الرب
كلمة (الرب) في اللغة تعود إلى معنى التربية وهي الإنشاء...
العربية
المؤلف | سليمان بن حمد العودة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
وإذا تضافرت الأدلةُ الشرعيةُ على تحريمِ الدخان، واتفقَ الأطباءُ على أضرارِه، وتنادت الهيئاتُ والمنظماتُ للتحذيرِ منه، وأجمعَ العقلاءُ على هدره للصحةِ والمالِ والوقت، فأيُّ شيءٍ يدعو العاقلَ -فضلاً عن المسلم- للتشبُّثِ به؟.
الحمدُ لله ربّ العالمينَ، أحلَّ لنا الطيباتِ ونهانا عن الإسرافِ فيها، وحرّمَ علينا الخبائثَ والإسرافَ فيها من بابِ أولى. وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، تركَ الأمةَ على محجَّةٍ بيضاءَ، وما توفّاه ربُّه إلا والحلالُ بيِّنٌ، والحرامُ بيِّنٌ، أما المتشابهاتُ فالسعيدُ مَن اتقاها واستبرأ لدينهِ وعِرْضِه، ومن ضعُفت همَّتُه ووقعَ في الشُّبهاتِ، فإن ذلك طريقٌ للوقوعِ في المحرماتِ، "كالراعي حول الحِمى يوشكُ أن يرتعَ فيه".
اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلينَ، وارضَ اللهم عن الصحابةِ أجمعينَ، والتابعينَ، ومِن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
إخوةَ الإسلام: ما هذا الداءُ الدي وقعَ في شراكِه فئامٌ من المسلمينَ، وتسلَّلت آثارُه من الكبارِ لتصلَ إلى الصغار، وعمَّت البلوى به، فتضررَ غيرُ المتعاطينَ له حين يُصرُّ المُبتلونَ به على تناوله في مَجْمَع الناس وملتقياتِهم العامةِ، وفي حال سفرِهم أو إقامتِهم؟.
إن هذا الداءَ يبدأ عبثاً أو تقليداً، ثم لا يلبثُ أن يتحولَ إلى عادةٍ متأصِّلةٍ يُخيَّلُ للمُبتلى به أنه لا يستطيع الفكاكَ عنها، وليس الأمرُ كذلك.
إنه وباءٌ يسري في الأمةِ ليخرِمَ مروءتَها وشهامةَ أَبنائِها، ويَشيع فيها نوعاً من التبعيةِ والتقليدِ للآخرينَ، وتُشكلُ مدفوعاتُه ضربةً في اقتصادِها، وهو مرضٌ يسري في جسمِ المدخنِ، فلا يكادُ يَمُرّ بعضوٍ إلا أفسدَه، وربما أقعدَه المرضُ، أو كانت الوفاةُ نهايتَه وسببَه.
أجل؛ لقد قالوا عن التدخين: إنه القاتلُ البطيءُ، وقالوا: إنه بوابةُ الأمراضِ، وقالوا: إن تسعينَ في المائة من وفياتِ الموتِ المفاجئ من المدخنينَ يرجع إلى جلطة الشُّريان، واحتشاءِ عَضَلةِ القلب، وقال أحدُ الأطباءِ: لقد مضى على معالجتي للسرطانِ خمسٌ وعشرونَ عاماً، فلم يأتني مصابٌ بسرطانِ الحنجرةِ إلا مدخِّنٌ!.
وجاءَ في تقريرٍ لأحدِ مراكزِ البحوثِ الأمريكية: إن التدخينَ يؤدي إلى أعلى نسبةِ وفياتٍ في العالم بالمقارنةِ للحروبِ والمجاعاتِ.
وهل تعلم أن خمسةً وتسعين بالمائة من مرضى شرايينِ الساقينِ هم من المدخنين؟.
