البحث

عبارات مقترحة:

القدير

كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...

المهيمن

كلمة (المهيمن) في اللغة اسم فاعل، واختلف في الفعل الذي اشتقَّ...

الرءوف

كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...

موت الفجأة

العربية

المؤلف إبراهيم بن صالح العجلان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الزهد - الحياة الآخرة
عناصر الخطبة
  1. الأماني رأس مال المفاليس .
  2. طول الأمل ونسيان الآخرة .
  3. كثرة موت الفجأة .
  4. مساوئ فجأة الموت .
  5. كيفية الاستعداد للموت .
  6. كم من حسرات في بطون المقابر .
  7. من جد وجد ومن زرع حصد .
  8. فوائد كثرة ذكر الموت. .

اقتباس

كم يسعى الإنسان في دنياه ويجهد نفسه، فيبذل ويكدح، يخطط ويدبر، ويرسم ويقدّر، قد ملأ قلبه أملاً في العيش ومنَّى نفسه بما تلذذ من مُتَع الحياة، تراه يرصد حساباته ويدقق في تجاراته، يعرق ليجمع، ويجمع ليعطي أو يمنع، أهمه شأن الأولاد، وأقلقه تأمين المستقبل، انشغل لبُّه وقلبه بمشروع ومشروعات، آماله كثيرة، وأمانيه متلونة... إذا انتهى من أمل لاح في خياله أمل آخر، فتراه في يومه وشهره وسنته يتنقل من أمل إلى أمل، وفي لحظة غير محسوبة وساعة غير منتظرة، وبينما هو في صحة وقوة واستقرار وفتوة، هنا وبلا مقدمات ولا سابق إنذار تنزل به لحظة غريبة ومفاجأة رهيبة.. نزل به نازل الموت...

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُتَفَرِّدِ بِالْعِزَّةِ وَالْبَقَاءِ، وَالْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، لَهُ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَسْمَاءِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَأَشْكُرُهُ عَلَى تَتَابُعِ النِّعَمِ وَالْعَطَاءِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، مُزِيلُ الْكَرْبِ، وَكَاشِفُ الْبَلَاءِ..

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَنْذَرَ وَبَشَّرَ، صَلِّ اللَّهُمَّ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الْأَتْقِيَاءِ وَصَحَابَتِهِ الْأَوْفِيَاءِ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا مَا دَامَتِ الْأَرْضُ وَالسَّمَاءُ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ حَقَّ التَّقْوَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَعْمَارَ مَحْدُودَةٌ وَالْأَنْفَاسَ مَعْدُودَةٌ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].

مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: كَمْ يَسْعَى الْإِنْسَانُ فِي دُنْيَاهُ وَيَجْهَدُ نَفْسَهُ، فَيَبْذُلُ وَيَكْدَحُ، يُخَطِّطُ وَيُدَبِّرُ، وَيَرْسُمُ وَيُقَدِّرُ، قَدْ مَلَأَ قَلْبَهُ أَمَلًا فِي الْعَيْشِ وَمَنَّى نَفْسَهُ بِمَا تَلَذَّذَ مِنْ مُتَعِ الْحَيَاةِ، تَرَاهُ يَرْصُدُ حِسَابَاتِهِ، وَيُدَقِّقُ فِي تِجَارَاتِهِ، يَعْرَقُ لِيَجْمَعَ، وَيَجْمَعُ لِيُعْطِيَ أَوْ يَمْنَعَ، أَهَمَّهُ شَأْنُ الْأَوْلَادِ، وَأَقْلَقَهُ تَأْمِينُ الْمُسْتَقْبَلِ، انْشَغَلَ لُبُّهُ وَقَلْبُهُ بِمَشْرُوعٍ وَمَشْرُوعَاتٍ، آمَالُهُ كَثِيرَةٌ، وَأَمَانِيهِ مُتَلَوِّنَةٌ...

مَرْكَبٌ وَمَسْكَنٌ، وَظِيفَةٌ وَجَاهٌ، سَفَرٌ وَسِيَاحَةٌ، إِذَا انْتَهَى مِنْ أَمَلٍ لَاحَ فِي خَيَالِهِ أَمَلٌ آخَرُ، فَتَرَاهُ فِي يَوْمِهِ وَشَهْرِهِ وَسَنَتِهِ يَتَنَقَّلُ مِنْ أَمَلٍ إِلَى أَمَلٍ، وَفِي لَحْظَةٍ غَيْرِ مَحْسُوبَةٍ وَسَاعَةٍ غَيْرِ مُنْتَظَرَةٍ، وَبَيْنَمَا هُوَ فِي صِحَّةٍ وَقُوَّةٍ وَاسْتِقْرَارٍ وَفُتُوَّةٍ، هُنَا وَبِلَا مُقَدِّمَاتٍ وَلَا سَابِقِ إِنْذَارٍ تَنْزِلُ بِهِ لَحْظَةٌ غَرِيبَةٌ وَمُفَاجَأَةٌ رَهِيبَةٌ .. نَزَلَ بِهِ نَازِلُ الْمَوْتِ (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق: 19].

