الإله
(الإله) اسمٌ من أسماء الله تعالى؛ يعني استحقاقَه جل وعلا...
العربية
المؤلف | حسان أحمد العماري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
قال ابن القيم -رحمه الله-: "أعظم الناس خذلانا مَن تعلَّق بغير الله، فإن ما فاته من مصالِحِهِ وسَعادتِهِ وفلاحِهِ أعظمُ مما حصل له ممَّن تعلَّق به، وهو مُعَرَّضٌ للزوال والفوات، ومثَل المتعلِّق بغير الله كَمَثَلِ المُستظِلِّ مِن الحَرِّ والبرد ببيت... لذلك ينبغي أن لا تعلق الآمال إلا به، ولا يطلب إلا منه، ولا يخضع العبد إلا له، ولا يمتلئ قلبٌ إلا بحبه، ولا يطلب رضا إلا رضاه، بهذه...
الحمد لله المتفرد بوحدانية الإلوهية، المتعزز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، والعالم بتقلبها وأحوالها، المانّ عليهم بتواتر آلائه، المتفضل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي أنشأ الخلق حين أراد بلا مُعين ولا مشير، وخلق البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير.
وأشهد أن لا إله إلا الله فاطر السموات العلا، ومنشئ الأرضين والثرى، لا معقّب لحكمه، ولا راد لقضائه،(لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء:23].
وأشهد أن محمداً عبده المجتبى، ورسوله المرتضى، بعثه بالنور المضيء، والأمر المرضي، على حين فترة من الرسل، ودُروس من السبل، فدمغ به الطغيان، وأكمل به الإيمان، وأظهره على كل الأديان، وقمع به أهل الأوثان.
فصلى الله عليه وسلم ما دار في السماء فلك، وما سبّح في الملكوت ملك، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن سار على نهجه واستنّ بسنته إلى يوم الدين.
أما بعـد: عبـــــــاد الله، إن أعظم قوة يلجأ إليها المسلم هي قوة الله، وإن أعظم طريق يسلكه المسلم هو الطريق الذي يوصله إلى الله، وإن أعظم باب يطرقه المسلم فيسأل حاجته هو باب الله، وإن أعظم ركن يستعين به المسلم على أمور الدنيا والآخرة هو التوكل على الله، وإن أعظم الأمنيات التي يسعى المسلم لتحقيقها في حياته لا تتحقق إلا بتوفيق الله ورضاه.
فهو -سبحانه وتعالى- القادر على كل شيء، والذي بيده كل شيء، والذي لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، خلق الخلق بقدرته، وأسبغ عليهم نِعمه الظاهرة والباطنة برحمته، قال تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) [عبس:24-32].
وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهنَّ بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون" رواه مسلم.
وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) [الرعد:2].
لذلك ينبغي أن لا تعلق الآمال إلا به، ولا يطلب إلا منه، ولا يخضع العبد إلا له، ولا يمتلئ قلبٌ إلا بحبه، ولا يطلب رضا إلا رضاه، بهذه العقيدة يعيش الفرد المسلم والمجتمع المسلم حياة سعيدة طيبة بعيدة عن الشرك والقلق والاضطرابات النفسية وكثرة الهموم، مهما كانت الظروف وضاقت الأحوال، فلا يعلق المسلم آماله إلا بالله في أي شيء من أمور الدنيا أو الآخرة.
ورد في السير أنه لما عــاد -صلى الله عليه وسلم- من الطائف وقد رجم بالحجارة من قبل السفهاء والمجانين، وسُدت في وجهة طرق البلاغ لدين الله، لم يُزد على أن قال كلماتٍ يطلب فيها رضا ربه، قائلاً: "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملَّكْتَهُ أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل علي غضبك، أو ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك".
وتقول عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: "فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةً مِنْ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِك،َ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ" رواه مسلم.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "أعظم الناس خذلانا مَن تعلق بغير الله، فإن ما فاته من مصالِحِهِ وسَعادتِهِ وفلاحِهِ أعظمُ مما حصل له ممَّن تعلَّق به، وهو مُعَرَّضٌ للزوال والفوات، ومثَل المتعلِّق بغير الله كَمَثَلِ المُستظِلِّ مِن الحَرِّ والبرد ببيت العنكبوت، أوهنِ البيوت".
وقال أعرابيٌّ لأهل البصرة: مَن سيِّدُ أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن. قال: بم سادَهم؟ قالوا: احتاجَ الناسُ إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم.
أيها المؤمنون عبـاد الله: إنَّ كثيراً من الناس اليوم يشقى طوال حياته ويبذل أقصى جهده، يعلق آماله بقوّته وماله وذكاءه، وربما علق آماله بفلان أو علان من الناس، وربما ارتكب من أجل ذلك الكثير من المعاصي والذنوب والموبقات، وربما من أجل ذلك استحل الحرام وسفك الدماء وهتك الأعراض ليكسب رضاه وينال ما في يده من متاع الدنيا، سواء أكان مالا أو جاها أو سلطانا، قال تعالى: (وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ) [التوبة:62].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن التمس رضا الله بسخط الناس، رضِي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس" صححه الألباني في صحيح الجامع.
وانظروا بأي شيء تعلق ابنُ نوحٍ -عليه السلام-؟ وماذا كان عاقبة أمره؟ قال -تعالى-: (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) [هود:42-43].