ومن رأى الطبّ إلى حكمِ الشرعِ، يقول سماحةُ الشيخ ابن بازٍ -رحمه الله-: والدخانُ بأنواعه كلِّها ليس من الطيباتِ، بل هو من الخبائث، لا يجوزُ شربُه ولا بيعُه ولا التجارةُ فيه، كالخمر، والواجبُ على هؤلاء البِدَارُ بالتوبة إلى اللهِ، والندمُ على ما مضى، والعزمُ على ألا يعودَ، ومن تابَ صادقاً تابَ اللهُ عليه.
إن من المؤسفِ -حقّاً- أن يُحاصَرَ التدخينُ، وتقلّ نِسبُ المدخنينَ في البلادِ التي تصنّع (التبغَ) وتصدِّره نتيجةَ حملاتِ التحذيرِ والمكافحةِ، ووضعِ الغراماتِ على الشركاتِ المنتجةِ.
أما بلادُ المسلمين فتظلُّ سوقاً للتصدير، تُزادُ فيها نِسبُ (النيكوتين)، وترتفعُ معدلاتُ المدخنين؟!.
وهنا وقفةٌ للتأمُّل، وحقائقُ لا بدَّ أن نَعِيَها، وندركَ الدرسَ من خلالها، ومن هذه الحقائق: أكتفي بقضيتين، أولا: تعهدْ شركاتُ التبغِ الأمريكية بدفعِ غرامةٍ مقدارُها ثمان وستون وثلاثُمائة بليون دولار، وذلك لتسديدِ الدعاوى القضائيةِ الموجهةِ ضدَّها، وعلاجِ المتضررينَ من التدخين.
ثانياً: تدفعُ شركاتُ التبغ -بليوني دولار سنوياً لتمويلِ برامجَ مكافحةِ التدخين داخلَ أمريكا، والسعي لتخفيضِ نسبةِ التدخين بين المراهقين بنسبةِ 10% خلالَ عشرِ سنوات، وإذا لم يتحقَّقْ ذلك تدفع غرامةً أخرى تصلُ إلى بليوني دولار سنويًّا.
فهل يُصنعُ مثلُ ذلك أو قريبٌ منه في بلادِ المسلمينَ مع هذه الشركاتِ المنتجةِ والمصدِّرةِ؟ وما الأثرُ الذي خلَّفتْه هذه الإجراءاتُ، وجوداً أو عدماً؟.
والجوابُ: في لغةِ الأرقام التي تقول: إن الحربَ التي تشُنها دولُ أمريكا وأوربا على التدخين أدّى إلى انخفاضِ نسبةِ المدخنين، فقد انخفضت مبيعاتُ التدخين في أمريكا ما بين عام تسعينَ وخمسٍ وتسعينَ وتسع مئةٍ وألف للميلاد (1990-1995) بنسبة 4 و5%، وأمريكا اللاتينية بنسبة 11 و2%، وفي أوربا الغربية بنسبة 1 و7%، بينما يختلفُ المؤشرُ في دول آسيا، إذ زادت مبيعاتُ التدخين بنسبة 8 و8%، وجاءت أعلى نسبةِ زيادةٍ في العالم في الشرق الأوسط حيث بلغت 17 و7% ؟!.
إنها حقائقُ مرةٌ، وأرقامُ مذهلةٌ، خلاصتُها تعويضُ البلادِ الإسلامية لخسائرِ شركاتِ التبغ في الدولِ الغربية.
وهنا يلحّ سؤالٌ: ألَدَى شعوبِ هذه الدول الكافرةِ موانعُ محذرةٌ عن التدخين أكثرُ مما لدى أبناءِ وشعوبِ المسلمين؟ أم بلغ أولئك القومُ حداً من الوعي ومستوى من التفكيرِ لم يبلُغْه المسلمونَ بعد؟.