يَا اللَّهُ! لَا مَرَضَ يَشْتَكِي، وَلَا عِلَّةَ تُكَدِّرُ، وَلَا هَرَمَ يُفْسِدُ، هُنَا رَأَى عَيْنَ الْيَقِينِ، مَلَكَ الْمَوْتِ الَّذِي طَالَمَا كَرِهَ سَمَاعَهُ، رَآهُ وَرَأَى مَعَهُ مَلَائِكَةً أُخْرَى يَطْلُبُونَ وَدِيعَةَ اللَّهِ (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) [السجدة: 11].

لَا تَسَلْ حِينَهَا عَنِ الْحَسَرَاتِ، وَتَمَنِّي الرُّجُوعِ لِلدُّنْيَا لِعَمَلِ الصَّالِحَاتِ الْبَاقِيَاتِ، وَلَكِنْ لَا رُجُوعَ هُنَا، وَلَا تَوْبَةَ وَلَا عَمَلَ وَلَا قُرْبَةَ، وَتَبْدَأُ بَعْدَهَا عَمَلِيَّةُ نَزْعِ الرُّوحِ بِكَرْبِهَا وَمُرِّهَا وَغَصَصِهَا، فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ "إِنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٍ" قَالَهَا الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فِي ذَلِكَ الْحِينِ يَعْرَقُ الْجَبِينُ، وَيَظْهَرُ الْأَنِينُ، وَيَشْتَدُّ الْحَنِينُ .. فِي ذَلِكَ الْحِينِ يَتَغَيَّرُ اللَّوْنُ، وَيَيْبَسُ اللِّسَانُ، وَتَتَشَنَّجُ الْأَصَابِعُ، وَيَقِفُ شَعَرُ الْجِلْدِ، وَيَتَحَشْرَجُ الصَّدْرُ، وَيَشْخَصُ الْبَصَرُ..

لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى

إِذَا حَشَرَجَتْ يَوْمًا فَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ

فِي ذَلِكَ الْحِينِ يَتَوَقَّفُ كُلُّ شَيْءٍ، فَلَا قَلْبَ وَلَا عِرْقَ يَنْبِضُ، وَلَا عَقْلَ يُدَبِّرُ، سَكَنَ الْجَسَدُ الْمُسَجَّى فَلَا حِسَّ بَعْدَهَا وَلَا خَبَرَ (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ) [القيامة: 30].

جَاءَ أَجَلُكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ فَأَغْمَضُوكَ وَغَسَّلُوكَ، وَكَفَّنُوكَ وَحَنَّطُوكَ، وَلِلصَّلَاةِ قَدَّمُوكَ، وَعَلَى الْأَكْتَافِ حَمَلُوكَ، ثُمَّ فِي قَاعِ اللَّحْدِ دَفَنُوكَ..

جَاءَ أَجَلُكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ، فَبُكِيَ عَلَيْكَ وَتُرُحِّمَ عَلَيْكَ، قُسِّمَتْ أَمْوَالُكَ، وَسُكِنَتْ دَارُكَ، وَنُسِيَتْ أَطْلَالُكَ، وَمُحِيَتْ آثَارُكَ، وَبَقِيتَ أَنْتَ بَعْدَهَا مُجَنْدَلًا فِي قَبْرِكَ مَعَ أَمَانِيِّكَ، مُرْتَهِنًا بِعَمَلِكَ فِي مَاضِيكَ، لَيْسَ لَكَ إِلَّا مَا سَعَيْتَ (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) [النجم: 39].

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: يَقُولُ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنْ أَمَارَاتِ السَّاعَةِ أَنْ يَظْهَرَ مَوْتُ الْفَجْأَةِ" رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

مَوْتُ الْفَجْأَةِ نِهَايَةٌ مُرَوِّعَةٌ، وَمِيتَةٌ دَاهِمَةٌ بَاغِتَةٌ، تِلْكَ النِّهَايَةُ الَّتِي لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَلَا ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَلَا صَحِيحٍ وَمَرِيضٍ..

