الظاهر
هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن علي العسكر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان |
الإيمان بالقضاء والقدر زلّت فيه أقدام، وضلّت فيه أفهام، وتحيرت فيه عقول، تنازع الناس في القدر منذ زمنٍ بعيدٍ حتى في زمن النبوة، كان الناس يتنازعون ويتمارون فيه، ولقد روي أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر فنهاهم عن ذلك، وأخبرهم أنه ما أهلك من قبلهم إلا تنازعهم فيه ..
أما بعد: فاتقوا الله -أيها الناس- وأطيعوه، وأخلصوا له العبادة ووحدوه، واعلموا أن أفضل ما وعظ به الواعظون وذكر به المذكرون معرفة الله تعالى بأنه رب العالمين الرحمن الرحيم المالك المتصرف ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، وأن جميع الكون وكل ما فيه خلقه وملكه وعبيده وتحت ربوبيته وتصرفه وقهره.
عباد الله: لقد أخبر -صلى الله عليه وسلم وخبره صدق- عن افتراق أمته إلى ثلاث وسبعين فرقة كلهم ضُلال إلا فرقةً واحدةً، هي التي وافقت هدي الكتاب والسنة، وسارت على نهج المصطفى ونهج أصحابه من بعده، وإن هذا الافتراق شامل لكل أمور الدين والعبادة، ولكن عند إطلاقه يتبادر إلى ذهن قائله وسامعه التفرق في باب التوحيد والاعتقاد؛ لأن هذا الباب هو الباب الذي إذا كُسر لا يمكن إصلاحه إلا بإعادته جديدًا كما كان، فلا يصلح فيه باب فيه ثقوب أو خلل، فأهل الزيغ والضلال في باب الاعتقاد طوائف شتى وفرق عديدة، وكل فرقةٍ فرحة بما عندها.
أما أهل السنة والجماعة الذين ساروا على النهج القويم فإنهم على خطٍ مستقيمٍ في هذا الأمر، بل وفي جميع أمورهم، ولكن باب العقيدة والتوحيد يخصونه بمزيد اهتمام ومزيد عناية؛ لأن الضلال فيه ضلال كبير ليس كالضلال في غيره، والخطأ في التوحيد والعقيدة ليس مثل الخطأ في غيره، وأكثر ما دخل الانحراف على طوائف شتى في هذا الباب بسبب أمرين:
أولهما: الجهل، فكثير هم الذين يجهلون أمور معتقدهم، وقليل من يتحدث عنها، ولو أن الناس إذا جهلوا شيئًا سألوا عنه لبلغوا مرادهم، ولكن على نفسها جنت براقش، ولا ينال العلم مستحٍ ولا مستكبر.
أما السبب الثاني: فهو أن فئامًا منهم أخذوا هذا العلم من غير مصدريه وهما الكتاب والسنة.
العقل –أيها الناس- لا دخل له في باب العقيدة؛ لأنها من باب الغيب، والغيب لا يُعلم إلا بوحيٍ.
إذا كان ذلك كذلك فاعلموا -أيها الناس- أن عليكم أن تعلموا أن دين المرء يقوم على ستة أصول، هي كالعمد للبنيان، لو سقط منها عمود سقط البناء أو لا يزال متخلخلاً.
ستة أصول ينبغي لكل مؤمنٍ ومؤمنةٍ الإيمان بها والإقرار بمضمونها، إيمانًا لا خلل فيه، وإقرارًا لا نقص فيه، لخصها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حينما جاءه جبريل -عليه السلام- في صورة أعرابيٍ غريبٍ فسأله عن الإيمان فقال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره".
الإيمان بالقضاء والقدر زلّت فيه أقدام، وضلّت فيه أفهام، وتحيرت فيه عقول، تنازع الناس في القدر منذ زمنٍ بعيدٍ حتى في زمن النبوة، كان الناس يتنازعون ويتمارون فيه، ولقد روي أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر فنهاهم عن ذلك، وأخبرهم أنه ما أهلك من قبلهم إلا تنازعهم فيه.
ولا يزال الناس إلى يومنا هذا يتجادلون فيه، ولكن الله هدى عباده وفتح على المؤمنين من السلف الصالح بالعدل فيما علموا وما قالوا؛ لأن الحق فيه واضح لا مراء فيه.
عباد الله: الإيمان بالقدر جزء من أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، فيندرج تحت توحيد الربوبية الإيمانُ بقدر الله، ولهذا قال الإمام أحمد: "القدر قدرة الله".
أيها المؤمنون، لا بد لكل مؤمنٍ بالقضاء والقدر الإقرار بأربعة أمورٍ هي معنى القضاء والقدر، من أقرّ بها فقد استكمل إيمانه بهذا الركن، ولا عليه بعد ذلك من تفاصيل العلماء التي دعت إليها مجادلة أهل الباطل.
أول هذه الأمور: العلم بأن الله قد أحاط بكل شيءٍ علمًا، فيؤمن الإنسان إيمانًا جازمًا لا شك فيه بأن الله بكل شيءٍ عليمٍ، وأنه يعلم ما في السموات والأرض جملةً وتفصيلاً، سواء أكان ذلك من فعله أو من فعل مخلوقاته، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم ما مضى وما هو حاضر الآن وما هو مستقبل: (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) [آل عمران:5]، (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام:59]، (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) [ق:16]، (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [البقرة:283]، من أنكر هذا الأمر فقد كفر؛ لأنه ليس ضد العلم إلا الجهل، ومن قال: إن الله جاهل فقد دخل في أمرٍ لا خلاص له منه.