إن لدى المسلمَ من الموانعِ عن التدخين، ونصوصِ الترغيبِ والترهيبِ، ومفاهيمِ الثوابِ والعقابِ –بما يتجاوزُ الدنيا إلى الآخرة- ما لا يوجدُ مثلُه عند الأممِ الكافرةِ، ولكن الفرقَ في مستوى الوعي، والقدرةِ على ضبطِ النفسِ، وعلوِّ الهِمَّةِ، وتحكيمِ العقلِ.
نعم؛ إن المدخنَ لا يجهلُ أثرَ التدخين، ولا ينكرُ أضرارَه، بل لعله أقدرُ من غيره عن التعبيرِ عن هذه الأضرار، لكنه محتاجٌ إلى قرارٍ حازمٍ، وإرادةٍ قويةٍ تضعُ حداً للتسويف، وتنهي الصراعَ بين العاطفةِ ممثلةً في الشهوةِ الآسرة، وبين نداءِ الفطرةِ والعقلِ والدِّين التي تنظم الشهوةَ وتضعُ جسوراً فاصلةً بين الحلالِ والحرام، وتميزُ الضّارَّ من النافع.
كم تُنظّمُ من حملاتٍ توعويةٍ عن التدخين! وقد يكون المدخنونَ أقلّ الناسِ عنايةً بها واستماعاً لبرامجها. وكم نرى أو نسمعُ من ملصقاتٍ عن أضرارِ التدخينِ وضرورة الإقلاعِ عنه! والمؤسفُ حين يكون المدخنونَ أقلَّ من غيرِهم في الوقوفِ عليها والاستفادةِ منها.
على أن ذلك لا يلغي أهميةَ التوعيةِ، ولا يعني الإحباطَ من آثارِ الحملاتِ، فالحقُّ أن لهذه الحملاتِ أثرَها، وقد أقلعَ بتوفيقِ الله أولاً، ثم بسببِ هذه الحملاتِ عددٌ من المدخِّنينَ، وتركوا التدخين إلى غير رجعة.
ولكنا لا نزالُ نخاطبُ فئةً من المدخنين تتصورُ -وهي مخطئةٌ- أن الحملاتِ لا تعنيها، وأن لغةَ الخطابِ لم تلامسْ -بعدُ- شغافَ قلوبِهَا.
مهلاً أيّها المدخن، فأنت المستفيدُ إن أقلعتَ، وأنت الخاسرُ إن أصررتَ، وحسبكَ أن تقدرَ للناصحينَ نُصحَهم، ومن تمام عقلِكَ ومروءتك أن تَفتحَ قلبكَ لمن يُهدي إليك عيوبكَ، ويفتحُ لك نافذةَ الخلاصِ من داءٍ يُقلقك ديناً ودنيا.
أخي المدخن: إني لك ناصحٌ، وعليك مشفقٌ، وكم تُسعدُني وتُسعدُ الناصحينَ غيري حين تُشعرُنا بالاستجابة، وتُعلنُ بينكَ وبين نفسِك أو على ملأٍ من أصحابِكَ مفارقةَ التدخينِ إلى غير رجعةٍ، فإن قلتَ: أعدُكم بالتفكيرِ وسوفَ أسعى جاهداً للخلاص، فلا تنس سلاحَ الدعاءِ ،ولا يَطُل بك أمدُ التسويفِ، فالليالي حُبلى بكلِّ جديدٍ، وما تدري نفسٌ ماذا تكسبُد غداً! وما تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموتُ!.
وكم تُسعدُ أنتَ ونسعدُ من ورائكَ حين تنتقلُ إلى جوارِ ربّك تائباً من كلّ معصيةٍ طالما أصررتَ عليها، واحمدْ ربَّك أنك تنتسبُ إلى دينٍ يدعو إلى التوبةِ ويعظمُ أجرَها، بل وتبدَّلُ فيه السيئاتُ حسناتٍ، ويفرحُ الربُّ ويتحققُ الفلاحُ.
وباسم الإسلامِ والإيمانِ نُذكِّرك بقوله -تعالى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) [الأحزاب:36].
