المعروف وترك القبول من الناصحين.
وحب غير الله، ورجائه والتوكل عليه، وإيثار رضاه على رضا الله، وتقديم أمره على أمر الله، والتماوت عند حَق الله، والوثوق بما عند حق نفسه، والغضب لها، والانتصار لها، فإذا انتهكت حقوق نفسه لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم بأكثرَ مِن حقه، وإذا انتهكت محارم الله لم ينبض له عِرقٌ غضَبَا لله، فلا قوة في أمره، ولا بصيرة في دينه.
ومن ثمرتها الدعوة إلى سبيل الشيطان، وإلى سُلُوكِ طرُقِ البَغْي، واتباع الهوى، وإيثار الشهَوات على الطاعات، وقيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، وعقوق الأمهات، وقطيعة الأرحام، وإساءة الجوار، وركوب مَركَب الخزي والعار، وبالجملة؛ فالخير بمجموعه ثمر يجتنى من شجرة العلم، والشر بمجموعه شوك يجتنى من شجرة الجهل. اهـ.
الخطبة الثانية:
يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-: وأيُّ دِينٍ، وأيُّ خيرٍ فيمَن يَرى محارم الله تنتهك، وحدودَه تُضاع، ودينَه يُترك، وسنةَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُرغب عنها، وهو باردُ القلب، ساكت اللسان، شيطانٌ أخرسُ.
وهل بَلِيةُ الدينِ إلَّا مِن هؤلاء الذين إذا سلِمَت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المتحزِّنُ المتلمِّظُ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بَذَلَ وتبذَّلَ، وجَدَّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاث بحسب وسعه.
وهؤلاء، مع سقوطهم من عين الله ومَقْتِ الله لهم، قد بُلوا في الدنيا بأعظم بليَّةٍ تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل. اهـ.
وقد ذكر الإمامُ أحمدُ وغيره أَثَرا: "ان الله -سبحانه- أوحى إلى ملَكٍ من الملائكة أن اخسف بقرية كذا وكذا، فقال: يا رب، كيف وفيهم فلان العابد؟ فقال: به فابدأ؛ فإنه لم يتمعَّرْ وجهه فيَّ يوما قط".
يا معاشر الناس: الله يغار إذا انتهكت حرماته أو تُعدي على حدوده، ومن أعظم الأمور التي يغار الله لها ارتكاب الفواحش في الأرض، فعن المغيرة قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: " أتعجبون من غيرة سعد؟ والله! لَأَنَا أغْيَرُ منه، والله أغير مني، ومن أَجْلِ غيرة الله حرَّم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن".
بل؛ في المتفق عليه من حديث عائشة أن الشمس خسفت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالناس فقام وأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام، وذكرت صلاة الكسوف.
قالت: ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبِّروا وصلوا وتصدقوا".
ثم قال: "يا أمة محمد! والله! ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته"، هذا في شأن الزنا، فكيف بالفاحشة التي هي أفحش من الزنا وهي اللواط التي هي تناكح الذكران؟ فكيف إذا اجتمع الزنا واللواط وسب الرب والدين وقطع الصلاة؟ أفلا يغار الله لذلك كله.
يا عقلاء هذه البلدة: لقد باتت هذه البلدة اليوم على خطر عظيم والله؛ لأن المنكر يُرتكب ويزداد، والناس تصمت وتسكت، ومآل هذه الحال إلى الهلكة والوبال، والعقوبة والنكال: (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَال) [الرعد:11].
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: مَن غضِب لله إذا انتهكت محارمه غضب الله له إذا انتهكت محارمه، ومن حَمى حِمى الله حَمى الله حماه، ومن صان حرمات الله صان الله حرماته، ومن انتقم لله انتقم الله له، والجزاء من جنس العمل؛ فمن ضيع حقوق الله ضيعه الله، ومن استهان بحرمات الله استهان الله به، ومن لم يغضب لله وحرماته لم يغضب الله له؛ بل غضب عليه.