إذا أقرّ الإنسان بهذا الأمر فليعلم بعد ذلك أن كل شيءٍ من أمور الدنيا منذ خلقها الله إلى يوم القيامة مكتوب في اللوح المحفوظ عند الله سبحانه، يقول –صلى الله عليه وسلم-: "إن أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟! قال: اكتب ما هو كائن، فجرى القلم في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة"، يقول الله سبحانه: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [الحج:70]، فكل شيءٍ معلوم عند الله، وهو مكتوب عنده في كتاب.
ولما سئل –صلى الله عليه وسلم- عما نعمله: أشيء قد مضى منه وفرغ؟! قال: "إنه قد مضى وفرغ منه"، وقال له الصحابة: أفلا نتّكل على الكتاب المكتوب وندع العمل؟! فقال: "اعملوا فكل ميسّر لما خلق له"، وتلا قوله سبحانه: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) [الليل:5-10]، رواه البخاري ومسلم.
روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو أنه قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة".
عباد الله: إذا أقرّ المرء بهذا الأمر فليعلم أن كل ما في هذا الكون فهو تحت مشيئة الله، فلا يكون شيء إلا إذا شاءه الله سبحانه، سواء من فعله أو من فعل مخلوقاته: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) [القصص:68]، (وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم:27]، ويقول سبحانه: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ) [الأنعام:137]، (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) [البقرة:253]، (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ) [النساء:90].
أما آخر الأمور الأربعة التي من أقرّ بها فقد استكمل الإيمان بالقضاء والقدر: فهو أن يقر بأن جميع الكائنات مخلوقة لله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [الزمر:62]. فالله -عز وجل- هو الخالق وما سواه مخلوق، ما من موجودٍ في السماوات والأرض إلا والله خالقه، حتى الموت خلقه الله -تبارك وتعالى-، يقول سبحانه: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك:2]. فإذا علم المؤمن ذلك فليعلم أن خلقه أحكم خلقٍ: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) [الفرقان:2]، (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلْ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [لقمان:11].
الإيمان بالقضاء والقدر شريعة جاء بها جميع الأنبياء والمرسلين، فإبراهيم يقول لقومه: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات:96]، وموسى لما جادله فرعون قائلاً: (فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى) [طه:51، 52]، ونوح لما خاطب ابنه كي ينجو من الغرق قال الابن: (سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ) [هود:43]، ولما تعجب زكريا كيف يأتيه الولد وهو طاعن في السن (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) [آل عمران:40]، ومريم البتول تقول: (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران:47].
اللهم اجعلنا ممن ييسَّرون لعمل أهل السعادة، اللهم اكتب لنا الصلاح في الدنيا والآخرة.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، خلق فسوى وقدر فهدى، له مقاليد السماوات والأرض وهو على كل شيءٍ قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، بيده الخلق والأمر، وإليه يرجع الأمر، لا راد لقضائه ولا دافع لأمره، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاعلموا -أيها الناس- أن المؤمن ما دام يسير في هذه الدنيا وهو متمسك بدينه قولاً وفعلاً فلا شك أنه سيجد السعادة في دنياه هذه ويوم القيامة: (فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) [طه:123-126].
عباد الله: إن المؤمن إذا آمن بالقضاء والقدر اعتمد على الله -عز وجل- وحده عند فعله للأسباب؛ بحيث لا يعتمد على السبب نفسه؛ لأن كل شيءٍ بقدر الله تعالى، فالمريض مثلاً يشرب الدواء ويترك الطعام طلبًا للصحة، فيعلم أن هذه الأمور لا دخل لها، وأن الأمر كله لله وحده، هو المنزل له وهو الدافع، وأن المؤمن إنما يفعل الأسباب.
إذا أقر الإنسان بالقضاء والقدر لم يعجب بنفسه عند حصول مراده؛ لأن حصوله نعمة من الله تعالى بما قدره من أسباب الخير والنجاح، فعليه شكر هذه النعمة، وإعجابه بنفسه ينسيه شكرها، فالطالب إذا نجح والتاجر إذا ربح فالشكر لله أولاً لأنه هو الذي يسر لهما ذلك، لا دخل لأنفسهما إلا بسبب تقدير الله -عز وجل-: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) [الشعراء:78-81].
أيها الناس: إذا اعتقد المؤمن عقيدة القضاء والقدر زال عنه القلق والضجر حين يفوت عليه مراده أو يحصل له ما يكره؛ لأنه يعلم أن ذلك مقدر عليه من ملك السماوات والأرض، وما قدر كائن لا محالة، عند ذلك يصبر ويحتسب، لو علم المرضى أن المرض إنما جاء بتقدير الله سبحانه ما جزع مريض من مرضه ولا اشتكى إلى الناس مما أصابه.
إذا آمن الإنسان بالقضاء والقدر حصل له راحة نفسٍ وطمأنينة قلبٍ، فلا يقلق بفوات محبوبٍ أو حصول مكروهٍ.
أيها الناس: لا أحد أطيب عيشًا ولا أريح نفسًا ولا أقوى طمأنينةً ممن آمن بالقدر، ويجمع الله سبحانه كل هذه الأمور فيقول: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [الحديد:22، 23].
اللهم ثبتنا على عقيدة القضاء والقدر، اللهم حقّق لنا ثمرتها، وزدنا من فضلك، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
اللهم صل على عبدك ورسولك محمد...