اللهم انفعنا بهدي القرآنِ وسنةِ محمدٍ عليه الصلاة والسلام... أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية:
الحمد ُ لله ربّ العالمين نعمُه علينا لا تُعدُّ ولا تُحصى، ومن يشكر فإنما يشكرُ لنفسِه، ومن كفر فإن اللهَ غنيٌّ عن العالمين.
والصلاةُ والسلامُ على سيدِ الأولين والآخرين، أرشدَ -وهو الصادقُ الأمينُ- إلى نعمةِ الصحةِ والغبنِ فيها، فقال عنهما وعن الفراغ: "نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناسِ: الصحةُ والفراغ".
اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائرِ النبيينَ والمرسلين.
عبادَ الله: وإذا كانت الصحةُ والفراغُ أمانةً، وسوف يُسألُ الإنسانُ ما صنعَ فيهما، فالمالُ والعمرُ أمانةٌ كذلك، وسوف يسألُ المرءُ عنهما: "لا تزولُ قدما عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسألَ عن أربع: عن عُمُرِه فيم أفناهُ، وعن علمه ما فعلَ به، وعن مالِه من أين اكتسبَه وفيمَ أنفقَهُ، وعن جسمِه فيم أبلاهُ".
أخي المدخن: ما موقفُك من هذا الحديثِ والموقفُ عصيبٌ، والمحاسِبُ يحاسبُ على النقيرِ والقطميرِ، ولا يُغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، ولو تقاصرت نَظرتُك عند حدودِ الدنيا -وما ذلك بمحمودٍ- لقيلَ لك: أليسَ المالُ صعباً جمعُه؟ أليست الصحةُ مطلباً يُبحثُ عنه وتُصرفُ الأموالُ لتوفُّرهِ؟ فما بالُك -أيها المدخنُ- تحرقُ مالكَ بنفسِك، بل وتحرقُ معه أحشاءك؟ وأُراكَ تسيرُ في اتجاه معاكس للآخرين، فهم يبحثونَ عن الصحةِ وأنت بطوعِك واختيارِكَ تتشبثُ بما يُسيءُ إليها، ويحرصونَ على المالِ وأنت من المهلكينَ له، والمبذرينَ في إنفاقه.
يا صاحبي: وقل لي بربك: ماذا جنيتَ من التدخين فيما مضى من عمركَ؟ فدينُك لم يسلم، ودنياك في خطر، وأنتَ في وحشةٍ مع جيرانِكَ وأصدقائك، والأمرُ أخطرُ حين يقعُد بك التدخينُ عن شهودِ الصلاةِ مع جماعةِ المسلمين، لأنك تخشى أذاهم برائحةِ التدخينِ، أو تنقطعُ عن زيارةِ وصلةِ أقربائك لأنك تشعرُ بالغربة بينهم وحين تكونُ نشازاً في التدخين.
ألم يمنعْك التدخينُ يوماً من الجلوسِ مع الأخيار، وإن كنتَ تُحبّ الأُنسَ بهم والاستماعَ إلى أحاديثهم، ولكن يمنعك الحياءُ من معاشرتهم؟ ألم يقعد بك التدخينُ عن كثيرٍ من معالي الأمورِ أنت أهلٌ لها، وبك من مقوماتِ الخيرِ ما يرشِّحُك لها؟ ولكنَّ عتابَك لنفسك في الإصرارِ على شربِ الدخانِ حال بينك وبين المساهمةِ فيها.
أيها المدخنُ: وأنت حينَ تتوارى عن الأعين وتتخفَّى عن الأنظارِ في شربِ الدخانِ، فذلك مؤشّرٌ لحيائك -والحياءُ لا يأتي إلا بخيرٍ- ومؤشرٌ لخيريةِ المجتمعِ، إذ ينكرُ هذه المظاهِرَ السلوكيةَ المنحرفةَ، ولكن قُل لي بربّك: ألا يؤلِمُك هذا التخفي؟ ألا تشعر بنقصٍ وأنت تتستَّر؟ وفي سبيل ماذا تُعذّبُ بذُلِّ المعصية، وتُرهقُها بالآم الشعورِ بالذنبِ دونما فائدة؟.