وهذا الشاعر بن هاني، وقف أمام المعز الفاطمي يمدحه ويطلب رضاه، فقال :-
ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ | فاحكُمْ فأنتَ الواحدُ القهّارُ |
هذا الذي تُرجَى النجاة ُ بحبِّهِ | وبه يحطُّ الإصرُ والأوزار |
لقد جعله بوصفه هذا إلها من دون الله، فهل نفعه هذا؟ كلا! فقد سخط عليه المعز بعد زمن وحبسه في السجن، وابتلى بمرض فتكلم بأبيات من الشعر يندب حظه ويندم على فعله، يقول فيها :
أبعَيْنِ مُفْتَقِرٍ إليك نظرْتَنِي | فأَهنْتَني وقَذَفْتَنِي مِن حالقِ |
لستَ المَلومَ أنا المَلومُ لأنَّني | علَّقْتُ آمالي بغيرِ الخالق |
قال الإمام أحمد: حدثنا من سمع عطاء الخراساني قال: لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت، فقلت: حدثني حديثاً أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز، قال: نعم، أوحى الله تبارك وتعالى إلى نبيه داوُد -عليه السلام-: "يا داوُد! أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم بي عبدٌ من عبادي دون خَلقي، أعرف ذلك من نيته، فتكيده السماوات السبع ومَن فيهنّ، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلتُ له من بينهن مخرجاً، أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبدٌ من عبادي بمخلوقٍ دوني، أعرف ذلك من نيته، إلا قطعتُ أسباب السماء من يده، وأسخت الأرض من تحت قدمه، ثم لا أبالي بأي أوديتها هلك".
فإذا علقت الآمال بالرزق، فاتجه إلى مَن بيده وحده خزائن السموات والأرض القائل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [فاطر:3].
وإذا علقت الآمال بالصحة والعافية فتوجه بها إلى الله الذي قال عنه خليله إبراهيم: قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ *وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء:78-82].
وإذا علقت الآمال بالطمأنينة والسعادة والأمن، فاتجه بها إلى الله القائل: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُ حْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:1697].
وإذا علقت الآمال بمنعة وقوة تتحصن بها ضدّ ظالم أو عدو جائر، فاتجه بها إلى الله الذي خاطب موسى وأخاه هارون قائلاً: (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه:20].
فإذا تحقق التوجه بالقصد والأمل إلى الله، فالتعامل بعد ذلك مع الأسباب، أسباب الرزق والعافية والقوة والأمن والطمأنينة والعلم والمعرفة، يعتبر تنفيذاً لأمر الله، وجزء لا يتجزأ من توحيد -سبحانه وتعالى- .
لقد جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: يا رسول الله، علِّمْني وأوجِزْ، قال: "إذا قمت في صلاتك فصَلِّ صلاة مودع، ولا تكلم بكلام تعتذر منه، وأجمع اليأس عما في أيدي الناس" رواه ابن ماجة وحسَّنه الألباني.
قال السعدي -رحمه الله- في بهجة قلوب الأبرار: "هذه الوصية توطين للنفس على التعلق بالله وحده في أمور معاشه ومعاده، فلا يسأل إلا الله، ولا يطمع إلا في فضله".
ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "مَن أصابته فاقةٌ فأنزلها بالناس لم تسد فاقته؛ ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى؛ إما بموتٍ عاجلٍ، أو غنىً عاجلٍ" رواه أبو داود وصححه الألباني.
اللهم أهدنا بهداك، ولا تولنا أحداً سواك، قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطـبة الثانــية:
عبــاد الله: إن من أعظم مفسدات القلوب التعلق بغير الله، ومن تعلق بغير الله وكله الله إلى ما تعلق به، وناله من ذلك الخسارة والخذلان في الدنيا والآخرة، قال -تعالى-: (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم:81-82].
وما فسدت قيم الناس، ولا ساءت أخلاقهم، ولا تعدى بعضهم على بعض فسفكت الدماء وهتكت الأعراض، واستبيحت الأموال؛ إلا بسبب فساد القلوب وتعلقها بغير الله من حطام الدنيا.
وإنه لَينبغي للمسلم أن يحسن التوجه ويخلص العمل لله، ويثق بقدرة الله وقوته، وأن جميع المخلوقات تحت مشيئته، وأن طلب رضاه غاية لا تترك، وطلب رضا الناس غاية لا تدرك.
عبــــــــاد الله: إن من أعظم الثمرات التي ينالها العبد عندما يعلق آماله بالله ويتوكل عليه ويثق به الحياة الطيبة، بعيداً عن القلق والاضطرابات النفسية، إلى جانب حب الله له، فيحبه أهل أرضه وسمواته، ويوضع له القبول، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى إذا أحب عبداً دعا جبريل، فقال: إني أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبداً دعا جبريل، فيقول : إني أبغض فلانا، فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً، فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض" رواه مسلم.
وإن من أعظم مظاهر التعلق بالله القيام بالفرائض الشرعية، وذكْر الله كثيرا، وقراءة القرآن، واللجوء إلى الله، وكثرة الدعاء، والاستغاثة به، والثقة به، والصبر على الابتلاءات، والتوكل عليه، وحسن الظن به، واتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والتزام سنته، والدعوة إلى دينه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، واليقين بموعود الله ووعده ووعيده. فاللهمّ رُدّنا إلى دينك رداً جميلا.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
والحمد لله رب العالمين ...