تِلْكَ النِّهَايَةُ الَّتِي اسْتَعَاذَ مِنْ مِثْلِهَا الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ أَرْبَعٍ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَدْمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ التَّرَدِّي، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْغَرَقِ وَالْحَرَقِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَالْجَامِعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَرْبَعِ مَعَ شِدَّتِهَا أَنَّهَا تَأْتِي فَجْأَةً..

قَلِّبْ نَظَرَكَ أَخِي الْكَرِيمَ فِي وَفَيَاتِ عَالَمِ الْيَوْمِ تَرَ مِصْدَاقَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، وَفَيَاتٌ مُفَاجِئَةٌ، وَفَيَاتٌ مُبَاغِتَةٌ، سَكَتَاتٌ قَلْبِيَّةٌ، وَجَلَطَاتٌ دِمَاغِيَّةٌ، وَذَبَحَاتٌ صَدْرِيَّةٌ، وَحَوَادِثُ مُرَوِّعَةٌ، وَأَمْرَاضٌ مُجْهِزَةٌ.

تَرَى الرَّجُلَ الشَّدِيدَ لَا يَشْكُو بَأْسًا وَلَا يَئِنُّ وَجَعًا، يَخْرُجُ مِنْ دَارِهِ فَلَا يَرْجِعُ إِلَّا إِلَى دَارٍ أُخْرَى.

تَرَى الرَّجُلَ الصَّحِيحَ السَّلِيمَ يَفْرَحُ بِجَدِيدِ ثِيَابِهِ، فَيُلَفُّ بِأَكْفَانِهِ قَبْلَ أَنْ يَهْنَأَ بِلُبْسِ الْجَدِيدِ.

تَرَى الرَّجُلَ الْمُعَافَى يَنَامُ مِلْءَ الْجُفُونِ فَمَا يَسْتَيْقِظُ إِلَّا عَلَى نِدَاءِ مَلَكِ الْمَوْتِ يَدْعُوهُ لِلرَّحِيلِ.

يَا نَائِمَ اللَّيْلِ مَسْرُورًا بِأَوَّلِهِ

إِنَّ الْحَوَادِثَ قَدْ يَطْرُقْنَ أَسْحَارًا

جَنَائِزُ وَجَنَائِزُ أَصْحَابُهَا مِنَ الشَّبَابِ الْأَصِحَّاءِ، وَلَيْسُوا مِنَ الشُّيُوخِ وَلَا مِنَ السُّقَمَاءِ..

الْمَوْتُ فِي كُلِّ حِينٍ يَنْشُرُ الْكَفَنَ

وَنَحْنُ فِي غَفْلَةٍ عَمَّا يُرَادُ بِنَا

سَهْوٌ وَشُرُودٌ وَإِعْرَاضٌ وَصُدُودٌ (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) [العاديات: 6].

إِنَّ انْتِشَارَ ظَاهِرَةِ مَوْتِ الْفَجْأَةِ -عِبَادَ اللَّهِ- يَدْعُو كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ وَغَفَلَ أَنْ يَقِفَ مَعَ نَفْسِهِ وَقْفَةَ حِسَابٍ وَمُحَاسَبَةٍ، مَاذَا قَدَّمَ لِنَفْسِهِ مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ فِي سَالِفِ الْأَيَّامِ؟! مَاذَا عَنِ الْفُتُورِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالتَّقْصِيرِ فِي السُّنَنِ؟!

يَا لَيْتَنَا ثُمَّ يَا لَيْتَنَا نُعَاتِبُ أَنْفُسَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِي جَنْبِ اللَّهِ! فَكَمْ مِنْ مُحَرَّمَاتٍ هَتَكْنَاهَا! وَفَرَائِضَ ضَيَّعْنَاهَ! وَكَبَائِرَ تَهَاوَنَّا بِهَا!

أَمَا شَعُرْنَا وَاسْتَشْعَرْنَا أَنَّ الْأَفْعَالَ مَكْتُوبَةٌ وَالْأَقْوَالَ مَحْسُوبَةٌ (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف: 80]

يَا لَيْتَنَا ثُمَّ يَا لَيْتَنَا نَتَذَكَّرُ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَهْوَالٍ! أَهْوَالٌ بَعْدَهَا أَهْوَالٌ!!

نَتَذَكَّرُ الْقَبْرَ الْمَحْفُورَ، وَالنَّفْخَ فِي الصُّورِ، نَتَذَكَّرُ الْبَعْثَ وَالنُّشُورَ، وَالسَّمَاءَ يَوْمَ تَمُورُ..

نَتَذَكَّرُ الصِّرَاطَ حِينَ يُمَدُّ لِلْعُبُورِ، فَهَذَا نَاجٍ وَهَذَا مُكَدَّسٌ مَأْسُورٌ.