دعني أصارحك وأقولُ: إنك تظلمُ نفسَك وتخطئُ في حساباتك حين تظنّ أن شُربَ الدخانِ يُفرج همّك، أو ينسيكَ آلامَك، أو يسعدك في حياتك، أو يسليك في غربتِك، أو يشعرك بالفرحةِ في مجاملةِ أصدقائك المدخنين، أو تقولُ في نفسِك: إنني عشتُ عليه صغيراً وشبتُ عليه كبيراً ويصعبُ عليّ فراقُه، أو غير ذلك من أسبابٍ وحججٍ يتعلقُ بها المدخنون؟.
واسمح لي -أيها المدخنُ- أن أسألَكَ وأدعُ الإجابةَ لك، هل تُصنّفُ التدخينَ ضمنَ الطيباتِ أم الخبائثِ؟ وهل ترضى لأحدٍ أن يقول عنك أن مشجعٌ على انتشارِ الخبائثِ؟ هل تسمّي اللهَ حينما تبدأ بشربِ الدخانِ وتحمدُه في حالِ انتهائك، كحالك حين تتناولُ الطيبَ من الطعامِ والشراب؟! وهل هناك مأكولٌ أو مشروبٌ تطؤه بحذائك أو ترمي به في مكانٍ غير مشرف كما تصنعُ بالسيجارة؟.
ألست تشعرُ بالذنبِ حين تحملُ الدخانَ في بيتٍ من بيوتِ اللهِ؟ وهل تُفَكّرُ في شربه في أحدِ المساجدِ؟ وماذا تعني هذه المشاعرُ عندك؟ هل حقّقَ لك التدخينُ مكانةً اجتماعيةً أو مكسباً مادياً؟ أو تفوّقاً صحياً؟ هل ترضى أن يتعاطاه أحدُ أبنائك أو إخوانِك أو أقاربِكَ؟.
أخي المدخن: ودعني أذكِّرك بقيمةِ ما تُهلكُ من المال والوقتِ -فلا أشكّ أنك حريصٌ على وقتك ومالِك- فقد قالوا: إن المدخنَ لمدة عشرينَ سنةً إذا كان يدخنُ أربعينَ سيجارةٍ يومياً يتكلّفُ أكثرَ من سبعةٍ وخمسينَ ألفاً، وإذا كانت السيجارةُ الواحدةُ تستغرقُ خمسَ دقائقَ، فإن أربعين سيجارةً تستغرقُ مائتي دقيقة، فهل ترضى أن تقضي أكثرَ من ثلاثِ ساعاتٍ يوميًّا في معصية الله، والعمرُ محدودٌ، والوقتُ أمانةٌ ومسؤوليةٌ؟.
وكم من جياعِ المسلمينَ وفقرائهم ومنكوبيهم يحتاجُ إلى هذا المال الذي تنفقه فيما يضرُّك ولا ينفعُك، وربما استفادت منه دولٌ أو شركاتٌ تُحاربُ بها المسلمينَ؟ فهل يرضيك هذا؟.
إخوةَ الإسلام: ومما يلفتُ النظرَ أن العالمَ كلَّه يتخوفُ من مرضِ الإيدز -وحقَّ لهم ذلك- ولكن منظمةَ الصحةِ العالمية تقررُ أن التدخينَ أخطرُ وباءٍ عرفته البشريةُ في تاريخها الطويل، وأن ضحاياه تفوقُ ضحايا الإيدز، فإذا كانت ضحايا التدخينِ في سنةٍ واحدةٍ تفوق ضحايا الإيدز، ومع ذلك تجدُ العالم كلَّه مرعوباً من الإيدز، بينما يواصلُ المدخنونَ التدخينَ، وإن فتكَ بهم أضعافاً مضاعفة!.