وما أعجب كلام الإمام ابن القيم -رحمه الله- عن هذا الصنف من الناس! حيث قال -رحمه الله-: وَمِنْ بَعْضِ عُقُوبَةِ هَذَا: أَنْ يَرْفَعَ اللَّهُ -عز وجل- مَهَابَتَهُ مِنْ قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَيَهُونُ عَلَيْهِمْ، وَيَسْتَخِفُّونَ بِهِ، كَمَا هَانَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَاسْتَخَفَّ بِهِ، فَعَلَى قَدْرِ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِلَّهِ يُحِبُّهُ النَّاسُ، وَعَلَى قَدْرِ خَوْفِهِ مِنَ اللَّهِ يَخَافُهُ الْخَلْقُ، وَعَلَى قَدْرِ تَعْظِيمِهِ لِلَّهِ وَحُرُمَاتِهِ يُعَظِّمُهُ النَّاسُ.
وَكَيْفَ يَنْتَهِكُ عَبْدٌ حُرُمَاتِ اللَّهِ، وَيَطْمَعُ أَنْ لَا يَنْتَهِكَ النَّاسُ حُرُمَاتِهِ؟ أَمْ كَيْفَ يَهُونُ عَلَيْهِ حَقُّ اللَّهِ وَلَا يُهَوِّنُهُ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ؟ أَمْ كَيْفَ يَسْتَخِفُّ بِمَعَاصِي اللَّهِ وَلَا يَسْتَخِفُّ بِهِ الْخَلْقُ؟.
وَقَدْ أَشَارَ -سبحانه- إِلَى هَذَا فِي كِتَابِهِ عِنْدَ ذِكْرِ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ، وَأَنَّهُ أَرْكَسَ أَرْبَابَهَا بِمَا كَسَبُوا، وَغَطَّى عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَطَبَعَ عَلَيْهَا بِذُنُوبِهِمْ، وَأَنَّهُ نَسِيَهُمْ كَمَا نَسُوهُ، وَأَهَانَهُمْ كَمَا أَهَانُوا دِينَهُ، وَضَيَّعَهُمْ كَمَا ضَيَّعُوا أَمْرَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ -تعالى- فِي آيَةِ سُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ لَهُ: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ، وَمَنْ ذَا يُكْرِمْ مَنْ أَهَانَهُ اللَّهُ؟ أَوْ يُهِنْ مَنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ؟. اهـ.
يقول أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-: الجهاد على أربع شعب: على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدق في المواطن، وشنآن الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمن، ومن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافق، ومن صدق في المواطن قضى ما عليه، ومن شنأ الفاسقين وغضب لله، غضب الله له.
يا صلحاء هذه البلدة وعقلاءها: اقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجَرة، وذهبت البركات، وقلت الخيرات، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة، والأفعال الفظيعة، وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات الى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبايح، وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه.
وكل يوم نتسامع بفظيعة من الفظائع، وفجيعة من الفجائع، وما خفي كان أعظم، والناس ترى ذلك وتسمعه، وتدري به وتعلمه، فلا تقشعر الجلود، ولا تغار القلوب، بل على العكس، نجد مَن يُريد أن يفرض على الناس غَضَّ الطرف، والصمت والتغاضي والتجاهل، متناسياً قول الهه -تعالى-: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة:78-79].
فاتقوا الله يا أهل هذه البلدة في بلادكم ومجتمعكم، وخذوا لربكم من أنفسكم، وصونوا حرماتِ الله من أن ينتهكها سفهاؤكم الآثمون، وحدودَه مِن أن يَتلاعب بها فجاركم المتلاعبون، أو يعبث بها الجهلة العابثون.
تأملوا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم"، واتعظوا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده! لَتَأْمُرُنَّ بالمعروف ولَتُنْهَوُنَّ عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدْعُنَّه فلا يستجيب لكم".
خذوا على يد الفاجر، وازجروه عن فجوره، واردعوه عن جرمه، وتعانوا على بر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تعانوا على إثم السكوت عن المجرمين، وعدوان الوقوف والدفاع عن الفاسقين.
حُولوا بين العُصاة وبين أنفسهم الأمَّارة بالسوء، واجعلوا من كل مُسْتَهْتِرٍ بحرمات الله للناس عبرة، قبل أن يجعل الله منكم للناس عبرة، وكم لله في هذه الأرض على مَرِّ الدهر مِن عِبرة! وبذلك تحفظون بلادكم ومجتمعكم، وتصونون أعراضكم وذرياتكم، وإلا؛ فإنْ سَكَتُّم وتخاذلتم واكتفيتم بِهَزِّ الرؤوس، وضعف النفوس، فلا تلوموا إلا أنفسكم.
ألا وصلوا وسلموا...