وَقَفَ خَيْرُ الْبَشَرِ وَسَيِّدُ الْبَشَرِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى قَبْرٍ وَجَثَا وَاسْتَعْبَرَ وَبَكَى، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: "يَا إِخْوَانِي لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا".

وَفِي آخِرِ اللَّيْلِ وَنِهَايَةِ السَّحَرِ تَنْزِلُ الْمَنِيَّةُ بِالصَّحَابِيِّ الْعَالِمِ الْبَحْرِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فَقَالَ لِابْنِهِ: "انْظُرْ هَلْ طَلَعَ الْفَجْرُ" فَقَالَ: لَا، ثُمَّ قَالَ لَهُ بَعْدَهَا: "انْظُرْ هَلْ طَلَعَ الْفَجْرُ" قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ مُعَاذٌ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ لَيْلَةٍ صَبَاحُهَا إِلَى النَّارِ".

وَحَضَرَتِ الْوَفَاةُ مُعَاوِيَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَجَعَلَ يُسَبِّحُ وَيَذْكُرُ اللَّهَ كَثِيرًا، ثُمَّ أَمْسَكَ بِلِحْيَتِهِ وَبَكَى وَقَالَ: "اللَّهُمَّ ارْحَمِ الشَّيْخَ الْعَاصِيَ، ذَا الْقَلْبِ الْقَاسِي، اللَّهُمَّ أَقِلَّ الْعَثْرَةَ، وَاغْفِرِ الزَّلَّةَ، وَجُدْ بِحِلْمِكَ عَلَى مَنْ لَا يَرْجُو غَيْرَكَ، وَلَا يَثِقُ بِأَحَدٍ سِوَاكَ".

مَرِضَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَوْمًا فَبَكَى، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "إِنِّي لَا أَبْكِي عَلَى دُنْيَاكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنِّي أَبْكِي عَلَى بُعْدِ سَفَرِي وَقِلَّةِ زَادِي، وَإِنِّي أَصْبَحَتُ فِي صُعُودٍ مُهْبِطٍ عَلَى جَنَّةٍ وَنَارٍ، وَلَا أَدْرِي إِلَى أَيِّهِمَا يُؤْخَذُ بِي".

دَخَلَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ الْوَاعِظُ الزَّاهِدُ عَلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ فِي قَصْرِهِ الْجَدِيدِ، وَقَدْ أَعْجَبَهُ مُلْكُهُ وَجَاهُهُ، فَأَنْشَدَهُ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ:

عِشْ مَا بَدَا لَكَ سَالِمًا

فِي ظِلِّ شَاهِقَةِ الْقُصُورِ

فَقَالَ الرَّشِيدُ -وَقَدِ ارْتَاحَ وَهَشَّ وَبَشَّ-: هِيهْ، يَعْنِي زِدْ.. فَقَالَ:

يُسْعَى عَلَيْكَ بِمَا اشْتَهَيْتَ

لَدَى الرَّوَاحِ أَوِ الْبُكُورِ

قَالَ: هِيهْ..

قَالَ:

فَإِذَا النُّفُوسُ تَغَرْغَرَتْ

بِزَفِيرِ حَشْرَجَةِ الصُّدُورِ

فَهُنَاكَ تَعْلَمُ مُوقِنًا

مَا كُنْتَ إِلَّا فِي غُرُورِ

فَتَأَثَّرَ الرَّشِيدُ مِمَّا سَمِعَ، وَبَكَى، حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَيَّامُهُ وَحَانَتْ وَفَاتُهُ جَعَلَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ يَا مَنْ لَا يَزُولُ مُلْكُهُ ارْحَمِ الْيَوْمَ مَنْ قَدْ زَالَ مُلْكُهُ".

يَا مَنْ يُعَانِي قَسْوَةَ قَلْبِهِ، وَغَفْلَةَ نَفْسِهِ، عُدِ الْمَرْضَى، وَزُرِ مَغَاسِلَ الْمَوْتَى، اتَّبِعِ الْجَنَائِزَ، وَامْشِ بَيْنَ الْمَقَابِرِ.