عبادَ الله: وإذا تضافرت الأدلةُ الشرعيةُ على تحريمِ الدخان، واتفقَ الأطباءُ على أضرارِه، وتنادت الهيئاتُ والمنظماتُ للتحذيرِ منه، وأجمعَ العقلاءُ على هدره للصحةِ والمالِ والوقت، فأيُّ شيءٍ يدعو العاقلَ -فضلاً عن المسلم- للتشبُّثِ به؟.
وهنا أسجلُ عدداً من الوصايا عساها تُعينُ على الخلاصِ منه:
أولاً: أقدِمْ -أيّها المسلمُ- على تركه بإرادةٍ قوية، وتذكّرْ أنك لستَ أولَ من تركه، ولن تكونَ الأخيرَ.
ثانياً: ومما يُخففُ عنك من آلامِ الإلفِ والعادةِ أن تتركَه طاعةً لله ورسولِه، وليس لمجردِ التخوفِ من أضراره الدنيوية، وفي هذا يقولُ ابنُ القيم -رحمه الله-: إنما يجدُ المشقةَ في تركِ المألوفاتِ والعوائدِ مَنْ تركَها لغير اللهِ، أما مَن تركها مخلصاً من قلبه للهِ، فإنه لا يجدُ في تركِها مشقةً إلا في أول وهلةٍ؛ ليُمتحنَ أصادقٌ هو في تركِها أم كاذب، فإن صبرَ على تركِ المشقةِ قليلاً استحالت لذة".
ثالثاً: ابتعد -قدر طاقتك- عن مجتمع المدخنين، وعوِّض ذلك بأصحاب خيِّرين.
رابعاً: اشغل وقتَكَ بمشاريعَ خيرةٍ تنسيكَ التفكيرَ في التدخينِ حاضراً، وتسعدُ بها مستقبلاً.
خامساً: راجع عياداتِ مكافحةِ التدخينِ إن احتجتَ إلى ذلك، فلهم في ذلك جهدٌ مشكور.
سادساً: ولا غنى لك -أيها المقلعُ عن التدخينِ- عن الصبر، لا سيّما في الأيامِ الأولى، ولكن تذكرْ أن لذةَ الانتصارِ على النفس والهوى أعظمُ من لذةٍ كاذبةٍ عابرة.
سابعاً: ومن مصلحةِ المدخنينَ وغير المدخنينَ أن يُمنعَ التدخينُ في الأماكنِ العامةِ ويتابعَ منعُه في الدوائِر الحكومية، وفي وسائلِ النقلِ البريةِ والبحريةِ والجوية، فذاك يحدّ من انتشاره، وربما كان داعياً للمدخنين للخلاصِ منه.
ثامناً: وكم هو جميلٌ أن تُعنى مناهجُ التعليمِ -بمراحلِه المختلفةِ- بالتحذيرِ منه بعباراتٍ جيدةٍ، ومعلوماتٍ دقيقةٍ وحديثة.
تاسعاً: وأن تُعنى وسائلُ الإعلام -بكافةِ قنواتِها- بوضعِ برامجَ مفيدةٍ، وصيحاتٍ ومحذرةٍ.
عاشراً: وهمسةٌ للمدخنين وغير المدخنينَ، فمَن بُليَ بشيء من المعاصي فليجاهدْ نفسه على الخلاصِ منها.
وإنني في هذا اليومِ العظيمِ والجمعِ المبارَكِ داعٍ فأمِّنوا: اللهم عافِ كلَّ مبتلىً ووفِّقْه للتوبةِ النصوح، وأبدلْ سيئاته حسناتٍ يا خيرَ مسؤولٍ، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ارحم ضعفَنا وأعِنّا على أنفسِنا الأمارةِ بالسوء، ووفِّقنا لطاعتِك وجنِّبنا معاصيك، اللهم حبِّب إلينا الإيمانَ وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفرَ والفسوقَ والعصيان.