أَتَيْتُ الْقُبُورَ فَنَادَيْتُهَا

أَيْنَ الْمُعَظَّمُ وَالْمُحْتَقَرْ

وَأَيْنَ الْمُدِلُّ بِسُلْطَانِهِ

وَأَيْنَ الْقَوِيُّ عَلَى مَا قَدَرْ

تَفَانَوْا جَمِيعًا فَمَا مُخْبِرٌ

وَمَاتُوا جَمِيعًا وَمَاتَ الْخَبَرْ

أَخِي الْمُبَارَكَ: هَا أَنْتَ فِي زَمَنِ الْإِمْهَالِ وَزَمَنِ الْأَعْمَالِ، هَا أَنْتَ فِي كَامِلِ صِحَّتِكَ وَقُدْرَاتِكَ الْعَقْلِيَّةِ، رَحِيلُكَ يَقِينٌ، وَسَفَرُكَ قَرِيبٌ، فَأَعِدَّ لِهَذِهِ الرِّحْلَةِ الطَّوِيلَةِ عُدَّتَهَا وَزَادَهَا، قَبْلَ أَنْ تُدْرِكَ الصَّرْعَةُ، فَتَتَمَنَّى حِينَهَا الرَّجْعَةَ، وَلَكِنْ: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون: 11].

أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ...

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَإِخْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أَمَّا بَعْدُ: فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: الْمَوْتُ مَوْعِظَةٌ نَكْرَهُ سَمَاعَهَا، وَحَقِيقَةٌ نُلْهِي أَنْفُسَنَا عَنْ تَذَكُّرِهَا، وَهَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ مِنْ أَخْطَائِنَا وَتَقْصِيرِنَا وَسَهْوِنَا وَغَفْلَتِنَا (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران: 185].

الْمَنَايَا مِنْ فَجَائِعِ هَذِهِ الدَّارِ، وَلِهَذَا سَمَّاهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بِالْمُصِيبَةِ (فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) [المائدة: 106] وَمَعَ كَوْنِ الْمَوْتِ مُصِيبَةً وَبَلَاءً إِلَّا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ أَوْصَانَا بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ وَتَذَكُّرِهِ "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ، الْمَوْتِ".

وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ فِي تَذَكُّرِهِ صَلَاحًا لِدِينِ الْعَبْدِ وَسُلُوكِهِ وَاسْتِقَامَتِهِ وَعَلَاقَاتِهِ، فَمَنْ ذَكَرَ الْمَوْتَ بِحَقٍّ هَانَ عَلَيْهِ مَا فَاتَ، وَاسْتَعَدَّ لِمَا هُوَ آتٍ، مَنْ تَذَكَّرَ الْبِلَى وَالرَّدَى لَمْ يَأْسَفْ عَلَى دُنْيَا ذَاهِبَةٍ، وَلَنْ يَتَأَفَّفَ مِنْ عَيْشٍ ضَنِينٍ.

وَمَنْ أَدَامَ ذِكْرَ الْمَوْتِ أَيْضًا لَانَ قَلْبُهُ، وَزَكَتْ نَفْسُهُ، فَصَانَ لِسَانَهُ عَنِ الْأَعْرَاضِ، وَحَفِظَ جَوَارِحَهُ عَنِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتِ، وَعَامَلَ خَلْقَ اللَّهِ بِمِثْلِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُعَامَلَ بِهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمَنِ انْتَظَرَ الْمَوْتَ أَيْضًا طَلَبَ الْمَالَ الْحَلَالَ، وَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَكَاسِبِ الْخَبِيثَةِ أَمَدًا بَعِيدًا، فَاكْتَفَى بَعْدَهَا بِالْكَفَافِ، وَاكْتَسَى بِالْعَفَافِ.

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ تَذَكُّرَ الْعَبْدِ لِلْمَوْتِ، وَاسْتِحْضَارَهُ فِي خَاطِرِهِ وَوِجْدَانِهِ لَا يَعْنِي هَذَا أَنْ يَنْعَزِلَ عَنْ حَيَاةِ النَّاسِ، وَيَتْرُكَ الطَّيِّبَاتِ، وَيَنْقَطِعَ عَنِ الْعَمَلِ وَالسَّعْيِ فَيُضَيِّعَ أَهْلَهُ وَمَنْ يَعُولُ ... بَلِ الْمُرَادُ أَنْ يُصَفِّيَ الْمَرْءُ بِهَذَا التَّذْكِيرِ ضَمِيرَهُ مِنْ كُلِّ نَزْوَةٍ وَشَهْوَةٍ، وَأَنْ يَسْتَعِدَّ لِمَا أَمَامَهُ بِفِعْلِ الْخَيْرِ وَالْمُسَارَعَةِ فِي أَلْوَانِ الْبِرِّ، وَمَنْ عَاشَ عَلَى خَيْرٍ مَاتَ عَلَيْهِ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ قَرِيبًا مِنْ مَوْلَاهُ، سَعِيدًا بِطَاعَتِهِ وَرِضَاهُ، فَـ "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ".

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ..